الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(53) العابدون المتفكرون أولو الألباب في قوله تعالى " لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ "‏
تاريخ النشر: ٢٢ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 2977
مرات الإستماع: 3006

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيها الأحبّة، لا زال الحديثُ عن هذه الآيات التي كان النبيُّ ﷺ يستفتح بها بعد استيقاظه بين يدي صلاته من الليل، وهي الآيات الأخيرة من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] لآيات لأصحاب العقول الرَّاجحات، حيث يتعرَّفون بها على وحدانيَّة الله ، يتعرَّفون بها على ربوبيَّته، يتعرَّفون بها على أوصافه الكاملة، ويتعرَّفون بذلك على قُدرته -تبارك وتعالى- على البعث والنُّشور، ويتعرَّفون بذلك على أنَّ الله -تبارك وتعالى- ما خلق هذا الخلقَ من أجل العبث، تعالى وتقدَّس وتنزَّه عن ذلك علوًّا كبيرًا.

هذه الآيات: إنَّ في خلق السَّماوات والأرض لآيات، فهنا الله -تبارك وتعالى- لم يُقيد ذلك بأنها آيات على كذا، وإنما أطلقها، فهي آيات على إلهيته، وربوبيَّته، وأسمائه، وصفاته، هي آيات على قُدرته، هي آيات كثيرة عامَّة، فجاءت بهذا الإطلاق، لكن مَن الذي ينتفع بذلك؟ مَن الذي يعتبر؟

هم أولو الألباب، أصحاب العقول الصَّحيحة التي تُرشدهم بطريق النَّظر الصَّحيح والتَّفكير السَّليم الموجّه إلى ما ينفع، تُرشدهم إلى هذه المطالب العالية، ويتعرَّفون من خلالها على حقائق كبرى، فيعرفون أنَّ هذه الدَّار ليست بدار قرارٍ، ويعرفون أنَّهم لا بدَّ لهم من انتقالٍ إلى دارٍ أخرى يُحاسَبون فيها، ويُجازون على أعمالهم الصِّغار والكبار.

هذه آيات -أيها الأحبة- مشهودة، يُشاهدها كلُّ أحدٍ، ولكن الله خصَّ هؤلاء -أعني: أولي الألباب- لأنَّهم الذين ينتفعون بها، فصحَّ تخصيصُهم بذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، مع أنَّه هُدًى لجميع الخلق، لكن لما كان المتَّقون هم المنتفعون به صحَّ تخصيصُهم بذلك، أمَّا أولئك من الصُّم البُكم الذين لا يعقلون، فهؤلاء كما قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22]، فهؤلاء لا عقولَ لهم، ولا أسماع، ولا أبصار ينتفعون بها؛ ولذلك لا خيرَ فيهم، والله يقول بعدها: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23]، نسأل الله العافية.

فهؤلاء حالهم كما قال الله : إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ [الفرقان:44] كالبهائم، كالسَّوائم، فهم يُشاهدون هذه الأجرام العلوية، وهذه المخلوقات الأرضية من الجبال، والوهاد، والهضاب، والبحار، ولكنَّهم لا ينتفعون بها، الذين ينتفعون هم أولو الألباب.

إذن -أيها الأحبة- مَن رزقه اللهُ بصرًا نافذًا ينتفع بما حوله مما يُشاهده من آيات الله، ودلائل قُدرته؛ فهو في نعمةٍ عظيمةٍ، قد اجتباه الله، وحباه، ووفَّقه، وهداه، وأعطاه ما حُرم منه الكثيرون، فتميز عن عالم العجماوات، عن عالم الدَّواب والبهائم بهذا العقل، قد يكون الإنسانُ عالـمـًا كبيرًا في علوم الذَّرة، في علوم النَّبات، في علوم الفلك، ويتحدَّث عن دقّة هذا الخلق، وعجيب صُنعه، وهو لا يعرف ربَّه وخالقه، فهذا لا خيرَ في علمه، ولا خيرَ في عقله، ولا خيرَ في ذكائه، فكم من ذكيٍّ صار ذكاؤه جنايةً عليه، وكم من ذي علمٍ كان علمُه وبالاً عليه، أدَّى به إلى ردِّ ما جاءت به الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، فأولئك الذين فرحوا بما عندهم من العلم لم تنفعهم علومهم، ولا ذكاؤهم؛ فكان ذلك سببًا لكفرهم، وغيِّهم، وهوانهم على ربِّهم -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه.

وهذا -أيها الأحبة- أعني قوله -تبارك وتعالى-: لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190- 191] يدل على شرف التَّفكر والاعتبار، فإنَّ هذه عبادة يُعْمِل فيها أهلُ الإيمان فكرَهم حال نظرهم في صفحة الكون؛ فيحصل لهم من العلوم والمعارف والإدراكات ما لا يُقادر قدره.

وكذلك حينما ينظرون ويتفكَّرون في آيات الله المتلوة –القرآن- يحصل لهم من هذا التَّدبر ألوانُ الفتوح والهدايات التي تفتح على هذه الأذهان الطّيبة النَّقية؛ لأنَّه كتابٌ مُطَهَّرٌ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، وكذلك معانيه وهدايته لا تنالها إلا القلوب الطَّاهرة، كما قال ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[1]، وذكره الحافظ ابن القيم[2].

فهذه هي آيات لأولي الألباب الذين وصفهم اللهُ بالوصف بعده في الآية التالية، مَن هم هؤلاء؟ أصحاب العقول الرَّاجحات، كيف نُقيِّم الناس؟ كيف نعرف العاقلَ من السَّفيه الجاهل؟

العبرة -أيها الأحبّة- ليست بنياشين يلبسها الإنسانُ، وليست بألقابٍ يتلقَّب بها، فيُقال: هذا كبير القوم، كبير القبيلة، كبير الأسرة، عميد الأسرة، هذا المسؤول الفلاني، هذا التاجر الفلاني، لا، ما المقياس؟ المعيار ما هو؟ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَن هم؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قائلين: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

هؤلاء هم العُقلاء، هذا هو العقل الحقيقي، وإن ظنَّه كثير من هؤلاء الذين لا خلاقَ لهم، لا يعرفون الله، ولا يُعظِّمونه حقَّ تعظيمه، لربما يظنون أنَّ هؤلاء من السُّفهاء، من البُسطاء، من السَّطحيين، ولكن المعيار عند الله يختلف عن هذا.

ولهذا لما ذكر اللهُ خبرَ أيوب ، وذكر قصَّته عقب الموضع الأول بقوله: وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص:43]، وفي الموضع الآخر: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]، نفس القصة: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ، لما دعا ربَّه: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:83- 84]، فرفع اللهُ ضُرَّه، وعافاه.

ختم اللهُ خبرَه في موضعٍ بقوله: وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وفي الموضع الآخر: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، العلماء أخذوا منها النَّتيجة؛ الجمع بين هذين الموضعين: أنَّ أُولي الألباب يُساوي العابدين، وركَّب عليه الفُقهاء مسألةً، قالوا: لو أوصى بماله لأعقل أهل البلد، أعطى أعبد أهل البلد لله ، أكثر الناس عبادةً، لماذا؟

لأننا جمعنا بين الموضعين؛ فنتج أنَّ أُولي الألباب هم العابدون؛ لأنَّه بعيد النَّظر، هو ينظر إلى ما وراء الدنيا، أما قصير النَّظر فهو ينظر إلى نظرٍ قصيرٍ لا يُجاوز أنفه، ينظر إلى كيف يحصّل هذه المكاسب؟ الطَّمع، كيف يحصّل اللَّذات والشَّهوات العاجلة، المقتضبة، القريبة؟ ولسان حاله يقول كما قال بعضُهم: إذا وقعنا في حفرته يفعل فينا قُدرته -نسأل الله العافية-، قالها بعضُهم، يعني: هذا من أولي الألباب؟! هذا يُفكِّر؟! هذا يعرف العواقب؟! هذا يعرف قدرةَ الله؟! هذا يُعظِّم الله حقَّ التَّعظيم؟!

