الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث عن باب تأكيد وجوب الزكاة، وبيان فضلها، وما يتعلق بها، وقد بينا في المرة الماضية معنى الزكاة، والأصناف التي تكون الزكاة مستحقة لهم، أو يستحقونها، وهنا يقول: تأكيد وجوب الزكاة، فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي واجبة بالإجماع، وأما فضلها فإن الزكاة أفضل من الصدقة قطعًا، وهذه قضية يغفل عنها الكثيرون، وذلك أن كثيرًا من الناس لربما يتصدقون في رمضان، وفي غيره كثيرًا، ولكنهم يجادلون في إخراج الزكاة في بعض الأموال، تجد الإنسان أحيانًا يمتنع من إخراج زكاة الحلي، أو يمنع أهله من إخراج زكاته، أو تمتنع المرأة من ذلك، وتجادل لا عن علم ومعرفة، وإنما لأنها سمعت أن من أهل العلم من يقول: لا زكاة فيه، فمثل هذا حينما يقع من إنسان يتصدق، ويحرص على الصدقة، فهو أمر لا يخلو من غرابة، فلو علم هؤلاء أن الزكاة أثقل في الميزان من الصدقة، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه[1] فالفرض أفضل من النفل، فحينما نصلي العصر مثلاً؛ فإن ذلك أثقل في الميزان، وأفضل بكثير من صلاة النافلة التي نصليها أيًا كانت، في أي وقت من ليل أو نهار، فالفرض أثقل وأعظم، وكذلك في الأمور المالية في الحج والعمرة، وهذا الذي يخرجه الإنسان، وقد سمع أن من أهل العلم من يقول: لا زكاة فيه، فإنه إن أخرجه بنية الزكاة؛ برئت ذمته، فإن كان في حقيقة الأمر لا زكاة فيه؛ وقعت صدقة ولم تذهب، فهو بين مخرج لصدقته على أنها زكاة؛ فتبرأ ذمته إن كان ذلك مما يجب فيها، أو كان ذلك مما لا يجب، فتكون صدقة.

ثم ذكر المصنف -رحمه الله- جملة من الآيات في صدر هذا الباب -كما هو المعتاد- قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ هذا في أول سورة البقرة، وكثيرًا ما يرد الأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة على سبيل الاقتران في القرآن، في مواضع كثيرة وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وأهل العلم تكلموا على هذا المعنى، وقد ذكرته في بعض المناسبات، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- جعل سعادة العبد دائرة بين أمرين: الأول: الإحسان مع الله، ورأس ذلك بإقام الصلاة، فهي صلة بين العبد وربه، حسن الصلة بالله، والأمر الثاني: وهو الإحسان إلى الخلق، ورأس ذلك في الزكاة، فلا شك أن الصلاة تخفف عن الإنسان كثيرًا، وتكون من أعظم أسباب سعادته، وكذلك الزكاة فإن الإحسان إلى الآخرين يبعث على الانشراح، ومن شاء فليجرب ذلك، الذي يشعر بشيء من الضيق، والكآبة، والحزن ما عليه إلا أن يأخذ معه أشياء، ولو يسيرة من الشراب أو الطعام، ويذهب إلى الفقراء بنفسه، ويعطيهم، وإذا رأى إنسانًا متعطلاً في الطريق وقف وساعده؛ فسيجد أن صدره ينشرح لا تتسع له الدنيا بأسرها، وكلما ضاق عطن الإنسان، وشح ما بيده، شح عن إخوانه، كلما ضاق صدره، ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة:11] يفسح لكم في الصدر، ويفسح لكم في الرزق، ويفسح لكم في القبر، ويفسح لكم في الآخرة، كل هذه الأمور، والجزاء من جنس العمل، فالاقتران بين الصلاة والزكاة فيه هذا المعنى، ومعنى آخر ذكره بعض أهل العلم، وهو أن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، فذكر رأس هذا، ورأس هذا؛ ليدل ذلك على ما بعده؛ لأن العبادات منها ما هو بدني، ومنها ما هو مالي.

وعلى كل حال قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ هذا أمر، والأمر يفيد الوجوب، وهذا لا شك فيه، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وما أمروا إلا ليعبدوا الله، هذا التوحيد مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما خلقهم إلا لعبادته، لا لحاجة إليهم، وما خلقهم من أجل أن ينغمسوا في لذات الدنيا الفانية، التي وجدوا فيها من أجل العمل، والتقرب إلى الله ليتوصلوا بذلك إلى النعيم المقيم في الدار الآخرة، فكثير من الناس نسي هذه الحقيقة التي وجد من أجلها، فصار تطلب اللذات في هذه الحياة هو غايته، ومنتهى طليبته، فمن أجلها يقوم، ومن أجلها يقعد، ومن أجلها يدرس، ومن أجلها يفكر، ومن أجلها تتكون له العلاقات مع الآخرين، لا وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ.

