الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا..» ، «لولا أنكم تذنبون..»
تاريخ النشر: ١٠ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 1501
مرات الإستماع: 6662

والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد أورد المصنف -رحمه الله- في باب الرجاء:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله  -تعالى، فيغفر لهم[1]رواه مسلم.
لولا أنكم تذنبون

ثم أورد بعده:

حديث أبي أيوب، خالد بن زيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقًا يذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم[1]رواه مسلم.

هذان الحديثان معناهما واحد، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- من أسمائه: التواب، ومن أسمائه: الغفور، ومن أسمائه: الرحمن والرحيم، وما شابه ذلك من الأسماء الحسنى، وأسماؤه -تبارك وتعالى- تظهر في أمره، كما تظهر أيضاً في خلقه، فمن مقتضى هذه الأسماء أن يوجد من يذنب، فيغفر له، ويوجد من يستغفر، فيغفر له، ويوجد من يتوب، فيتوب الله عليه، فلو لم يوجد من يذنب، ولم يوجد من يستغفر، ولم يوجد من يتوب، فما هو الأثر الذي سيكون لاسمه -تبارك وتعالى: التواب، والغفور، والرحمن، والرحيم، وما شابه ذلك؟.

كما أن هذه الأسماء أيضاً تقتضي وجود قوم يعاقبون، ويؤخذون، وأقوام يهلكهم الله -تبارك وتعالى، فتظهر معاني أسمائه -تبارك وتعالى، فتظهر معاني: الجبار، والقوي، والقاهر، والقدير، وما شابه ذلك، فاقتضت حكمته -تبارك وتعالى- أن يوجد هذا وهذا، يوجد من يعاند ويكابر، ويكون محادًّا لله -تبارك وتعالى- ولرسله -عليهم الصلاة والسلام، فيؤخذ، فتظهر فيه معاني أسماء الله -تبارك وتعالى، كالقدير، والجبار، ونحو ذلك، ويوجد آخرون يوفقهم الله للتوبة والاستغفار، فيستغفرون، فيغفر لهم، فتظهر فيهم آثار الأسماء الأخرى، وهكذا.

فهذا هو النظر الذي ينبغي أن يكون في هذا الحديث، ونحوه من الأحاديث، فهو من أحاديث الرجاء، وليس معنى ذلك: التشجيع، تشجيع الناس من أجل أن يقدموا على معصية الله، ويجترئوا عليها، فإنه توجد نصوص أخرى زاجرة، وهي مخوفة، وفيها الوعيد الشديد، ويوجد من الآيات ما فيه الكفاية في هذا المعنى، ولكن هذه الأحاديث حينما يُخاطَب بها من يظن أنه يستطيع أن يصل إلى حال المثالية، كما يقال، ومرتبة الكمال التي لا يخطئ معها، فإن هذا أمر متعذر، نقول له: هذا لا يمكن، لابد من وجود تقصير، لابد من وجود إساءة، لابدّ من وجود ذنب، لا يستطيع الإنسان أن يشكر نعمة واحدة من نعم الله عليه، والناس يخطئون، وكل ابن آدم خطاء، فالعصمة ليست لأحد.

ولهذا نسمع في كثير من الأحيان دعاءً، يقول القائل مثلاً: اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، واجعل تفرقنا بعده تفرقًا معصومًا، هذا اعتداء في الدعاء، كيف يكون التفرق معصومًا؟ هل يمكن للناس أن يُعصموا من الخطأ، والذنب، والإساءة؟ هل يمكن هذا؟ لا، هذا ما يمكن، فلابدّ من وقوع الخطأ، فهنا في مثل هذا المقام نقول لهذا الإنسان، أو لمن يظن أنه سيصل إلى مستوى من النزاهة والطهر بحيث يكون كالملَك، لا يقع منه إساءه، ولا ذنب، ولا خطيئة، نقول: لا.

هذه النصوص تدل على أنه لابدّ أن يقع ذلك؛ لتظهر معاني أسماء الله الحسنى، لكن ليس معنى هذا أن يتعمد الإنسان الإساءة، ويتعمد الخطأ، فهذا عدوان، والواجب على الإنسان أن يلزم حدود الله -تبارك وتعالى، وإلا فما معنى التقوى وهي أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقاية؟، فهذه النصوص أحيانًا يتضرر بعض الناس منها، هي لا شك أنها علم، وأنها خير، ولكن من الناس من لا يأخذ ذلك بطريقة صحيحة، فيتضرر، للأسف يسمع مثل هذه الأحاديث، فتجرئه على معصية الله ، أما الصحابة فلم يأخذوها بهذه الطريقة، فما اجترءوا، بل الذين بشرهم النبي ﷺ بأعيانهم، بشرهم بالجنة، ما اجترءوا، وإنما كانوا في غاية الخوف.