فهذه عبادة -أيها الأحبة- التَّفكر، لا تتجلَّى إلا لأصحاب القلوب الحيَّة، القلوب اليقظة، أمَّا أولئك الذين قد ماتت قلوبهم فإنَّهم لا يصلون إلى هذه المقامات والدَّرجات العالية.

بعض السَّلف كان يقول: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيءٍ إلا رأيتُ لله عليَّ فيه نعمة، أو لي فيه عِبرة[3]. كل شيءٍ يُشاهده يعتبر به، فكيف بالسماوات والأرض؟ كيف بالجبال والبحار؟

يقول: كل شيءٍ أُشاهده لي فيه عِبرة، يعتبر في كل شيءٍ، إذا رأى إنسانًا قد احدودب ظهره اعتبر، هذا حال الدنيا، إذا رفع رأسَه ونظر إلى القمر قد تحوّل إلى هلالٍ؛ عرف أنَّ هذه سنة الله في هذه الحياة، يبدأ الشَّيء صغيرًا، ثم يكتمل، ثم يتلاشى، إذا نظر إلى سيارةٍ قديمةٍ أدرك أنَّ حالَ جميع السَّيارات والمراكب الجديدة التي لربما تستهوي الكثيرين أنَّ هذه حالها، إذا مرَّ بدارٍ خربةٍ تذكر أنَّ حال كل الدور في هذه الدنيا سيصير إلى هذا الخراب، إذا رأى ثوبًا رثًّا عرف أنَّ كلَّ جديدٍ سيصير إلى هذا، في كل شيءٍ يعتبر ويتَّعظ وينتفع غايةَ الانتفاع.

أمَّا الذي نظره لا يُجاوز أنفَه فهو ينظر نظرًا قصيرًا، إذا نظر إلى سيارةٍ ذات بهرجٍ فتنته، وإذا رأى امرأةً لا زالَ فيها بقيةُ رمقٍ من شبابٍ أخذت بمجامع لُبِّه وعقله؛ فطاش عقلُه، وطلب الحرامَ ولو كان في ذلك دفعٌ، ولو دفع في ذلك العاقبة، والآخرة، والجزاء عند الله والثَّواب والجنّة، إلى غير ذلك.

الحسن البصري كان يقول: "تفكّر ساعة خيرٌ من قيام ليلةٍ"[4]، لماذا تفكّر ساعة؟ لأنَّه كما جاء عن ابن عباسٍ: ركعتان مُقتصدتان في تفكُّرٍ خيرٌ من قيام ليلةٍ والقلب ساهٍ.

هكذا كانوا يقيسون العبادات، ويعرفون قدر التَّفكر، فالفكرة عندهم كما يقول الحسنُ البصري: مرآةٌ تُريك حسناتك وسيّئاتك[5]. إذًا هي ذات شأنٍ كبيرٍ، لكن المشكلة السَّادر، الغافل الذي لا يتفكّر، متى يرعوي؟ متى يرجع؟ متى يؤوب؟ متى يتوب؟ متى..؟

الفكرة -كما يقول سفيانُ بن عُيينة-: نورٌ يدخل قلبَك[6]. فالذي قلبُه قد أظلم، وقد سفت عليه السَّوافي، هذا كيف ينظر في عمله، وحاله، ومآله، وما هو عليه؟ ومتى يرعوي؟ ومتى يتوب؟ ومتى يستقيم؟ ومتى تصلح حاله؟ ينظر فيما يقول، وفيما يُزاول، وفيما يعمل، أين نيَّته من هذا في كتاباته، في قراءاته، في كل شيءٍ، في ذهابه، في مجيئه، في دعوته، في كلامه، في خُطبته؟ هل له فيها نيَّة؟ ما له فيها نيَّة، وماذا يُريد بهذا الكلام؟ ماذا يُريد بهذه الكتابة؟ هو يُريد ما عند الله، وإلا يُريد ما عند الناس؟

