الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(118) دعاء السجود " اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين"
تاريخ النشر: ٢٥ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 2480
مرات الإستماع: 10872

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة نتحدَّث عن ذكرٍ من الأذكار التي تُقال في السُّجود، وهو ما جاء عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي ﷺ: أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة ... وذكر الحديثَ الطَّويل الذي جزَّأه المؤلفُ، وقد مضى منه ثلاثةُ أجزاء، وهو ما يتعلَّق بدُعاء الاستفتاح، وما يتعلق بالركوع، وما يتعلق بالرفع من الركوع، ولا بأس بالتَّذكير بهذا الحديث، أن أذكر متنَه إلى هذا الموضع المتعلق بالسُّجود.

فأوَّله: "كان إذا قام إلى الصَّلاة" بهذا الإطلاق، فهنا لم يُحدد أنَّها صلاةُ تطوعٍ أو فريضةٍ، وهل هي صلاة الليل أو غير ذلك؟

"كان إذا قام إلى الصَّلاة"، فظاهره الإطلاق أو العموم؟

قال: وجهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا أوَّل المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت[1]، إلى آخر دعاء الاستفتاح الذي مضى الكلامُ عليه.

ذاك هو أول هذا الحديث الذي عندنا في السُّجود، وإذا ركع -نفس الحديث- قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي[2]، وهذا قد مضى أيضًا.

وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد، ملء السَّماوات، وملء الأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد[3].

ثم يأتي ما يتعلَّق بالسُّجود: "وإذا سجد قال: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين"[4]، وبقيت فيه بقيةٌ في آخر الحديث بين التَّشهد والتَّسليم، يعني: إذا فرغ من تشهده قبل أن يُسلم، فهذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه".

وذكرنا أيضًا أنَّه جاء عن جابر بن عبدالله : أنَّ النبي كان يقول في سجوده: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصرَه، تبارك الله أحسن الخالقين[5]، هذا بنحو اللَّفظ السَّابق، اللهم إلا في بعض الحروف والألفاظ اليسيرة.

ومثله أيضًا ما رواه محمدُ بن مسلمة ، عن النبي ﷺ: أنَّه كان إذا قام من الليل يُصلي تطوعًا قال إذا سجد: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ[6]، وذكر مثل حديث جابرٍ .

فهنا حديث جابرٍ ، وحديث محمد بن مسلمة، رواهما الإمامُ النَّسائي، وهما حديثان ثابتان صحيحان، لكن الأول حديث عليٍّ هو في "صحيح مسلم".

في حديث عليٍّ قال: "أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة"، فهذا ظاهره الإطلاق، وحديث محمد بن مسلمة: "كان إذا قام من الليل يُصلي تطوعًا"، وقد تكلَّمنا على حديث عليٍّ، وقلنا: بأنَّ الإمام مسلمًا -رحمه الله- وضعه في أبواب قيام الليل، ففهم بعضُ أهل العلم أنَّ الإمام مسلمًا -رحمه الله- يرى أنَّ ذلك إنما هو في قيام الليل، بل ذكر بعضُهم أنَّها رواية في "صحيح مسلم"، والواقع أنها ليست بروايةٍ.

وذكرنا أيضًا بأنَّ ابن خُزيمة ذكره في باب ذكر الدُّعاء بين تكبيرة الافتتاح وبين القراءة، وأنَّ لفظَه عند ابن خُزيمة: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة"[7].

وكذلك أيضًا ذكره ابنُ حبان، ولفظه: "كان إذا ابتدأ الصَّلاة المكتوبة"[8]، وذكره تحت: باب ذكر ما يدعو المرءُ به بعد افتتاح الصَّلاة قبل القراءة. وهو بهذا اللَّفظ: "كان إذا ابتدأ الصَّلاة المكتوبةَ قال: وجَّهتُ وجهي"، إلى آخره، وذكره في بابٍ آخر، وهو ذكر ما يدعو به المرءُ عند افتتاح الصَّلاة الفريضة، ويقول بعد التَّكبيرة. وهكذا أيضًا في بابٍ ثالثٍ.

