الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
مواقف مشرفة من حياته
تاريخ النشر: ٢١ / ذو القعدة / ١٤٢٢
التحميل: 8386
مرات الإستماع: 3359

بسم الله الرحمن الرحيم

مواقف مشرفة من حياته

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فذكرنا في ليلة مضت طرفًا من زهد الإمام النووي -رحمه الله، وطرفًا من ورعه، وذكرنا أن الورع بلغ به مبلغًا حتى كان لا يأكل من فواكه دمشق، ولما سئل عن ذلك قال: إنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن تحت الحَجر شرعًا، ولا يجوز التصرف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة -يعني في الشام، وفيها اختلاف بين العلماء، ومن جوزها قال: بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟! واختار النزول في المدرسة الرواحية على غيرها من المدارس؛ لأنها كانت من بناء بعض التجار كما سبق.

وكان لدار الحديث التي كان يدرّس فيها -فيما بعد- راتب كبير يأخذه من اشتغل بالتعليم في هذه المدرسة، فما أخذ منه فلسًا، بل كان يجمعها عند ناظر المدرسة، وكلما صار له حق سنةٍ اشترى به ملكًا ووقفه على دار الحديث، أو اشترى كتبًا فوقفها على خزانة المدرسة، ولم يأخذ من غيرها شيئًا.

وكان لا يقبل من أحد هدية ولا عطية إلا إذا كانت به حاجة إلى شيء، وجاءه ممن تحقق دينه، وكان لا يقبل إلا من والديه وأقاربه، فكانت أمه ترسل إليه القميص ونحوه ليلبسه، وكان أبوه يرسل إليه ما يأكله، وكان ينام في غرفته التي سكن فيها يوم نزل دمشق في المدرسة الرواحية، ولم يكن يأخذ على ذلك التعليم قليلًا ولا كثيرًا.

 ومن كان بهذه المثابة فإنه لا يبالي إذا أخرب دنياه في سبيل عمارة آخرته، فإذا كان الرجل لا يخاف على مال يأخذه، أو ضيعة يرقبها، أو نحو ذلك من حطام الدنيا ومن متاعها الفاني، فإنه يكون جريئًا قويًا في الحق والصدع به، وإعلانه وإذاعته والدعوة إليه، لا يخاف في الله لومة لائم؛ لأنه قد ترك الدنيا خلف ظهره فلا يبالي، ومن ثَمّ فإنه لا يخاف على شيء منها، ولا يتحسر على فائت؛ لأنه قد طلقها طلاقًا بائنًا، ولهذا كانت له مواقف مشهودة سجلها التاريخ وسطرها لهذا الإمام الكبير، ومن ذلك أن الملك المعروف وهو الظاهر بيبرس حينما انتصر على التتار، وأجلاهم من مملكته وطردهم منها، بعد قتال شهير متطاول المدة، قدم قدوم المنتصرين إلى بلاد الشام من أرض مصر، فلما لقيه القائم على بيت المال زعم هذا الرجل أن الكثير من الحوائط والمزارع والبساتين التي في أرض الشام أنها ملك للدولة، وأن هؤلاء الناس وضعوا أيديهم عليها بغير وجه حق، فأصدر ذلك الملك مرسوماً يطالب الناس فيه بإثبات ما تحت أيديهم بوثائق، وإلا فإنه يقوم بوضع حوطة عليها، وأخذها من أيديهم، بالقوة، فجاء الناس إلى الإمام النووي -رحمه الله- وهو في دار الحديث في هذه الغرفة الصغيرة، فلما أخبروه بما وقع كتب إلى ذلك الملك كتاباً جاء فيه: وقد لحق بالمسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواع من الضرر، لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثباتٌ لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين، بل مَن في يده شيء فهو ملكه، لا يحل الاعتراض عليه، ولا يكلف إثباته.

فغضب السلطان من هذه الجرأة عليه، وقد قدم منتفشًا منتصرًا على التتار، فأمر بقطع رواتب النووي وعزله عن جميع مناصبه، ولكن المفاجأة أنهم أخبروه أن الشيخ ليس له راتب، وليس له منصب، ولما رأى الشيخ أن الكتاب والرسالة التي أرسلها إلى ذلك السلطان لم تفد، ولم تغير في واقع الأمر شيئًا ذهب إليه برجليه وكلمه كلامًا قويًا شديدًا، فأراد السلطان أن يبطش به، فصرف الله قلبه عن ذلك، وقام السلطان بإبطال ذلك المرسوم الذي أصدره قبل هذا الإنكار.