بعض الناس سادرٌ حتى في الأعمال التي ظاهرها أنها خيرية، أعمال صالحة في ظاهرها، هكذا هو غافل، ولكنَّه إنما يقوم ويقعد في إعزاز نفسه ورفعها، وهو غافلٌ، يذهب، ويُسافر، ويكتب في تويتر، ويكتب في الفيس بوك، ويكتب في المنتديات، ويكتب في كل مكانٍ، والشُّغل كلّه يدور أحيانًا حول هذه النَّفس؛ لإعزازها ورفعها، أن تكون نفسُه هي العُليا، هو ينظر بالعين الحولاء على هذا العدد: كم بلغ عدد المتابعين؟

هذا قيامٌ وقعودٌ ليس لله، هذا ما يتفكَّر، فقد يكون الإنسانُ أعماله في الظَّاهر صالحة، ولكنَّه غافلٌ، وقد لا يجرؤ الناس على مُكالمته، قد يظهر هذا للناس، ولكنَّهم لا يستطيعون أن يقولوا: صحح نيَّتك، أصلح قصدك، أصلح عملك.

وإلا لو صلحت نيَّاتنا -أيها الأحبة- لكان لسانُنا النَّاطق وصوتنا العالي: ما مني شيء، ولا لي شيء. وما أصبحنا على هذه الحالة التي نُشاهدها من التَّفرق في أحوالنا كلّها بجميع الميادين، كل واحدٍ يقول: أنا، نحن، وهؤلاء أوزاع، وهؤلاء أوزاع، وهكذا، هذه مُصيبة وبلوى ابتُليت بها الأُمَّة في هذا العصر، وقبله عصور مُتطاولة.

لو صحَّت منا النِّيات -أيها الأحبة- لكان لسانُ الجميع: ما مني شيء، ولا لي شيء، أنا المكدى، وابن المكدى، أنا في آخر الركب. لا يشترط أن يكون الإنسانُ رأسًا، هو المسؤول عن المشروع، هو المقدّم في كل شيءٍ، هو الذي يُذكر اسمه، هو الذي يُنوّه به، لا، دعك من هذا الكلام، هذا لا قيمةَ له عند الله .

لو كنا بهذه المثابة لما استطاع هذا القردُ الذي يُقال له: بشار، لما استطاع أن يصمد يومًا واحدًا، ما يستطيع لو وجد أُمَّةً بهذه المثابة، لسان الحال: ما مني شيء، ولا لي شيء. إن كان في السَّاقة فهو في السَّاقة، هذا يحتاج أن نتفكَّر فيه، وكما قال بعضُهم:

إذا كان المرءُ له فكرة ففي كل شيءٍ له عِبرة[7]

في أحوال الناس، في خلق الله -تبارك وتعالى-.

ابن المبارك يذكر أنَّ رجلاً مرَّ براهبٍ عند مقبرةٍ ومزبلةٍ، هذا الراهب جالسٌ عند مقبرةٍ ومزبلةٍ، فناداه، قال له: يا راهب، إنَّ عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعتبر: كنز الرِّجال، وكنز الأموال؛ كنز الرجال المقبرة، وكنز الأموال[8] المزبلة -أعزكم الله-.

ولعلي ذكرتُ في بعض المناسبات عِبرة: كان عندنا هنا المقبرة يُقابلها التَّشليح، كنتُ أعجب حينما أنظر إلى هذا المشهد، من هنا على اليمين تشليح، مقبرة السَّيارات التي لطالما نظر إليها النَّاظرون وأعجبتهم واستهوتهم حال حداثتها، وعلى اليسار مقبرة الرجال، مقبرة الناس، عِبرة كبيرة جدًّا، هذه هي النِّهاية، هذه السيارات، وهؤلاء الناس.

في الحجِّ كنتُ أقول للإخوان: انظروا للعِبرة، هذا بوفيه مُمتد، ومن هنا -أعزَّكم الله- من الجهة الثانية دورات المياه، الحياة ما بينهما: المطاعم، والملاذ، وفي النِّهاية هذه هي الحياة التي يغترّ بها العالم والناس، ويتصارعون عليها، ويضيعون الدِّين، ويترك الصَّلاة، ويترك ذكر الله ، لكن الذي يُفكِّر يعرف أنَّ هذا كلَّه ماشٍ: أبو ريالين، وأبو مليونين، وأبو مليارين، هم كلّهم لابسون هذه الخرقة: شماغًا، وثوبًا يكفيه أبو عشرة، وملفاها على كفنٍ من البلدية مجاني، فلماذا يتهافت الإنسانُ؟ يُفكِّر في مثل هذه الأمور.

