الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
حديث «أفشوا السلام وأطعموا الطعام..» إلى «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب فضل قيام الليل" أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن سلام ، أن النبي ﷺ قال: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام[1]، رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".

هذا قاله النبي ﷺ أول مقدمه المدينة، فذهب عبد الله بن سلام ، ليرى رسول الله ﷺ، ويتعرف صفته فكان أول ما سمعه يقول: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، فذكر لهم ثلاثة أشياء، وهذه الأمور الثلاثة أمور يسيرة، بمعنى أنها لا تحتاج إلى أعمال غير عادية وإلى ثروات لربما لا يملكها أكثر الناس، أو إلى قدر وإمكانات يعجز عنها أكثر الخلق، إنما هي أمور بميسورهم وتحت طوقهم وقدرتهم.

أفشوا السلام بمعنى أذيعوه وأشيعوه بينكم، هذا هو الإفشاء نشر، وذلك أن يسلم الإنسان على من لقيه سواء كان يعرفه أو لا يعرفه، وقد ذكر النبي ﷺ من أشراط الساعة الصغرى أن يكون السلام على المعرفة[2]، يعني أن يسلم على من يعرف.

وإلقاء السلام بين الناس وإفشاء السلام من آكد الأسباب التي تشيع المحبة بين الناس، كما أنه أيضًا يدل على قدر من تواضع صاحبه، بمعنى إذا كان يفشي السلام، يسلم على من عرف ومن لم يعرف على الصغير والكبير والغني والفقير، يسلم على هؤلاء جميعًا فهذا يدل على تطامن النفس، وإنكار الذات، فإن الكثيرين لا تطاوعهم نفوسهم أن يسلموا، وكلما كان الإنسان أكثر تعاظمًا كلما ثقل عليه إفشاء السلام، ولربما أراد أن يرفع يده إذا مر بإنسان ولربما لا تطاوعه نفسه، فيبقى أحيانًا متلكئًا مترددًا وتبقى يده تثقل عن السلام مع أن ذلك لا يكلفه شيئًا لكنها النفس، حينما تضعف وتتثاقل عن مثل هذه المطالب الشرعية الخفيفة، فإذا أفشي السلام بين الناس حصلت المحبة وهذا أمر مشاهد، فإن الذي يمر بالآخرين دائمًا ويسلم عليهم تنجذب إليه القلوب وتحبه، والذي يمر بهم ولا يلق السلام فإن ذلك لا شك أن النفوس تنقبض منه، ولربما يتساءل الآخرون عن مثل هذا الصنيع هل هو من قبيل الكبر أو الباعث له الكبر واحتقار الناس فلا يسلم عليهم؟! أو أن الحامل له سوء التربية؟ أو الحامل له نوع من الجفاء للآخرين؟!

فهو لا يبذل له معروفًا حتى ذلك المعروف الذي لا يكلفه شيئًا وهو إلقاء السلام، والحاصل أن إفشاء السلام إلقاء السلام على من عرفت ومن لم تعرف له دلالات كثيرة جدًا، ولهذا لا يطيقه من ضعفت نفسه وصغرت إما بتعاظم أو بغير ذلك من الأسباب، فهذا هو الأول، وهذا لا يعجز عنه أحد.

وأطعموا الطعام، ما قيده هنا بالكثرة أو بالنوعية الثمينة، لم يقل: أعطوا مثلاً أطايب الطعام، أطعموا الطعام وكل بحسبه مما يجد، والنبي ﷺ نهى أن تحقر المرأة أن تعطي جارتها ولو فرسن شاة، وقال: لا تحقرن من المعروف شيئًا[3]، فلو كان الشيء قليل إذا صنعت طعامًا أو طبخت لحمًا أن تكثر الماء من أجل أن تعطي جارتها من مرقه، فهذا لا يكلفها، فهذا يسد به جوعة، كما أنه يدل على الشعور بالآخرين والاهتمام بهم، ولو كان ذلك الشيء يسيرًا، ولا يقال: إن هذا غني، هذا الجار لا يحتاج، أو نحو ذلك؛ لأن هذا يرمز إلى فضيلة، والإنسان يجد هذا من نفسه حينما يعطيه جاره شيئًا، ولو يسيرًا هو ليس بحاجته، وجاره يعلم ذلك، ولكن هذا يدل على أن جاره ما نسيه، وأنه مستحضر لحقه، فصدر منه مثل هذا التصرف، وكلما أغرق الناس وأوغلوا في المادية والدوران حول النفس والذات كلما تقلصت مثل هذه المعاني واضمحلت، ولذلك تجد أسوأ الصور تلك الصور الموجودة في الغرب المادي، فلو أنك هناك أعطيت أحدًا من الناس طعامًا باعتبار أنه جار، أو نحو ذلك، لربما قدم جملة من الأسئلة بين يدي هذا العطاء، أو الهدية، ما هي الخطوة التالية التي يريد أن يتوصل إليها بسبب هذا الطعام؟!؛ لأنه ما اعتاده.

هناك الإنسان إنما يشعر بنفسه فقط حتى الأولاد إذا بلغوا سنة معينة يجب أن يدفعوا فاتورة البقاء في البيت، فاتورة الطعام الذي يأكلونه، والشراب، والسكنى، وما يستهلك من الكهرباء وما إلى ذلك، أو عليهم أن ينصرفوا من الدار سواء كان بنتًا أو ولدًا، وإذا ذهب الرجل مع صاحبه إلى مكان فأراد أن يشتري طعامًا أو نحو ذلك كل واحد يدفع عن نفسه، منتهى اللؤم، والبخل، والشح، هذه المعاني كلها تجدها مجتمعة في قوم لا يعرفون إلا عبادة الدولار، المادة حينما تسيطر على الإنسان يتحول، ولذلك نسمع عن أخبار الأجداد ونحو ذلك على قلة ذات اليد أنهم كانوا يتواسون بالقليل، ثم بعد ذلك كلما سيطرت المادة على نفوس الناس كلما حصل انقباض مع كثرة العرض الذي في اليد، فيكون الإنسان لا يفكر إلا بنفسه، فالنبي ﷺ قال: أطعموا الطعام، فهذا فيه سد جوعة وحاجة، وفيه أيضًا شعور بالآخرين، وفيه أيضًا كسب لقلوبهم فإن الإحسان يأسر القلوب ولو كان ذلك الإحسان يسيرًا شيء بسيط تقدمه لإنسان معروف بسيط تأسره به، فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول مهاجره لاحظ وهذه عبادات متعدية، إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وقدمها على قيام الليل، قال: وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.

فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي ﷺ لا يعجز عنها أحد؛ لأنها غير محدودة بحد، كل بحسبه.

وصلوا بالليل ولم يذكر لهذه الصلاة أمدًا وعدد الركعات بطولها بصفتها ونحو ذلك، فإذا صلى بالليل صلى من الليل ما تيسر له فقد تحقق فيه هذا الوصف، ثم كانت النتيجة: تدخلوا الجنة بسلام.

وقوله: بسلام يدل على أنها هؤلاء يدخلون الجنة من غير دخول للنار؛ لأن من دخل النار وعذب فيها لم يدخل الجنة بسلام، كما أنه يدل أيضًا على أن من كان بهذه المثابة بهذه الأعمال اليسيرة يدخل الجنة من غير حساب، يناقش فيه، فمن نوقش الحساب عذب[4]، إنما يحاسب حسابًا يسيرًا.

فهنا ليست أعمالاً نعجز عنها، ولكن النفوس أحيانًا تقعدنا عن مثل هذا العمل، وهذه المقامات التي هي في متناول كل أحد.

ثم ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل[5]، رواه مسلم.

فذكر الصيام والصلاة أفضل، فأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، فيجتمع مع الصوم عظمة الشهر فهو من الأشهر الحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل فدل ذلك على أنها أفضل من السنن الراتبة، وأفضل من تطوع النهار كل ذلك فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار قطعًا وحديث: بني له بيت في الجنة من صلى ثنتي عشرة ركعةً[6]، وهذا لا يتقيد بالسنن الرواتب، ولكنه يصدق على من صلى هذه السنن الرواتب، فهنا ذكر أفضل الصيام وأفضل الصلاة، وعرفنا أن صيام شهر الله المحرم، أفضل من صوم شعبان، لاسيما أن شعبان كالتوطئة بين يدي رمضان لتعتاد النفس وتتمرن على الصيام، أما شهر الله المحرم فهو مقصود لذاته ويكفي فيه هذا التنصيص أنه أفضل الصيام.

 ثم أيضًا في الحديث الآخر: فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء[7]، فأفضل الصوم المحرم يعني بعد رمضان بعد الفريضة، وأفضل الصدقة الماء، يعني صدقة تطوع وإلا وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه[8]، فالزكاة أفضل من الصدقة وصيام رمضان أفضل من صيام التطوع في الميزان وأثقل، وهكذا أيضًا في الصلاة الفريضة أفضل من قيام الليل، ولهذا من الناس من لربما يصلي من الليل كما ذكر بعض أهل العلم كابن الجوزي في كتابه: "تلبيس إبليس"[9]: "يصلي من الليل ثم بعد ذلك ينام عن صلاة الفجر يتلاعب به الشيطان فينام ويضيع صلاة الفجر"، وهذا لا شك أنه خطأ وقلب للأمور.

ثم بعد ذلك ذكر أحاديث تتعلق بصفة صلاة الليل هذه؛ لأن الباب يتعلق بهذا كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي ﷺ قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة[10]، متفق عليه.

سيأتي الكلام على بقية الأحاديث لاحقًا إن شاء الله تعالى، والله أعلم.وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (2485)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، برقم (1334)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7865).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (3664)، وقال محققوه: "حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف، لضعف مجالد: وهو ابن سعيد الهمداني".
  3. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم (2626).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، برقم (6536).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل صوم المحرم، برقم (1163).
  6. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، وبيان عددهن، برقم (728).
  7. أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء، برقم (1681)، والنسائي، كتاب الوصايا، ذكر الاختلاف على سفيان، برقم (3665)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1476).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502).
  9. انظر: تلبيس إبليس (ص: 127).
  10.  أخرجه البخاري، أبواب الوتر، باب ما جاء في الوتر، رقم (990)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل، برقم (749).

مواد ذات صلة