وفي روايةٍ عند الترمذي: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة"[9].

في روايةٍ عند مسلم: "كان رسولُ الله ﷺ إذا استفتح الصَّلاة كبَّر"[10]، إلى آخره، فظاهر هذا أنَّ النبيَّ ﷺ كان يقوله في الصَّلاة المكتوبة.

وفي الرِّواية التي عند النَّسائي من حديث محمد بن مسلمة، تدل على أنَّ النبي ﷺ قال ذلك في صلاة الليل، فيكون هذا الذكر مما يُقال في الفريضة، ويُقال في غيرها.

اللهم لك سجدتُ هنا تقديم الجار والمجرور: لك سجدتُ، وقلنا: هذا يُفيد الحصر، فلو قال: "سجدتُ لك"، هذا قد يُفهم منه أنَّه سجد لله ولغيره، فلا يمنع من احتمال السُّجود لغيره من حيث اللغة، لكن إذا قال: لك سجدتُ يعني: وحدك دون مَن سواك، فهذا يدل على التوحيد والإخلاص.

وبك آمنتُ لا بغيرك، فإذا قُدِّم المعمولُ على عامله، أو تقديم الجار والمجرور، أو نحو ذلك، فكلّ هذا يُفيد الحصر، أو يُشبه الحصر.

بك آمنتُ، ولك أسلمتُ وهذا فيه التَّفريق بين الإيمان والإسلام، وقلنا: إنَّهما إذا ذُكِرَا مع الاقتران من غير إفرادٍ لأحدهما؛ فإنَّ الإيمانَ يكون بمعنى الإقرار والإذعان القلبي، والإسلام يُراد به: إسلام الجوارح، وإسلام الظَّاهر، فهنا ذكر الإيمان والإسلام: بك آمنتُ هذا يرجع إلى إذعان القلب وتصديقه وانقياده، ولك أسلمتُ بجوارحي.

سجد وجهي للذي خلقَه أشرف ما في الإنسان وجهه، فحينما يضع وجهَه على الأرض هذا تواضعٌ لله ، وهو شرفٌ للمخلوق، وهو تعظيمٌ للمعبود -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، فهنا يُخبر عن فعله.

وقلنا: هذا الذكر يأتي من النوع الثاني الذي يُخبر فيه العبدُ عن حاله، وعن إيمانه، وعن ذكره لربِّه -تبارك وتعالى-، وعبادته له.

سجد وجهي للذي خلقَه والذي خلق هو الذي يستحقّ أن يُعبد، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في عددٍ من المناسبات، وكان الله -تبارك وتعالى- في القرآن يذكر هذا كثيرًا، حيث إنَّ تلك الآلهة التي يعبدونها من دون الله: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]، فالعبادة لا تصلح إلا لمن خلق؛ ولهذا أوَّل أمرٍ في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، الأمر بعبادة الله قرنه بهذه القضية: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فالذي خلق هو الذي يُعْبَد، وهو الذي يستحقّ العبادة دون مَن سواه، ولا يمكن أن يخلق ثم تُصرف العبادة لغيره، فهذا من أظلم الظُّلم؛ ولهذا كان الشِّركُ ظلمًا عظيمًا: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يخلق ويرزق، ثم بعد ذلك تُصْرَف العبادةُ لغيره ممن لا يملك نفعًا ولا ضرًّا! فهذا من أظلم الظلم.

