الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(42) أذكار الاستيقاظ من النوم الحديث الأول " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"
تاريخ النشر: ١٠ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 5140
مرات الإستماع: 9076

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسنشرع في الحديث عن: أذكار الاستيقاظ من النوم.

أول ما يبدأ به الإنسانُ منذ فتح عينه، منذ استيقظ من نومه، منذ أفاق، منذ أحياه الله -تبارك وتعالى- من موتته الصُّغرى، حينما توفَّاه ربُّه -تبارك وتعالى- وردَّ إليه روحَه، كيف يشكره؟ كيف يذكره؟ كيف يرتبط به وبذكره منذ أول وهلةٍ؟ من أول لحظةٍ يرتبط بذكر الله ، فلا يكون غافلًا بحالٍ من الأحوال؟ يرتبط بذكر الله -تبارك وتعالى- وبذكر الآخرة حينما تعود إليه روحُه بعد وفاته التي توفَّاه الله -تبارك وتعالى- حال نومه.

كيف يبدأ المسلمُ الحياة؟ كيف يبدأ يومَه الجديد؟ ما الاهتمامات الحقيقيَّة؟ ما الأعمال المجزية؟ ما الأعمال ذات الشَّأن؟ ما العمل المثمر؟ ما المستقبل الحقيقي؟ كيف يتوجّه التَّفكير؟ بأيِّ شيءٍ يرتبط العبدُ؟ بأي شيءٍ يُعنَى المكلَّف؟

إنَّ هذه الأمور التي شرعها لنا -تبارك وتعالى- تجعل المؤمن بمنأى عن الغفلة، تجعل حياتَه في يقظةٍ دائمةٍ لا يغفل بها عن ربِّه -تبارك وتعالى-، ولا يغفل عمَّا ينتظره من المآل والمصير في الدَّار الآخرة.

الاهتمامات التي ينبغي أن تستحوذ على أولئك الذين قد فُتنوا وفسدت فطرُهم وبصائرُهم؛ فهم يُعارضون ويكرهون ما يُذكِّر الناسَ بالموت والحساب والجزاء والآخرة، لا سيما النَّشْء، يقولون: لا تُفسدوهم بربطهم بالآخرة وتذكيرهم بالموت، والكلام عن القيامة والعذاب والنُّشور؛ فيعيش الواحدُ منهم في حالٍ من الخوف والتَّوجس والتَّرقب.

نقول: إنَّ التفكير في الإسلام والاهتمامات لدى أهل الإيمان تختلف عن حال هؤلاء من الدّنيويين من أهل الدنيا الذين لا يتذكَّرون الآخرة، ولا يتذكَّرون نعمةَ الله عليهم.

حينما يستيقظ المؤمنُ يقول مباشرةً: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النُّشور[1]، يحمد ربَّه، يُضيف إليه الأوصاف الكاملة الجميلة على إنعامه وإفضاله وعطائه الجزيل على ما تفضَّل عليه به من حياةٍ جديدةٍ وبعثٍ جديدٍ، بعد أن قبض روحه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، هذه التي أرسلها فعادت إلى الحياة من جديدٍ، هذه نعمة جديدة، هذا يومٌ جديدٌ يُنادي، نعمة مُسداةٌ فاغتنمها، حياة تتجدد في كل يومٍ، بعثٌ يحصل ويُشاهد في كل مُفتتح يومٍ ومُبتدأه، هذا اليوم نعمة، هذه النِّعمة تحتاج إلى شكرٍ، تحتاج إلى حمدٍ، تحتاج إلى معرفةٍ لفضل الله على عبده وإنعامه، فلا يكون العبدُ مُعرضًا عن ذلك، فضلًا عن أن يستغلّ هذا اليوم في معصية الله ، فضلًا عن أن يستفتحه بالمعاصي: من كلامٍ مُحرَّمٍ، أو فعالٍ مُحرَّمةٍ: من نظرٍ مُحرَّمٍ، من عبادةٍ لغير الله ، هذه نعمة تحتاج إلى شكرٍ، وشُكرها أن يستغلّ كلَّ لحظةٍ فيما يُرضي الله -تبارك وتعالى-.

هناك نفوسٌ تُقبض، فلا ترجع إلى أصحابها آخر العهد، يقولون: نام فلانٌ ليس به بأسٌ، ثم بعد ذلك لم يعد إلى الحياة، وإنما توفَّاه الله -تبارك وتعالى- وهو في فراشه، هذا أمرٌ يحصل كثيرًا، فإذا أرسل اللهُ روحَك فاحمد الله على هذه النِّعمة: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النُّشور.

