الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
حديث «أنتم شهداء الله في الأرض»
تاريخ النشر: ١٣ / شعبان / ١٤٣١
التحميل: 613
مرات الإستماع: 1222

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا باب ثناء الناس على الميت، الثناء عند الجمهور يقال لذكر الأوصاف المحمودة، وذهب بعضهم كالعز بن عبد السلام -رحمه الله- إلى أن الثناء يقال أيضًا للوصف بالشر والسوء[1]، ولربما يستدل لذلك ببعض ما جاء في الأحاديث كما سيأتي، من ذلك حديث أنس قال: مروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي ﷺ: وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال النبي ﷺ: وجبت فقال عمر بن الخطاب : ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض[2] متفق عليه.

فهنا قوله مروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فأطلق الثناء على ذكره بالأوصاف المحمودة، فقال النبي ﷺ: وجبت يعني كما فسره بقوله: الجنة، ثم مروا بأخرى، و"ثم" تفيد التراخي، يعني: مروا بأخرى بعد مدة، فأثنوا عليها شرًا، فأطلق الثناء هنا على ذكره بالأوصاف المذمومة، أثنوا عليها شرًا، فقال النبي ﷺ: وجبت فقال عمر : ما وجبت؟ لأن النبي ﷺ قال: وجبت، وأطلق، لم يقيد، أبهمه، فقال: هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا استعمل النبي ﷺ نفس اللفظة أثنيتم عليه شرًا والأصل في الثناء أنه يكون لذكر الأوصاف، إن قلنا في الحمد: المحامد ثانيا، يعني: الحمد هو ذكره بالأوصاف الحميدة.

ويدل على ذلك الحديث المشهور: إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله تعالى: أثنى علي عبدي[3].

فكما قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- بأن الثناء من التثنية[4] يعني يثني بأوصاف أخرى، فهذا هو الثناء في الأصل على كل حال العلماء يتوسعون، والعرب يتوسعون في الاستعمال، فكثير ما يطلقون الثناء، ويقصدون به ذكره بالأوصاف المحمودة مطلقا.

قال هنا: وهذا أثنيتم عليه شرًا، فوجبت له النار ثم علل ذلك بقوله: أنتم شهداء الله في الأرض متفق عليه.

يحتمل أن المخاطب بذلك أنتم شهداء الله هم الصحابة ويحتمل أنه عموم الأمة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- وهذا فيه تزكية لهذه الأمة، وشرف لها، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فهذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا.

فالرسول ﷺ يشهد على الأمة، والأمة شاهدة على الأمم بما بلغها نبيها ﷺ أن هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بلغوا أممهم أحسن البلاغ، وأتمه، فيشهدون بناء على ذلك، وهنا قال: أنتم شهداء الله في الأرض وهذا أيضًا يدل عليه ما جاء في الحديث الآخر، ويأتي -إن شاء الله تعالى- في موضعه من الأبواب في هذا الكتاب المبارك، وهو الحديث الذي يذكر فيه النبي ﷺ محبة الله للعبد حيث أن الله يأمر جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض[5].

وهذا معنى مشهور، وهو الأقرب -والله تعالى أعلم- تفسير قوله -تبارك وتعالى- في صفة موسى لما قال له ربه -تبارك وتعالى- وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي قالوا معناه، وإن كان ذلك ليس محل اتفاق، ولكن هذا هو الأقرب -والله أعلم- في تفسيره، معناه أنه لا يراه أحد إلا أحبه، فإذا وضع القبول لعبد في الأرض أحبته القلوب، وأقبلت عليه، وإن لم تطلع على عمله، وإذا لم يوضع له القبول -نسأل الله العافية- فمهما تزين، وتجمل بالكلام، أو الفعال فإن قلوب الخلق تنفر عنه غاية النفور، وهذا أمر مشاهد.

من الناس من تحبه بمجرد رؤيته، ولقياه، ومن الناس من لا تستطيع النظر إليه -نسأل الله العافية- وأنت لا تعرف عمله، ولا تعرف شيئا عن حاله، ولم تسمع عنه شيئا إلا أنك لا تستطيع أن تنظر إليه، ولا تطيق الجلوس معه، وإنما تطلب الله -تبارك وتعالى- السلامة، فهذا كله يرجع إلى ما ذكر -والله تعالى أعلم-.

أنتم شهداء الله في الأرض، ومن هنا أخذ بعض أهل العلم هكذا، وليس ذلك من قول جميعهم، لكن بعض أهل العلم فهم هذا، قالوا: يحسن إذا مرت جنازة مسلم أن يقولوا خيرًا على كل حال.