والإمام النووي -رحمه الله- كان له موقف آخر مع الظاهر بيبرس، وذلك أن هذا الملك أراد أن يجمع أموالاً من الناس -من التجار- من أجل أن يواجه بها حملات التتار، وذلك من المصالح العامة، كما يتبادر، وكانوا يزحفون على بلاد الشام، فالخزائن التي في بيت المال لا تكفي لنفقات الجيوش التي تعد لردعهم ودحرهم، فأراد أن يضرب على التجار ضرائب، وأن يأخذ منهم بعض الأموال لهذا الغرض الذي به مصلحة عامة ولا شك، فاستخرج ذلك السلطان فتوى من كثير من علماء عصره أن المصلحة الشرعية تقتضي ذلك، وأن الدفع عن بلاد المسلمين يقتضي أخذ جزء من أموال التجار من غير رضاهم، فأفتوه وأصدروا كتابًا في ذلك، إلا أن النووي -رحمه الله- امتنع من التوقيع معهم، واعترض على هذه الفتيا، وناصح السلطان، إلا أن الظاهر بيبرس لم يقبل نصيحته في ذلك، ثم بعد ذلك قام باستدعائه إليه، فكان مما جرى في تلك المقابلة أن قال له الإمام النووي -رحمه الله: أنا أعرف أنك كنت في الرق لفلان، وليس لك مال، ثم منّ الله عليك، وجعلك ملكاً، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حِياصة من ذهب، وعندك مائة جارية، لكل جارية حقٌّ من الحلي، فإن أنفقت ذلك كله، وبقيت المماليك بالبنود الصوف بدلًا من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي أفتيتك عندئذ بأخذ المال من الرعية، ابدأ بنفسك، ثم بعد ذلك إذا تجردت من ذلك جميعًا فعند ذلك إن لم يكفِ لرد التتار أفتيتك بأنه يجوز الأخذ من التجار لصد عادية التتار، فغضب الظاهر من هذا الجواب، وقال للنووي -رحمه الله: اخرج من بلدي، يعني: من دمشق، فخرج النووي -رحمه الله- إلى بلدته نوى، وهي مسقط رأسه، فقام الفقهاء وقالوا: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يُقتدى به، فأعده إلى دمشق، فكتب برجوعه، إلا أن النووي -رحمه الله- امتنع، وقال: والله لا أدخلها والظاهر بها، فمات الظاهر بعد شهر.

فهذا الزهد والورع والعلم والعبادة، والقوة في الحق، والصبر على شظف العيش، والزهد بما في أيدي الناس، والرغبة فيما عند الله جعل الإمام النووي هو النووي، الذي كتب الله له القبول، ولمصنفاته حتى صار علمًا لم يضمحل مع تطاول القرون، حتى قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله: "لا أعلم نظيره في قبول مقاله عند سائر أرباب الطوائف".

وبعد إقامة الشيخ -رحمه الله- في دمشق قريبًا من ثمانية وعشرين عامًا سافر إلى بيت المقدس، وعاد بعد ذلك إلى نوى، بعد أن ودع أصحابه وطلابه في دمشق، فمرض في بيت والده وانتقل إلى رحمة الله في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة، ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجت وما حولها بالبكاء، وتأسف الناس عليه أسفًا شديدًا، ورثاه جماعة بأكثر من ستمائة بيت، وكان مما قيل في مرثياته -وهو شيء يسير مما قيل فيه- هذه الأبيات التي هي ضمن قصيدة من هذه القصائد، يقول الأديب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر بن أبي شاكر الحنفي، يقول فيما قال:

يا محييَ الدينِ كم غادرتَ من كبدِ حرّى عليك وعين دمعُها هطِلُ
وكم مُقام كحدِّ السيف لا جلدٌ  يقوى على هوله فيه ولا جدلُ
أمرتَ فيه بأمر الله منتضيًا سيفًا من العزم لم يُصنع له خللُ
وكم تواضعتَ عن فضل وعن شرف وهمة هامة الجوزاء تنتعلُ
عالجتَ نفسك والأدواءُ شاملةٌ حتى استقامت وحتى زالت العلل

إلى أن قال:

فجعتَ بالأمس ليلاً كنتَ ساهرَه لله والنومُ قد خيطت به المُقلُ
رجاك نورُ نهارٍ كنتَ صائمَه إذا الهجيرُ بنارِ الشمس مشتعلُ

هذا بعض ما قيل في النووي، وبعض ما جاء في ترجمته، رحمة الله عليه، وعلى علماء المسلمين وأمواتهم.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة