الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
حديث «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو..»
تاريخ النشر: ٢٠ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 2668
مرات الإستماع: 5689

ترجمة عبدالله بن أبي أوفى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث الأخير في باب الصبر من كتاب رياض الصالحين، يقول النووي -رحمه الله: وعن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما[1].

أبو إبراهيم، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو معاوية، اختلفوا في كنيته، وهو عبد الله بن أبي أوفى من أصحاب النبي ﷺ، وقد شهد بيعة الرضوان، وهي البيعة التي قال الله في أهلها: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]، وشهد خيبر مع النبي ﷺ بعد بيعة الرضوان، فأغنمهم الله تلك المغانم الكثيرة كما وعدهم، ثم بعد ذلك شهد بقية المشاهد مع رسول الله ﷺ، وبقي في المدينة إلى أن قبض نبي الله ﷺ، ثم بعد ذلك خرج منها إلى الكوفة، وبقي فيها حتى تأخرت وفاته جداً، وكان آخر من مات من أصحاب النبي ﷺ في الكوفة سنة ست وثمانين، وبعضهم يقول: سنة سبع وثمانين ، وهو أسلمي كما سنعرف من ترجمة والده.

يقول: عن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى، وعبد الله هو ابن أبي أوفى، وأبو أوفى له صحبة للنبي ﷺ، واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي ، ولهذا قال النووي: رضي الله عنهما، يعني: عن الابن والأب، وهذا على الأرجح باعتبار أن الأب له صحبة.

وهم الذين قال فيهم النبي ﷺ لما جاءوا بصدقتهم -يعني: بالزكاة: اللهم صل على آل أبي أوفى[2]، والله يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103]، فكان الرجل إذا جاء بزكاته إلى رسول الله ﷺ يدعو له، يقول: اللهم صل على فلان، أو على آل فلان.

وهذا أمر لا مانع منه ما لم يتخذ شعاراً، كأن يقال: عليٌّ (صلى الله عليه وسلم)، أو (عليه السلام)، فيخص بذلك من بين أصحاب النبي ﷺ فيكون ذلك مضاهياً لأهل الأهواء، أو لبعض أهل الأهواء كالرافضة، ولكن لا بأس أن يقول الإنسان أحياناً: أبو بكر (عليه الصلاة والسلام) مثلاً.

لو قالها إنسان لا يعد ذلك من المنكر، ولكن كثرة استعمال الصلاة تكون في حق النبي ﷺ أو في الأنبياء والملائكة، أما الصحابة فيكون لهم الترضي، ولمن بعدهم الترحم.

لا تتمنوا لقاء العدو

يقول: "أن رسول الله ﷺ في بعض أيامه التي لقي فيها العدو.." يعني: في بعض حروبه ومغازيه، ويقال لها: أيام؛ لأنها ليست كغيرها، فاختصت بذلك، والنبي ﷺ معلوم أنه شارك في سبع وعشرين غزوة خرج فيها بنفسه ﷺ، وقاتل في تسع منها.

يقول: "انتظر حتى إذا مالت الشمس" بمعنى: أنها زالت، فالشمس تكون في أول النهار، ثم بعد ذلك تخرج من جهة المشرق، ثم تكون في وسط السماء، ثم تميل إلى ناحية الغرب، ومن ثم يبدأ الهواء يتغير، ولذلك فإن هذا يحتمل أن يكون المقصود منه أن هذه الوقعة كانت في الحر، ويكون المقصود به الرفق بأصحابه، وكان رفيقاً رحيماً ﷺ، لأن القتال في شدة الشمس لا شك أنه يؤذي كثيراً، لاسيما مع الحديد، وما يلبسونه من الدروع، وما يحملونه من السلاح، والمِغفر فوق الرأس -وهو حديد، فيحصل بهذا من التعذيب والإيلام ما لا يخفى، فقد يكون هذا التأخير لهذا السبب.