هذه الأحاديث قيلت لأقوام، وأحدهم يريد أن يعتزل النساء، والثاني لا يأكل اللحم، والثالث يقوم ولا ينام، والرابع يصوم ولا يفطر، هؤلاء الذين خوطبوا بهذا؛ لأنه لا يمكن للبشر أن يصلوا إلى مستوى النزاهة والطهر، والتخلي على كل دنس وخطيئة وذنب، لابد من وقوع التقصير، لكن الذي يضره سماع هذا، أو يضره سماع العلم للأسف هو من يأخذه بغير مأخذه الصحيح، فيكون ذلك مُجرِّئًا له، يقول: ما دامت القضية بهذا الشكل، الحمد لله، إذًا لماذا تخوفوننا؟ ولماذا تذكرون النصوص التي فيها الوعيد والنار والله قد ذكر هذه أو النبي ﷺ قد ذكر هذا الحديث؟، فيجترئ على معصية الله ، وليس هذا هو المراد من إيراد هذه النصوص؛ ولذلك هذا مثلما قال النبي ﷺ، لما تخوف على أصحابه من زهرة الدنيا، لما قال النبي ﷺ: ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، كما فتحت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم[2]، لما سمعوا ذلك من النبي ﷺ سأله رجل قال له: يا رسول الله، أوَيأتي الخير بالشر؟، سمعت تحذيرًا من فتنة الدنيا والمال، أوَيأتي الخير بالشر؟، فسكت النبي ﷺ ثم بعد ذلك أجابه، وقال: أين السائل؟ ثم قال: إن الخير لا يأتي بالشر، ولكن مما أنبت الربيعُ ليقتل حَبَطًا أو يُلِم، يعني: يقارب ويوشك، إلا آكلة الخضرة، أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت الشمس، فاجترّت، وثلطت، وبالت.

فهذا الحديث وضّح المقصود، الآن المطر خير، ويخرج به الربيع، لكن توجد بعض البهائم تقبل عليه بنهم وشره، فتأكل أكثر من طاقتها، حتى ينتفخ بطنها، ثم تموت، يصيبها البشم، وهذا معروف في الدواب، ينتفخ بطنها، حتى إذا استطلق، فإنه يستطلق إلى حد أن تموت هذه البهيمة، فالخير لا يأتي بالشر، ولكن من الناس من لا يأخذ الشيء بالطريقة الصحيحة، قال النبي ﷺ: إلا آكلة الخضرة، هذا مثل في البهائم، تأكل الشيء الجيد الأخضر، ثم تستقبل الشمس وتجتر، أي: تعيد الذي في الكرش، تعيده مرة ثانية، ثم بعد ذلك يقال له: اجترار، أي: تمضغه، ثم بعد ذلك يرجع إلى جوفها، فإذا صرفته فعند ذلك تأكل مرة أخرى، ثم تجتر، أما التي تأكل وتأكل حتى يمتلئ بطنها، فهذه تموت، ومن الناس من يكون بهذه المثابة، يقرأ مثل هذه النصوص، ويقول: أين أنتم؟ ويجترئ على معصية الله، يقرأ في بعض الأشياء وتقول له: ليتك ما قرأت، وليتك ما طلبت العلم، وليتك ما عرفت.

فمثلا: تجد هذا الإنسان مر عليه أو تربى منذ نعومة أظفاره على أن يشرب جالسًا، ويأكل وهو جالس، فلما يبدأ يطلب العلم، يأتي ويقرأ أثر عليٍّ أنه شرب قائمًا وقال: إن أناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم وإني رأيت النبي ﷺ فعل كما رأيتموني فعلت[3]، ويقرأ: أن النبي ﷺ شرب من شَنٍّ معلَّق، وهو قائم[4]، ويبدأ يقول: إذن هذا يجوز، ويصير يتعمد الشرب قائما، مع أن النبي  ﷺ قال: لا يشربن أحد منكم وهو قائم[5]، ولما سئل عن هذا قال: أترضى أن تشرب معك هرة؟، قال: لا، قال: يشرب معك ما هو شر من ذلك[6]، يعني: الشيطان، وقال للرجل الذي شرب قائمًا قال: قِه[7]، ويأتي بعض الناس ويسمع الحديث: أن النبي ﷺ شرب قائما[8]، ويمحو كل ما تعلمه في السابق، ورباه أبوه عليه، فصار العلم يضره.