 وذكر حديث أبي الأسود، وهو ظالم بن عمر من التابعين، وقيل في اسمه غير ذلك، وهو من المخضرمين يعني أدرك الجاهلية، وأدرك الإسلام إلا أنه لم يلق النبي ﷺ فهو في عداد التابعين.

يقول: قدمت المدينة فجلست إلى عمر بن الخطاب وعمر بن الخطاب هو الذي سأل النبي ﷺ في الحديث السابق ما وجبت، يقول أبو الأسود: فمرت بهم جنازة، فأثني على صاحبها خيرا، فقال عمر : وجبت، ثم مر بأخرى فأثني على صاحبها خيرا، فقال عمر : وجبت، ثم مر بالثالثة، فأثني على صاحبها شرا، فقال عمر: وجبت، فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي ﷺ: أيما مسلم.

لاحظ هنا ذكر معنى آخر معنى زائد، يعني ما ذكر نفس الحديث السابق هناك نفس الموقف قال النبي ﷺ أنتم شهداء الله في الأرض لكن هنا أفادنا بفائدة أخرى، وحديث أبي الأسود في صحيح البخاري، قال: قلت كما قال النبي ﷺ: أيما مسلم، شهد له أربعة بخير، أدخله الله الجنة فقلنا: وثلاثة، قال: وثلاثة فقلنا: واثنان، قال: واثنان ثم لم نسأله عن الواحد[6] رواه البخاري.

 فهذا من واسع رحمة الله -تبارك وتعالى- وعظيم ألطافه بهذه الأمة، إذا أثنى عليه اثنان دخل الجنة، أثنوا عليه، والمقصود أهل الإيمان، يعني يثني عليه أهل الخير، والصلاح، والإيمان، لا أن أهل الشر يثنون على صاحبهم لما هو فيه من سوء، ومخالطة لهم على فسادهم، وشرهم، ومعاصيهم ليس هذا هو المقصود، وليس المقصود أنهم يثنون عليه بأوصاف غير محمودة، يثنون عليه بأنه لاعب ماهر مثلا، أو أنه مغني يجيد الغناء، أو أنه مثلاً يثنون عليه بأنه حاذق في المكاسب، والتجارات، وما إلى ذلك، لا. أثنوا عليه بالصلاح، والخير، والبر، والمعروف، والإيمان.  

ثم أيضًا ينبغي للإنسان أن يعتبر هذا المعنى، ويعتبر غيره، ألسنا إذا ذهبنا إلى أحد نعزيه، ونواسيه لربما لا نسمع إلا مثل هذه الأمور أنه كان إذا أذن ذهب إلى المسجد، أو أنه إذا كان سمع بفقير أعطاه، إذا سمع بمحتاج واساه، إذا كان...

هذه الأوصاف التي تذكر ما يقال: فلان والله ما شاء الله عليه بنى برجا، وعنده ما شاء الله تسع عمارات، وعنده ما شاء الله ناطحات، وعنده ما شاء الله سيارات، وعنده ما شاء الله أسواق، وعنده ما شاء الله مزارع، وعنده ما شاء الله دواجن، وعنده مفروشات، ما يذكر هذا إذا مات الإنسان إطلاقا، إنما يقال: ما شاء الله كان في الروضة وراء الإمام في المسجد حتى صلاة الفجر، كان إذا سمع النداء ترك الذي في يده وذهب، هذه الأوصاف التي يذكرها الناس، فينبغي للإنسان أن يترك بعده أثرًا حسنا أن يعمل، يريد ما عند الله -تبارك وتعالى- فهنا قال: واثنان قال: ثم لم نسأله عن الواحد.

بل جاء في حديث أبي هريرة عند الإمام أحمد، وغيره أن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه الأدنين[7] وفي رواية: يشهد له ثلاثة[8] أو كما في الحديث، وهذا الحديث حسنه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- لغيره، ولا يخلو من ضعف، لكن على كل حال حسنه الشيخ -رحمه الله-.

فهذا الحديث يشهد له ثلاثة أبيات، وفي رواية أربعة من جيرانه الأدنين إلا قال الله: قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا، وغفرت له ما أعلم فنسأل الله أن يفيض علينا من ألطافه، وبره، وجوده، وإحسانه، وكرمه، ومغفرته، وأن يتجاوز عنا، وعن والدينا، وإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي (3/65).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم (1367)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى، برقم (949).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (395).
  4. انظر: جامع الرسائل، لشيخ الإسلام (2/68)، ودرء تعارض العقل، والنقل، لشيخ الإسلام (4/16).
  5. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3209).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم (1368).
  7. أخرجه أحمد في مسنده، برقم (13541) وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، برقم (3015).
  8. أخرجه أحمد في مسنده، برقم (8989) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (5759).

مواد ذات صلة