الأصل في الحنف هو الميل، أي أنه يميل عن الشرك، وعن عبادة غير الله - ويقال: الحنف لمن كان في ساقيه ميل، أو في قدميه ميل، تميل إحداهما إلى الأخرى، كما قالت أم الأحنف بن قيس: رأس الحلم المعروف، وهو صغير ترقصه، وتقول:

والله لولا حنف في رجله ما كان في فتيانكم من مثله[2]

هذا أصل الحنف، فقيل للميل عن عبادة غير الله وتوحيده، ثم صار ذلك يستعمل في التوحيد، والاستقامة عليه، فإبراهيم إمام الحنفاء، أي الموحدين، فيقال: اعبد الله حنيفًا، أي موحدًا له -تبارك وتعالى- حنفاء، يعني على التوحيد وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وهذا هو الشاهد، لاحظ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ دين القيمة يعني الدين المستقيم دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا بمعنى هذه الآية قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ما هذا الصراط المستقيم؟

الذي ندعو الله في كل ركعة، حينما نقرأ سورة الفاتحة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فسره بما بعده بقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ليس صراط اليهود، ولا صراط النصارى، فهؤلاء يدورون بين الغضب والضلال، نسأل الله العافية، أما نحن معاشر الحنفاء، فإن الله كرمنا وأعزنا بهذا الإسلام، ولذلك فإن من أغرب الغرائب، وأعجب الأشياء أن يتحول أبناء الحنفاء أبناء المسلمين إلى محاكين لمن؟ لأهل الغضب والضلال من اليهود والنصارى، يتقمصون للأسف أخلاق الغربيين، ويتلقون عنهم في الأزياء والفكر والثقافة، ويحاكونهم في لباسهم ومظاهرهم وأنماط حياتهم، مع أن اللائق أن يأخذوا عنهم الحضارة المادية، ولا يحاكونهم في هذه الضلالات، هؤلاء ضلال، هؤلاء كل ركعة نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ هؤلاء هم أهل الغضب والضلال، ونأتي ونترك ما أنعم الله به علينا نحن الذين اصطفانا الله ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا هذه الأمة، ونذهب ونقلد هؤلاء الناس الضلال، ما وجدنا نقلد إلا هؤلاء الضلال الذين في كل ركعة غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ هؤلاء يستحقون من يقلدهم؟ هؤلاء عندهم شيء حتى يقلدوا؟ هؤلاء يعرفون الله ؟!

ولو جلسنا نحكي لكم أيها الأحبة أنماط العبادة عندهم، والأعياد، أمور مضحكة مخزية من البدع والضلالات التي في دين اليهود والنصارى، أشياء لا يصدقها العقل، ولا يقبلها إنسان عاقل في دينهم، لكن للأسف الناس ما يعرفونه، لكن لو قرأوا في الكتب التي تشرح مذاهبهم، والتفرق الذي بينهم، وتكفير بعضهم لبعض، والطقوس، والأنماط، والوسائط مع الله والكنيسة، ودور الكنيسة، وسلق البيض في أعياد معينة، وتلوين البيض، وأشياء يتعبدون الله بها من الأمور التي هي خزعبلات لا يمكن أن تصدر من أجهل المسلمين، موجودة عندهم، عند الغربيين، لكن كثير من المسلمين ما يعرف إلا أنهم يصنعون طائرات وسيارات، ويصنعون أشياء، إلى آخره، فيترك هذه الصناعات، ويقلدهم في لباسهم وأعيادهم، ويشاركهم في هذه الأعياد، ويتكلم بلهجتهم، ويلوي لسانه كأنه أعجمي، والله المستعان.

فالشاهد هنا قال: وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا يعني مستقيمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا فهذا هو الدين القيم الذي هدانا الله إليه، وقال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ هذه الصدقة التي تؤخذ منهم هي الزكاة بالدرجة الأولى، قال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا.

ذكرنا في اليوم الماضي أن الزكاة فيها معنيان: الأول: وهو الطهارة، تطهر النفس من الشح والبخل، وتطهر المال من الأخلاط والأعلاق المشتبه والرديئة التي قد تدخل معه، تطهره، وفيها معنى آخر، وهو النماء الزيادة ما نقص مال من صدقة[3] يزيد المال بالإنفاق في سبيل الله، في الصدقة، في البر، هذه تزيده وتنميه؛ خلافًا لما يتبادر إلى الأذهان أنها تنقصه، والإنسان يحسب آه الآن كم علي زكاة؟ سينقص هذا المال، لا، هي زيادة.

فهنا خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ من الذنوب من الشح من البخل وَتُزَكِّيهِمْ تزكي هذه النفوس؛ فيحصل لها بذلك نماء، بتحقيق هذه التعبدات، وذلك أن المحل لا يكون قابلاً للنماء، أرض تريد زراعتها، حتى تطهر من أضداد ذلك من الشوائب، والنباتات الطفيلية، فإذا كان المحل زاكيًا؛ كان ذلك المحل صالحًا لنماء الزرع، وظهوره، ونمائه، وكثرته، فهنا تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ فيحصل لنا بهذه الزكاة طهارة، ويحصل لنا بذلك نماء، نماء للإيمان، ونماء أيضًا للمال، كل ذلك يحصل فيها، ولهذا الإنسان يفرح أن الله شرع له ما يطهر به المال كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به[4]) ويسر الإنسان، ويستبشر أن الله -تبارك وتعالى- قد شرع لنا ما يحصل به تطهير هذه النفوس وتزكيتها، فإذا أخرج الإنسان الزكاة، يخرج الزكاة، وهو مستبشر، وهو فرح، وهو مسرور، لا يخرجها، وهو مستثقل كما هو حال المنافقين، الذين قال الله عنهم بأنهم ينفقون يخرجون ما يخرجون، ويستشعرون أنه مغرم، فهؤلاء يشعرون أن هذا المال قطع من قلوبهم وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ فالمؤمن لا يشعر أن الزكاة مغرم، لا يشعر كأنها جباية أخذت منه، وإنما يعطيها راضيًا، راجيًا ما عند الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، هذه الآيات التي ذكرها في صدر هذا الباب.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502).
  2. انظر: الفاخر، للمفضل (298).
  3. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، برقم (2325)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5287).
  4. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (5375)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4512).

مواد ذات صلة