ومثلاً: يقرأ قول الله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، ويقرأ قولا لبعض السلف أن اللمم هو أن يقارف فاحشة مرة، أو نحو ذلك يعني: قليلاً، هذا قال به بعض السلف، لكنه قول مرجوح، قول ضعيف، فيقرأ ويقول: هذا الذي ترجح عندي، فيسول لنفسه أن يقارف فاحشة، ويقول: إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32]، فتهون في نفسه المعصية.

فانظر إلى هذا، وانظر إلى الآخر، انظر إلى الإنسان الجاهل أحيانًا يكون أبصر من هذا، ولعلي ذكرت في بعض المناسبات أني أعرف رجلاً فيما يحدثني عنه قريبه: أنه لم يترك شيئًا من ألوان الرزايا والبلايا والذنوب والفواحش والفجور والمخدرات، بجميع أنواع الفواحش إلا يفعلها، وهو لا يصلي أصلاً، فإذا خسف القمر اغتسل، وأغلق على نفسه في غرفة، وقال: لا أحد يجيئني، ولا أحد يكلمني، حتى يذهب الخسوف من شدة الخوف، ونحن إذا خسف القمر كأن شيئاً لم يكن أصلا، وعادي، والجيد منا الذي يذهب يصلي، ولا يؤثر فيه خوفًا، فانظر إلى هذا ما توجد قبيحة إلا ويقارفها، ومع ذلك انظر شدة الخوف عنده. 

فمن الناس من يضره العلم بهذه الطريقة، ويقال: ليته ما تعلم، وليته ما درس، وما أكثر هؤلاء في هذه الأيام، إذا جئت تنكر عليه قضية، وقلت له مثلاً: المعازف حرام، أو قلت له: الفخذ عورة، يقول لك: تعال، كيف تقول هذا الكلام؟ من يقول هذا؟ تعال، لو سمحت عفوًا، من قال لك هذا الكلام؟ أنت لماذا تحمل الناس كلهم على رأيك؟، اعلم أن هناك آراء أخرى، هل ما في إلا أنت؟ تقول له: طيب، العلماء أفتوا بهذا، يقول: من العلماء الذين أفتوا بهذا؟ تقول: أفتى فيه فلان وفلان، يقول: ما يوجد إلا علماؤك هنا فقط؟ ففلان أفتى بالجواز، ما شاء الله! ثقافة الفضائيات، وهذا تجده عند كثير من العامة، يوم صاروا يأخذون العلم من قفاه، كما يقال، صار كثير منهم بهذه الطريقة: يجترئ ويتفلسف، في الأول كان يفعل المعصية ويخاف، الآن لا، الآن يجترئ ويتفلسف، ويناقش ويجادل، كما تقول إحدى النساء، تريد أن تقول: إنها رجعت إلى الصفر، ما أدري ماذا قالت، فهي عبارة بالإنجليزي، أنا كنت ما أدري أيش، والآن تغير، قلت: ماذا تقول؟ قالوا: تقول: رجعت إلى الصفر.

الشاهد: أنها قالت كلمة معناها: إني رجعت الآن لآخر درجة، خلاص، تبين لي أن هناك أقوالا أخرى، وتبين أن فيه أشياء ثانية، فهذه ثقافة الفضائيات، فتضرهم هذه الأشياء التي يسمعونها للأسف؛ لأنهم لا يأخذون العلم من مأخذه الصحيح، وبطريقة صحيحة؛ ولهذا قال الشاطبي -رحمه الله: إن أهل الأهواء يأخذون العلم، ويتلقونه، أو يَسألون -في السؤال والاستفتاء- بعدما يفعلون؛ ليبحثوا عما يوافق أهواءهم، وانحرافاتهم، وأما من كان يريد الحق فيسأل قبل ما يفعل، ويسأل من يثق بدينه وورعه، ويثق بعلمه أيضا، لابدّ من الأمرين، هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبةً، رقم: (2748).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، رقم: (6427)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، رقم: (1052).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب الشرب قائما، رقم: (5615).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب الأشربة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، رقم: (1892)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وابن ماجه، كتاب الأشربة، باب الشرب قائما، رقم: (3423)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: (2/ 1233)، رقم: (4281).
  5. أخرجه مسلم،  كتاب الأشربة، باب كراهية الشرب قائما، رقم: (2026).
  6. أخرجه أحمد، رقم: (8003)، وقد صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (1/ 337)، رقم: (175).
  7. المصدر السابق.
  8. أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب الشرب قائما، رقم: (5617).

مواد ذات صلة