سجد وجهي للذي خلقه أوجده، وجعله بهذه الصُّورة، وقدَّره على صورةٍ معينةٍ يتميز بها عن غيره، لا يشتبه، مع أنَّ هذه الوجوه من حيث مواضع هذه الحواس، وما إلى ذلك، العينان لكل الناس في موضعهما، والأنف في موضعه، والفم في موضعه، ولكن لا يتشابه الناسُ، يُميز بعضُهم بعضًا، يعني: لو نظرتَ إليهم، كما يقول الشيخُ محمد الأمين الشَّنقيطي -رحمه الله-، كثيرًا ما يذكر هذه الموعظة، يقول: "إذا رأيتم الناسَ يوم جمرة العقبة مُجتمعة من أقطار الدنيا، وجدتُموها على صَبَّةٍ واحدةٍ: الأنف هاهنا، والعينان هاهنا، والفم هاهنا، على نمطٍ وأسلوبٍ واحدٍ، مع أنَّه لم تشتبه صورة رجلٍ بصورة رجلٍ حتى لا يُفرَّق بينهما، ولا صورة امرأةٍ بصورة امرأةٍ، فكلٌّ منهم له صورة يُطْبَع عليها، سابق علم الله بها، مُنفَّذ في تصويره بها، وهذا مما يدلّ على كمال وعظمة خالق السَّماوات والأرض"[11].

فهذا الخلق الذي يشترك الناسُ فيه بهذه الحواس، وبهذا الوجه، ومع ذلك يتمايزون، فهذا التَّمايز يدل على قُدرةٍ بديعةٍ في الخلق والتَّصوير والتَّقدير، ودقّة في هذا كلِّه.

فهنا سجد وجهي للذي خلقَه هو الذي يستحقّ أن يُسجد له، وشقَّ سمعه وبصره شقّ السّمع يعني: جعل له منفذًا، وهي هذه الأذن، وإلا فإنَّ السَّمع ليس هذه الأذن، كما هو معلومٌ، ولكن منفذه يكون من هذه الأذن: وشقَّ سمعه وبصره شقّ له هذا الموضع، وجعل العينَ في هذا الموضع، وجعل الأُذنين على الجانبين، وجعلهما اثنتين، هذه من هذا الجانب، وهذه من هذا الجانب، بحيث يسمع الأصوات من جميع النَّواحي، وجعل البصر أعلى، وفي الرَّأس، وعليه هذه الحماية العظيمة، وبهذا التَّجويف، فهو أعلى ما في الإنسان في قامته، وكذلك سمعه بحيث يكون رأسُه كالبرج يرى الأشياء.

وتصوّر لو كان البصرُ في ركب الإنسان، فهو عُرضة لكل آفةٍ، ولا يستطيع أن يرى به ويُبْصِر كما يُريد، لكن جعله الله في هذا الموضع، وفي هذه الجمجمة، وحماه بهذه العِظام، وجعل فوقه الحواجب، وجعل عليه هذه الجفون، وجعل عليها هذا الشّعر، وأسال فيه عينًا مِلْحًا من أجل أن يكون هناك مسحٌ مُستمرٌّ وتعقيمٌ وتنظيفٌ، ولا يحصل له شيءٌ من العفن، وجعلها مالحةً لتُعقِّمه وتُنظِّفه.

فهذا كلّه من دلائل قُدرته -تبارك وتعالى-، فالإنسان يُقرّ ويُذعِن بهذا، ويقول: أنا مُعترفٌ يا ربّ، وأنا أسجد للذي خلق هذا الوجه، وشقَّ سمعه وبصره.

وتصوّر لو أنَّ الإنسان وُلِدَ مطموسًا في موضع العينين، وموضع الأُذنين، كيف يكون حالُه؟ لا سمعَ، ولا بصرَ، هذا لا يمكن أن يتعلم شيئًا، ولا يستطيع الكلام بطبيعة الحال، ولا يفهم لغةَ الإشارة، ولا يمكن أن يتلقَّى شيئًا من المعارف، يكون مثل البهيمة تمامًا.