فيفتتح العبدُ يومَه بذكر الله بحمده، كما يذكره عند النوم -كما سيأتي-؛ ليختتم عملَه بذكر الله -تبارك وتعالى-، فتكتب الحفظةُ في أول صحيفته عملًا صالحًا، وتختمها بمثله، فتُرجى له مغفرة ما بين ذلك من مُزاولاته وأعماله وخطاياه.

هنا سمَّى هذا الاستيقاظ: إحياءً، هو حياة، كما سمَّى النومَ: موتًا: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا؛ وذلك أنَّ النوم يزول معه الإدراكُ، الروح لها أحوال غيبية، وتعلُّقات بالجسد ومُفارقاته، فهي ترتفع وتنفصل عنه انفصالًا تزول معه الحياةُ بكُليتها، تزول معه الحركة، يزول معه كلُّ معنًى للحياة الجسدية -حياة الجسد-، حينما تُفارق الروحُ الجسدَ بالوفاة الكبرى فيعود جثةً هامدةً لا حراكَ فيها، يصير جمادًا لا يشعر.

وهناك مُفارقة جزئية؛ يرتفع معها العقلُ والإدراكُ، ولكن الروحَ يبقى لها ارتباطٌ بالجسد، فهي تعمره من جهةٍ، فيبقى هذا النفسُ يتردد، وتبقى هذه الأجهزة تعمل في وظائفها المختلفة: دماؤه تجري في عروقه، وهو في هذا يُحكم له بالحياة شرعًا وحسًّا، ولكن هذه الحياة ليست بحياةٍ كاملةٍ، كما أنَّ هذه الوفاة ليست بوفاةٍ كاملةٍ، بل هي حياة ناقصة، وهي وفاةٌ ترفع الإدراكَ، وإن لم يحصل انفصالٌ للروح ومُفارقة للجسد بالكلية.

هاتان وفاتان وحياتان: وفاة كبرى، ووفاة صغرى. حياة كبرى، وحياة صُغرى.

فهنا أشبهت هذه الوفاة الصُّغرى -النوم- أشبهت الوفاة الكبرى من بعض الوجوه، والله يتوفَّى الأنفسَ في هذه، وفي هذه، كما أنَّ إرسالَ الروح إليه من جديدٍ ليرجع إليه الإدراكُ هذه حياة، وهذه الحياة تُشبه الحياة الأخرى بعد الموت بالبعث والنُّشور حينما يقوم الناسُ من قبورهم أحياءً، ولكن هناك عادت إليه روحُه فعمرت جسدَه؛ فقام يمشي بعد أن كانت مُفارقةً له مفارقةً تامَّةً، ومن هنا أطلق الموت على النوم: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا.

بعض أهل العلم يقولون: لأنَّ انتفاعَ الإنسان بالحياة إنما هو لتحري رضى الله، وقصد طاعته، واجتناب سخطه وعذابه، فمَن نام زال عنه هذا الانتفاعُ، فكان كالميت، فحمد الله تعالى على هذه النِّعمة، وزوال ذلك المانع.

قالوا: وهذا ينتظم معه ما بعده من قول: وإليه النُّشور، يعني: إليه المرجع في نيل الثَّواب بما يكتسب في هذه الحياة الجديدة في هذا اليوم الجديد.

إليه النُّشور بمعنى: أنَّ الإنسان حينما يردّ اللهُ إليه روحَه بعد الموت، بعد الوفاة الصُّغرى، فهو يعود إلى ذكر الله وعبادته: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، يعني: كأنَّ هؤلاء لاحظوا أنَّ هذا الموتَ لما كان العبدُ مُعطَّلًا فيه من الذكر والعبادة بهذا النوم، فهو موتٌ، فإذا عاد من جديدٍ إليه إدراكُه عاد إلى ذكر ربِّه وإلى عبادته، فهذه هي الحياة. هكذا قال بعضُ أهل العلم كالطِّيبي -رحمه الله-[2].

وبعضهم يقول: إنَّ قوله: وإليه النُّشور بمعنى: الإحياء للبعث يوم القيامة، كما يقول النَّووي -رحمه الله-[3]، بمعنى: أنَّ هذا الإحياء من الموتة الصُّغرى المتجدد في كل يومٍ يُذكره من أول يومه بالبعث والنُّشور، وأنَّ الله قادرٌ على إعادته من جديدٍ بعد أن يبلى ويموت.

هذا الإنسان الذي تتكرر له هذه الوفاة في كل ليلةٍ، وتتكرر له الحياة أيضًا في كل يومٍ، فهذا برهانٌ ودليلٌ على قُدرة الله على إعادته من جديدٍ، فهو يذكره ذلك دائمًا، فلا يكون غافلًا، يكون مُستعدًّا، يكون مُتهيئًا لما سيُلاقي.