ولهذا كما قال بشر الحافي: لو تفكَّر الناسُ في عظمة الله لما عصوه[9].

عمر بن عبدالعزيز عندما بكى، وسألوه، قال: فكَّرتُ في الدنيا ولذَّاتها وشهواتها؛ فاعتبرتُ منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولا إن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إنَّ فيها مواعظ لمن ادَّكر[10].

وما أكثر المواعظ في هذه الحياة الدنيا، مليئة بالمواعظ، يُوعَظ الإنسانُ بنفسه، ويُوعظ بمَن يُشاهده من غيره، لكن الحجب، والغفلة، وكثرة الفضول من الخلطة، والنوم، والكلام، والنَّظر تحول دون القلب، فضلاً عن المعاصي.

ولهذا الحسن يقول: يا ابن آدم، كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثٍ، ودع الثلثَ الآخر تتنفَّس للفكرة[11].

ولهذا قيل للإمام أحمد: يحصل الخشوعُ مع الامتلاء والأكل الكثير؟ قال: ما أراه، ما يحصل.

فهذا يحتاج الإنسانُ أن يتأمَّل فيه؛ ولهذا قالوا: الفكرة تُذهب الغفلة، وتجذب للقلب الخشية، كما يُنبت الماءُ الزرعَ[12]. كثرة التَّفكر -أيها الأحبة- حياةٌ للقلوب، ولا شكَّ أنها حياةٌ عظيمةٌ، وأيُّ حياةٍ!

أختم بأبياتٍ لطيفةٍ في هذا المعنى يقول فيها:

نزهة المؤمن الفكر لذة المؤمن العِبر

إلى أن يقول:

رُبَّ لاهٍ وعمره قد تقضى وما شعر  
رُبَّ عيشٍ قد كان فوق المنى مُورق الزهر  
في خريرٍ من العيون وظلٍّ من الشَّجر  
وسرورٍ من النَّبات وطيبٍ من الثَّمر  
غيَّرته وأهلَه سرعةُ الدهر بالغير  
نحمد الله وحده إنَّ في ذا لمعتبر  
إنَّ في ذا لعبرةٍ للبيبٍ إنِ اعتبر[13]  

تأمَّل، واذهب، وقلِّب النَّظر، اذهب إلى الأحياء القديمة، اذهب إلى النَّواحي التي فيها قصور قديمة، كانت في يومٍ من الأيام عامرة بأهلها، يتمنَّاها كثيرون، والآن خرابٌ، أين اللَّذات التي قضيت فيها؟!

نسأل الله - أن يجعلنا وإياكم من المعتبرين، وأن يجعلنا وإياكم من أولي الألباب: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. انظر: "شرح حديث النزول" لابن تيمية (ص169).
  2. انظر: "التبيان في أقسام القرآن" لابن قيم الجوزية (ص143).
  3. انظر: "تفسير ابن كثير" (2/184).
  4. أخرجه أحمد في "الزهد"، برقم (1547)، وهذا قد رواه أيضًا أبو الشيخ في "العظمة" من قول ابن عباسٍ، ورواه أحمدُ بن صالح في كتاب "التبصرة" من حديث أنسٍ. انظر: "تخريج أحاديث إحياء علوم الدين" للعراقي، وابن السُّبكي، والزبيدي (6/2461).
  5. انظر: "سير السلف الصالحين" لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص730).
  6. انظر: "تفسير ابن كثير" (2/184).
  7. انظر: "صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص486).
  8. انظر: "تفسير ابن كثير" (2/185).
  9. انظر: "تفسير ابن كثير" (2/185).
  10. انظر: المصدر السَّابق.
  11. انظر: "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" للسفاريني (2/111).
  12. انظر: "مفاتيح الغيب - التفسير الكبير" للرازي (9/461).
  13. انظر: "موسوعة الشعر الإسلامي" للشحود (24/4).

مواد ذات صلة