الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(03) تتمة حديث ابن عمر رضي الله عنهما ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم ...
تاريخ النشر: ٠٣ / جمادى الأولى / ١٤٢٧
التحميل: 544
مرات الإستماع: 1233

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي باب تحريم الظلم، والأمر برد المظالم، كنا نتحدث عن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- حينما كانوا مع النبي ﷺ في حجة الوداع، وحينما خطبهم، وذكر الدجال، وحذر منه، ثم قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك ألا إن الله حرم عليكم دماءكم، وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم في هذا، ألا هل بلغت....

ألا إن الله حرم عليكم دماءكم أي: حرم عليكم دماءكم كما قال النبي ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة[1] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

فيحرم أن يستحل الإنسان دم أخيه، ويحرم أيضًا أن يتعدى عليه، ولو كان غير مستحل، فإن الأصل في الدماء التحريم.

يقول: وأموالكم أي سائر الأموال، والأموال تشمل كل ما يتموله الإنسان، ويتملكه سواء كان ذلك من النقد، أو كان ذلك من المتاع الذي يقتنيه صاحبه، أو غير ذلك كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت... كحرمة يومكم هذا في يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، وهو أعظم يوم عند الله -تبارك وتعالى- والشهر هو ذو الحجة، وهو من الأشهر الحرم، ومن أشهر الحج.

قال: ألا هل بلغت، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد ثلاثا، ثم قال: ويلكم أو ويحكم.

والفرق بين اللفظتين: أن ويح لربما تقال فيما يترحم له حينما يكون فيه ترحم، أو إشفاق يقال: ويحه لماذا يفعل كذا، وأما كلمة ويل، فهي للتهديد، والوعيد، ومن أهل العلم من يقول: هما بمعنى واحد ويلكم أو ويحكم انظروا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعضكم[2].

الشريعة شددت في هذا المعنى كثيرًا، وهذا من نصوص الوعيد؛ ولهذا قال النبي ﷺ: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[3].

ومثل هذه النصوص الأحسن -والله تعالى أعلم- أن تجرى على ظاهرها من غير تعرض لها بتأويل إلا في مقام الدرس، أو عند الحاجة لكشف شبهة، أو نحو ذلك؛ من أجل ألا يذهب ما تضمنته من الوعيد، والتخويف، فلا يجترئ أحد على دماء الناس، فلا يحتاج في مثل هذا أن تذكر التأويلات للناس، كأن يقول قائل: لا ترجعوا بعدي كفارًا الكفر من الستر أي أنكم لا ترجعوا وقد لبستم السلاح، غطيتم به الأجسام، كفرتم أجسادكم بالسلاح الذي غطيت به، ليس هذا هو المعنى إطلاقًا، وما جاءت الشريعة بمثل هذا، وليس هذا يدل على الوعيد بحال من الأحوال، ولكن من وقع له شبهة في هذا، وظن أن المعاصي، والكبائر أن الإنسان يكفر بها، ويخرج من الملة فإن هذا يبين له أن ذلك غير مراد، وأن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، والنصوص الواردة في هذا المعنى كثيرة، وينبغي أن يجمع ذلك جميعا، ثم بعد ذلك يبين المراد به، لكن هذه النصوص لا تتأول بطريقة تذهب الهيبة معها، ويذهب المقصود الذي من أجله قد وردت.

لا ترجعوا بعدي كفارًا ينهاهم ﷺ من الفعل الذي لربما يؤدي بهم إلى الكفر، أو أنه كفر في نفسه، ولكن الفعل الذي يكون كفرًا لا يقتضي أن يكون الفاعل كافرًا على كل حال، فالذي ينتهك حرمة المسلمين في دمائهم إن كان مستحلاً لذلك؛ فإنه يكون كافرًا، وأما إذا كان لا يستحل ذلك، ففعله كفر هذا الفعل كفر، ولكنه لا يكفر به، كما قال النبي ﷺ سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض.

قوله: يضرب بعضكم رقاب بعض يمكن أن تكون جملة مستأنفة يوضح فيها ما سبق، هؤلاء لا ترجعوا بهذه الصفة، يضرب بعضكم رقاب بعض، ويحتمل أن يكون ذلك من قبيل الحال، لا ترجعوا بعدي كفارًا، والحال، أو في حال كون بعضكم يضرب رقاب بعض، فإن هذا من فعل الكفار، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، وإنما ينصره، ويرحمه كما قال الله أشداء على الكفار، رحماء بينهم.

ويحتمل أن يكون ذلك لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ترجعوا يكون من صفة الفاعل في قوله: ترجعوا.

فالمقصود أن هذا الحديث علاقته بباب الظلم ظاهرة، وهي أن النبي ﷺ ذكر فيه حرمة الدماء، والأموال، وهي من أعظم الحرمات، وتوعد على من وقع في الدماء، وقال فيه ما قال -عليه الصلاة والسلام- فالذي يظلم الناس، ويجترئ على قتلهم، أو على أذيتهم في أبدانهم بجراح، أو نحو ذلك لا شك أنه قد وقع في جرم عظيم، والنبي ﷺ أخبر أن كل ذنب يرجو أن يغفره الله إلا القتل، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن القتل لا يغفر، ويوجد ما يدل على هذا، ولكن على كل حال يمكن أن الله -تبارك وتعالى- يرضي المقتول بما يعطيه، ويمنحه من الأجور، ورفع المنازل، والدرجات ما يحصل به الرضا، أو قد يكون للإنسان ذنوب مكفرة، أو حسنات ماحية، أو نحو ذلك.

فإذا جاء نص من نصوص الوعيد فإنه قد يتخلف في الشخص المعين فلا يتنزل عليه، ولكن المؤمن ينبغي أن يخاف، وأن يحذر، والنبي ﷺ أخبر أن المسلم لن يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دما حرامًا[4].

فينبغي أن يبتعد الإنسان لا بتأويل، ولا بغير تأويل، فإن الأصل في الدماء التحريم، والمنع، وقد شدد فيها الشارع غاية التشديد، وهكذا أموال المسلمين ينبغي أن يتوقاها، وأن يحذرها لأن الأصل في ذلك جميعا في حقوق الخلق المشاحة، وسيكون القصاص في الحسنات يوم لا درهم، ولا دينار فيبتعد الإنسان لئلا يطلب بمظلمة بين يدي الله -تبارك وتعالى-.

هذا، وأسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأحوال المسلمين جميعا، وأن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

  1. أخرجه مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، برقم (1676).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4402).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم (48)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، برقم (64).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الديات، برقم (6862).

مواد ذات صلة