ومن ثَمَّ فإنَّ كلَّ الأعمال التي يعملها من مطلع هذا اليوم إلى خاتمته، من مُبتدأه إلى مُنتهاه أعمالٌ يُحاسِب عليها نفسَه ويُراقبها؛ لأنَّه يتذكر تمامًا أنه سيُعاد وسيُحاسَب، وأنَّ النشورَ إلى الله -تبارك وتعالى-.

فهنا نبّه بإعادة اليقظة بعد النوم الذي هو موتٌ على إثبات البعث بعد الموت.

وبعض أهل العلم يُفسّر النُّشور: وإليه النُّشور بالتَّفرق في طلب المعاش وغيره من حاجات الإنسان ومطالبه بعد الهدوء والسُّكون بالنَّوم الذي هو أشبه ما يكون بالموت، بل سمَّاه الله: وفاة.

ونجد في كتاب الله -تبارك وتعالى- استعمال النُّشور بمعنى: البعث بعد الموت في مقامٍ لا يحتمل سوى هذا المعنى، كما في قوله -تبارك وتعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] أي: نشركم من قبوركم، الإعادة بعد الموت، هذا بإطباق المفسّرين أنَّ هذه الآية تتحدَّث في سورة تبارك عن الإعادة بعد الموت: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.

لكن في قوله -تبارك وتعالى-: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47]، هذه الآية من سورة الفرقان، هذه تحتمل، فبعض أهل العلم؛ ككبير المفسّرين، أعني: أبا جعفر ابن جرير -رحمه الله-[4] ومَن وافقه كالقُرطبي[5] يقولون: المقصود هنا: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا أي: يقظةً وحياةً، ومنه قوله: وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان:3] على قول ابن جرير، وذلك من الانتشار للمعاش، يعني: النَّهار سبب الإحياء للانتشار للمعاش، وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا قالوا: والقرينة على ذلك هي أنَّه ذكر قبله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا يحصل به السُّكون، وتهدأ الحركة: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا تنتشرون به، تتفرَّقون في طلب المعايش والأرزاق والحاجات، وما إلى ذلك.

فهذا الموضع في كتاب الله -تبارك وتعالى- من سورة الفرقان يحتمل هذا المعنى: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، يعني: أنَّه حياةٌ وانتشارٌ، تطلبون فيه الأرزاق.

إذن: الحمد لله الذي أحيانا -هذه نعمة- بعدما أماتنا، وإليه النُّشور، فيتذكر العبدُ أنَّ الذي أحياه بعد موتته الصُّغرى قد أنعم عليه بنعمةٍ مُتجددةٍ تستحقّ الشُّكر، وأنَّه قادرٌ على إحيائه بعد موتته الكبرى، فالمعنيان سائغان في هذا المقام، فكل ذلك ينبغي أن يتذكره العبدُ.

الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النُّشور أنَّ الإعادة بعد الموتة الصُّغرى لهذه الحياة الجديدة في يومٍ جديدٍ إنما هي إلى الله وحده، ليس لأحدٍ سواه، لا أحد يستطيع أن يردّ إليه روحه، بالإمكان -الله على كل شيءٍ قدير- أن تبقى روحُه عند ربِّه -تبارك وتعالى- فلا ترجع إليه، فيكون آخر العهد به في هذه الحياة الدنيا، كما أنَّ ذلك أيضًا في الوقت نفسه يُذكره بالنُّشور الأكبر يوم القيامة.

انظروا كيف ترتبط هذه المعاني، وتربط القلبَ بمصالحه الكبرى، والحقائق الكبرى، والمستقبل الذي ينتظره، والنِّعَم المتجددة؟ وكيف يُبتدأ اليوم بالذكر والحمد لله ؟

هكذا يكون المؤمن، فإذا كان يفقه هذه المعاني التي يُرددها؛ فإنَّ قلبَه بمعزلٍ عن الغفلة، من أين تأتي الغفلةُ لقلبٍ يفقه هذه المعاني ويعقلها، وهو في غاية اليقظة؟!

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل قلوبنا حيَّةً، عامرةً بذكره وشُكره وحُسن عبادته، اللَّهم اجعل القرآنَ ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهابَ أحزاننا، وجلاء همومنا.

اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2711).
  2. انظر: "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" لمحمد بن علي الإثيوبي (42/ 303).
  3. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنووي (17/ 35).
  4. "تفسير الطبري = جامع البيان" ط. هجر (17/ 466).
  5. انظر: "تفسير القرطبي" (13/ 39).

مواد ذات صلة