وقد يكون ذلك لعلة أخرى، وهي هبوب الرياح التي يأتي النصر بها، فمعلوم أن الرياح تبدأ تهب في الغالب من بعد الزوال، يبدأ يبرد الهواء وتهب الرياح، والنبي ﷺ يقول: نُصرت بالصَّبا، وأُهلكتْ عاد بالدَّبور[3]، والمقصود بالصبا الرياح التي تهب من جهة المشرق، والدبور هي الرياح التي تهب من جهة المغرب، فبعد الظهر تهب الرياح الشرقية أحياناً، والأخرى يقال لها شمالية، ويقابلها الجنوبية.

ثم قام في الناس فقال: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو...، هذا فيه أنه يحسن أن يكون بين يدي القتال تذكير وتنبيه للمقاتلين بما يحتاجون إليه، فقد يكون هؤلاء بحاجة إلى تنبيه على الصبر، وهذا لا ينفك عنه المقاتل غالباً، وقد يكون بحاجة إلى التذكير بالنية، وقد يكون بحاجة إلى التذكير بالتعلق بالله -عز وجل، وترك الالتفات إلى الحول والقوة، وما يملك من المنعة والسلاح وما أشبه ذلك، فكل حال لها ما يناسبها، فهنا النبي ﷺ قال: يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية... ولا شك أن لقاء العدو فيه من البلاء والإيلام والجراح والفتنة التي تتخلخل معها كثير من النفوس وتضطرب، ولهذا لما جاء الأحزاب إلى المدينة تكشفت كثير من الأمور، فكان المنافقون يقولون: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ۝ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ۝ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب: 12-14].

فالإنسان ربما يكفر من أجل أن يدفع هذا البلاء الذي أخافه ونزل به، ثم إن الإنسان لا يدري هل يصبر ويثبت أم ينهزم، ومعلوم أن الهزيمة من كبائر الذنوب إذا التقى الصفان، والله قد توعد على ذلك: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]، فالإنسان قد لا يثبت ولا يصبر في أرض المعركة، وفي كثير من الأحيان يتوهم الإنسان أن لديه من القُدر والإمكانات ما ينكشف عنه الأمر بعد حين حينما يبتلى أن هذا ليس على شيء، وأنه كان يعيش في وهم كبير، وهذا أمر مشاهد، وقد يتصور الإنسان أنه يستطيع أن يبلي البلاء الشديد في المعركة، ويقاتل ويستطيع أن يفني الأعداء، فإذا لقي العدو لربما لا يستطيع أن يحمل قطعة صغيرة من السلاح، فيكون عالة على غيره من المقاتلين، وقد ينهزم لأول صوت يسمعه للسلاح، فيضطرب قلبه ويخاف، ويمتلئ بالفَرَق، والرعب والهلع فيولي منهزماً، وقد يبتلى بغير ذلك، فالإنسان لا يتمنى لقاء العدو، وليس ذلك فحسب، بل إن الإنسان لا يتمنى البلاء مطلقاً، ولذلك تعرفون خبر الذي كان يدعو ربه أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا، فكان كالفرخ، فزاره النبي ﷺ فسأله عما كان يدعو به فأخبره بهذا الخبر، فنهاه النبي ﷺ عن ذلك، وعلمه كيف يقول[4].

فالإنسان لا يتمنى المكاره في الحياة الدنيا، لكنها إذا نزلت به عليه أن يصبر، ولهذا قال النبي ﷺ: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق[5]، يدخل في أمور ولا يكون على مستواها، ثم بعد ذلك يتحول إلى حال من الذل والمهانة كان في غنى عنها.

قوله: واسألوا الله العافية فالعافية لا يعدلها شيء، ولهذا نقل عن بعض السلف كأبي بكر الصديق أنه كان يقول: إن العافية مع الشكر خير من البلاء مع الصبر.

مع أن الإنسان لا يدري هل يوفق للصبر أو لا، فالسلامة والعافية لا يعدلها شيء فلا يتعرض الإنسان للبلاء ولا يستشرف ذلك، فقد ينكسر.

والله قال: وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [آل عمران: 143]، وأولائك الذين تمنوا أن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله فلما أخبروا أنه الجهاد تراجعوا فعاتبهم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، وكذلك أيضاً أولئك الإسرائيليون الذين تمنوا أن يجاهدوا في سبيل الله قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ [البقرة: 246]، وقد تكلمنا على هذه الآيات في بعض المناسبات السابقة، فالحاصل أنهم تساقطوا مرة بعد مرة، حتى ما بقي إلا أقل من القليل.

