الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «فمن يعدل؟ إذا لم يعدل الله ورسوله..» (2-2)
تاريخ النشر: ١٩ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 2426
مرات الإستماع: 8005

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا نتحدث عن حديث ابن مسعود في يوم حنين، وذلك عندما آثر رسول الله ﷺ ناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى ناساً من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عُدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، يقول ابن مسعود فقلت: والله لأخبرن رسول الله ﷺ، فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصِّرْف.

تحدثنا إلى هذا الموضع من الحديث، وقلنا: الصرف هو الأحمر الخالص شديد الحمرة، وفِعلُ ابن مسعود ابتداء حينما بلغ رسول الله ﷺ ليس من باب النميمة، ونقل الكلام، وقالة السوء بين الناس التي يحصل بسببها الإفساد فيما بينهم، وقطع العلائق والوشائج، وإنما هذا لون آخر، وهو من قبيل إنكار المنكر، فهذا رجل من المنافقين يتكلم، ويطعن في حكم رسول الله ﷺ وفي قَسْمه، فابن مسعود رفع ذلك إلى رسول الله ﷺ ومعلوم أن من تكلم على رسول الله ﷺ أو شتمه فإنه في حياة النبي ﷺ يكون العفو مرتبطاً برسول الله ﷺ، بمعنى أنه ليس لأحد أن يسقطه سوى رسول الله ﷺ، وقد اجترأ هذا على ذنب عظيم، وأما بعد رسول الله ﷺ فلا سبيل إلى إسقاطه، ولهذا قال العلماء -رحمهم الله: إن من سب الرسول ﷺ فإنه يقتل، لأن ذلك من حق رسول الله ﷺ، قال كثير منهم: وإن تاب فإن توبته تنفعه عند الله .

يقول: ثم قال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ وذلك أن النبي ﷺ إنما قصد تألّفُ هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، ووراء هؤلاء من العشائر والقبائل الشيء الكثير، فإذا رغبوا في الإسلام دخل أقوامهم معهم، فيكون ذلك نصراً للإسلام، وإعزازاً لدين الله -تبارك وتعالى، وقد جاء في صحيح البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي ﷺ قال: إني لأعطي الرجل وإنّ غيره لأحب إليّ منه، مخافة أن يكبه الله في النار[1]، فمن الناس من تكون هذه العطية التي يعطاها من الدنيا سبباً لتثبيته على الحق والإسلام، فيُعطَى، والنبي ﷺ وكَلَ رجالاً إلى ما عرف من وثوق إيمانهم وصلابته وثباته، فمثل هؤلاء لا يحتاجون إلى مثل هذه العطية، ولذلك فإن معاملة الناس وإعطاءهم، وما إلى ذلك من إلانة القول لهم يختلف، فمن الناس من لا تحتاج أن تراعيه في كثير من الأمور، فهو لا يحتاج أن يُتألف لكمال يقينه وثباته، ومن الناس من تذهب به كلمة، وتأتي به كلمة، فلربما احتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية والتلطف وما أشبه ذلك، فالنبي ﷺ وَكَل مثل الأنصار والسابقين الأولين من المهاجرين إلى إيمانهم، ولهذا لما بلغه بعض الشيء جمع الأنصار، وقال: يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟، كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله ﷺ؟، كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي ﷺ إلى رحالكم؟، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شِعار، والناس دِثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض[2].

قوله ﷺ: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر موسى ﷺ أوذي بأكثر من هذا، فهذا الرجل قال للنبي ﷺ هذه قسمة ما أُريدَ بها وجه الله، وموسى ﷺ أوذي بأكثر من هذا، قال له بنو إسرائيل: يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24] فخذلوه في أحوج الأوقات التي كان يحتاج إلى نصرتهم، في أشد الأوقات حاجة إلى نصرتهم، وكذلك أيضاً قالوا عنه: إنه آدَر، لأنهم كانوا يغتسلون عراة مجتمعين، وكان موسى ﷺ حَيِِياً، فكان يغتسل منفرداً، فقالوا: ما منعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدَر[3]، والحديث في الصحيح، فبرأه الله مما قالوا، بل اتهموه أيضاً أنه قتل هارون ، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69]، يعني: لا تؤذوا رسولكم ﷺ كما آذى بنو إسرائيل موسى ، فالأذية لم يسلم منها أحد.

ليس يخلو المرءُ من ضدٍّ ولو حاولَ العزلةَ في رأسِ جبلْ

فكل إنسان يصل إليه من ألوان الأذى، سواء كان ذلك بكسب يده، أو كان لا كسب له بذلك أصلاً، فيتسلط عليه من يؤذيه، ولو كان ذلك أقرب قريب ممن يرجو منه الإفضال والإحسان، فيتحول ذلك إلى إساءة وإشغال قلب عن ذكر الله وعبادته.

ولم يسلم ربنا من الأذية، الله يقول: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر[4]، ونسبوا له الصاحبة –الزوجة- والولد، وقالت عنه اليهود -قبحهم الله: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، وقالوا: إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران:181]، فإذا كان ربنا لم يسلم من الأذى، فمن الذي يسلم من الأذى مهما كثرت سجاياه؟

فينبغي للإنسان أن يوطن نفسه على الصبر، واحتمال الأذى، ويعلم أن هذا الأذى لابد واصله، ولكن يؤجر على ذلك إذا صبر واحتسب.

فقال ابن مسعود: لا جرم -يعني: حقاً- لا أرفع إليه بعدها حديثاً، أي: لا أنقل له موقفاً سيئاً، أو مقالة سيئة قيلت، لما رأى ما حل برسول الله ﷺ من التغير والضيق بسبب هذه المقالة السيئة.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل (1/ 18)، رقم: (27)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه والنهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع (1/ 132)، رقم: (150).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4/ 1574)، رقم: (4075)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه (2/ 738)، رقم: (1061).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الغسل، باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل (1/ 107)، رقم: (274)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى ﷺ (4/1840)، رقم: (339).
  4. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد،  باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله (6/ 2722)، رقم: (7053)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (4/ 1762)، رقم: (2246).

مواد ذات صلة