فالله شقَّ له هذا السَّمع والبصر، وأصل ذلك هذه النُّطفة، حيوانٌ منويٌّ يُلقِّح هذه البُويضة، ثم بعد ذلك يبدأ هذا الخلق ينمو شيئًا فشيئًا: نُطفة، ثم علقة؛ قطعة دمٍ جامدٍ تعلق في الرحم، ثم بعد ذلك يكون مُضغةً، ثم بعد ذلك يبدأ يتحوّل إلى شيءٍ آخر، فيذهب هذا يكون عينًا، وهذا يكون سنًّا، وهذا يكون يدًا، وهذا يكون كُلًى، وهذا يكون كبدًا، وهذا يكون قلبًا، وهذا يكون عروقًا وشرايين، ما الذي يجعل هذا يكون هكذا؟ وهذا يكون هكذا؟ والعين تكون هنا؟ واليد تكون هنا؟ والرِّجْل تكون بهذه الصُّورة، ولا تكون اليدُ بصورة الرِّجْل والعكس؛ لأنَّ الرِّجْل هي التي للمشي ولا بدَّ، والقوائم السُّفلية تكون قويةً متينةً، لماذا لا تكون اليدُ بهذه الطَّريقة؟ لماذا لا ينقلب هذا الخلق: بعض الناس هكذا، وبعض الناس هكذا؟ لا، هو تدبير العزيز الحكيم، هذا العليم الخبير خلق الناسَ بهذه الطَّريقة، هل هناك أحد اختار كيف يُخْلَق؟ أبدًا، وإنما الله هو الذي صوَّره هذا التَّصوير، وخلقه ودبَّره، فهو الذي يُصورنا في الأرحام كيف يشاء، تبارك الله، كثر خيرُه، وعظمت بركتُه، تعالى وتعظَّم.

فهنا نُلاحظ في هذا أنَّه قدَّم السَّمعَ على البصر: شقَّ سمعَه وبصرَه، هذا يمكن أن يُقال: أولاً: لأنَّ السمعَ أنفع من البصر، وقد أشرنا إلى هذا من قبل، فقد يذهب بصرُ الإنسان، لكن السَّمع أهم، ويكون عالـمًا، وإذا ذهب نورُ العين يعود نورُهما إلى القلب، فيكون عنده من الإدراك والحفظ والفهم والنَّباهة والفطنة ما لا يكون عند غيره من المبصرين غالبًا، لكن إذا ذهب السَّمعُ فالمصيبة فيه أعظم؛ ولذلك الإنسان إذا ضعف سمعُه يجد حرجًا حتى في الجلوس مع الناس؛ لأنَّهم يضحكون وهو لا يدري لماذا يضحكون؟ ويُوجِّهون إليه الكلامَ وهو لا يُجيب، فقدَّم السَّمع هنا لأهميته.

ويمكن أن يُقال أيضًا، كما يُشير الحافظُ ابن القيم في كتابه "تحفة المودود"، يُشير إلى: أنَّ السَّمع ينمو في الإنسان قبل البصر[12] في الجنين، يعني: وهو في بطن أُمِّه.

فتبارك الله أحسن الخالقين والخلق عرفنا في أسماء الله الحُسنى أنَّه يأتي لثلاثة معانٍ: فيأتي بمعنى الإيجاد من العدم، ويأتي بمعنى التَّقدير، ويأتي بمعنى التَّشكيل والتَّصوير. كلّ هذا يُقال له: خلقٌ، لكن لما قال اللهُ في آخر سورة الحشر: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، صار معنى "الخالق" هنا بمعنى: المقدّر، والبارئ: الذي أوجد من العدم، والمصوِّر: الذي أعطاه صورةً وشكلاً، يعني: هذا التَّصميم الذي أمامكم، هذه الطَّاولة الذي صنعها في البداية قدَّر أبعادها وارتفاعها ومساحتها طولاً وعرضًا وارتفاعًا، فهذا يُسمَّى: تقدير، ويُقال له: خلق؛ ولهذا تجد يُقال مثلاً: نخلق فكرةً، أو هلموا فلنخلق أفكارًا، بعض الناس ينقبض من هذه الألفاظ، ويرى أنَّها لا تجوز، والصَّحيح أنَّ هذا جائزٌ؛ لأنَّ الخلقَ يأتي بمعنى: التَّقدير: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17]، فهذا بمعنى التَّقدير.