فيشرع للإنسان أن يدعو ربه بهذا، اللهم إني أسألك العافية، أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي.

قوله: فإذا لقيتموه فاصبروا فإذا نزل البلاء فعند ذلك الصبر يتحتم، ويكون أمراً واجباً، ولا خيار للإنسان في ذلك.

قوله: واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف هذا فيه ترغيب في الجهاد والإقدام ومناجزة العدو والصبر تحت ظلال السيوف، فلا ينهزم إذا علم أن الجنة تحتها، وذلك أن هذا الجهاد وبريق السيوف فوق رأسه  بلاء عظيم يحصل بسببه دخول الجنة، ويأمن هذا الإنسان من فتنة القبر.

فمن الناس من لا يتمالك إذا رأى بريق السيوف، والرءوس تتطاير، والدماء تسيل، والناس يتشحطون، ويتساقطون قتلى.

واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف وهذا مصداق لقوله ﷺ: حُفت الجنة بالمكاره، ثم قال النبي ﷺ: اللهم منزل الكتاب.. ، الكتاب يحتمل أن يكون من جنس الكتب التي أنزلها على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن، وهذا فيه إيماء إلى ما حصل بنزول هذه الكتب -أو هذا الكتاب- من الهداية التي يكون افتقار الخلق إليها أعظم من افتقارهم إلى الهواء والطعام والشراب، فبها هدايتهم.

ومجري السحاب.. فيه أيضاً إيماء بنعمة أخرى، وهي أن السحاب يكون سبباً للمطر الذي يحصل به النبات، فتقوم به معايش الناس.

وهازم الأحزاب هذه نعمة ثالثة حصل بها حفظ النعمتين، نعمة الدنيا، ونعمة الدين، فلو دخل الأحزاب وأفسدوا وخربوا وقتلوا وغلبوا فإنهم يخربون الدنيا والدين كما هو معلوم، قَدّم بهذه الأمور الثلاثة الجامعة لهذه النعم -التي تجمع كل النعم، قدم بها بين يدي الدعاء، وهذا من الأدب، فإذا أراد الإنسان أن يدعو الله  ينبغي أن يقدم بين يدي الدعاء شيئاً، ويكون ذلك أدعى للإجابة، فيثني على الله بما هو أهله، ويصلي على النبي ﷺ.

قال: اهزمهم وانصرنا عليهم قد ينهزمون ولا يحصل النصر، فجمع بين الأمرين، اهزمهم وانصرنا عليهم، ولا شك أن هذا من أعظم ما يحصل للمجاهد، أن يهزم العدو وأن ينتصر عليه، فيكون بذلك التشفي في أعلى صوره، كما قال الله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة: 14].

ولكن لو أنهم هزموا فقط من غير قتال المؤمنين لهم فإن ذلك لا يحصل به تمام التشفي، كما وقع يوم الأحزاب، كما قال الله : وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25]، فلم يحصل مطلوبهم، ولم يحصل لهم التشفي، جاءت الريح وزلزلت بهم، وزلزل بهم الملائكة، فرجعوا إلى بلادهم، ولم يحصل قتال كما حصل في بدر، فالانتصار الذي حصل في بدر لا يقارن بالانتصار الذي حصل في يوم الأحزاب، ففي يوم الأحزاب كانت كفاية من الله ، وفي يوم بدر كان نصراً مؤزراً، هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، باب لا تمنوا لقاء العدو (3/ 1101)، رقم: (2861)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء (3/ 1362)، رقم: (1742).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (2/ 544)، رقم: (1426)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة (2/ 756)، رقم: (1078).
  3. أخرجه البخاري،  باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (4/ 1507)، رقم: (3879)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء،  باب في ريح الصبا والدبور (2/ 617)، رقم: (900).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا (4/ 2068)، رقم: (2688)، عن أنس : أن رسول الله ﷺ عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله ﷺ هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله، لا تطيقه -أو لا تستطيعه- أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ قال: فدعا الله له فشفاه.
  5. أخرجه الترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ (4/ 522)، رقم: (2254)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم (2/ 1332)، رقم: (4016).

مواد ذات صلة