إذا جاء هذا الصَّانع وصنع هذه الطَّاولة، في البداية قدَّرها، ثم بعد ذلك يقطع الخشب، وما إلى ذلك، فهو يصنعها، يُنفذ، فهذا يكون بمعنى: التَّصوير والتَّشكيل.

فقوله -تبارك وتعالى-: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، بعضهم قال: يعني: المقَدِّرين، قدَّر هذا السَّمع والبصر. وبعضهم قال: يعني: المصوِّرين. ولا مانعَ من أن يكون ذلك جميعًا مُرادًا، فالله هو الذي قدَّر هذه الأشياء على وجهٍ في غاية الإحكام والإتقان، ثم أوجدها وأعطاها صُورًا وشكلاً، وكما سبق في الكلام على الأسماء الحُسنى في قول الشَّاعر يمدح مَلِكًا:

وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعضُ القَومِ يَخلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي[13]

تفري ما خلقْتَ؟

أي: ما قدَّرتَ، يعني: أنت تُخطط وتُنَفِّذ؛ لأنَّ لديك قُدرات وإمكانات على التَّنفيذ، وغيرك من الملوك يُقدِّر ويُخطط لأشياء، ولكن إمكانياته لا تسمح، فلا يستطيع أن يُنفذها لعجزه، فسمَّاه: خلقًا.

فهنا أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ بالجمع، فدلَّ على أنَّ المخلوقَ يمكن أن يُوصَف بالخلق، بمعنى: التَّصوير، أو التَّقدير بهذا الاعتبار، لا الذي يُوجد من العدم، فإنَّ ذلك هو الله، وهذا معنى اسمه: البارئ.

ومن ثم فإنَّ المخلوقَ يمكن أن يُقال له: بأنَّه خلق كذا، أو يخلق كذا، بمعنى يُصوِّر ويُقدِّر، يُقال: رجلٌ خالق -كما يقول الليث- أي: صانع[14].

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- عن عيسى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة:110]، {تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} يعني: يُشكِّل من الطين بصورة الطَّير، فسمَّاه: خلقًا.

وهذا كلّه لا إشكالَ فيه، فالله -تبارك وتعالى- أحسن الخالقين، فلا أحسن من تقديره، ولا أحسن من خلقه وتصويره وتشكيله الذي جاء على مُقتضى الحكمة والكمال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3]، وكلّ ذلك يُطابق الغايات المحمودة، فالله يخلق لحكمةٍ؛ ولهذا قال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فهذا كلّه يُفسّر به هذا الموضع.

والشَّنقيطي -رحمه الله- فسَّره بالمقدِّرين[15]، والأمر في ذلك قريبٌ، وكلّ ذلك مما يدخل في معناه -والله تعالى أعلم-.

ولعلَّ هذا يكفي في شرح هذا الحديث.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.

 

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  2. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  3. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  4. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  5. أخرجه النَّسائي: كتاب التَّطبيق، برقم (1127)، وقال الألباني: "صحيح الإسناد".
  6. أخرجه النَّسائي: كتاب التطبيق، برقم (1128)، وقال الألباني: "صحيح الإسناد".
  7. أخرجه ابن خُزيمة: كتاب الصَّلاة، باب ذكر بيان إغفال مَن زعم أنَّ الدعاء بما ليس في القرآن غير جائزٍ في الصَّلاة المكتوبة، برقم (464)، وقال الأعظمي: "إسناده حسنٌ".
  8. أخرجه ابنُ حبان في ذكر ما يدعو المرءُ به بعد افتتاح الصَّلاة قبل القراءة، برقم (1771)، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيحٌ".
  9. أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3423)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ".
  10. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  11. "العذب النَّمير من مجالس الشَّنقيطي في التفسير" (3/6).
  12. "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص273).
  13. البيت لزُهير في "المخصص" (1/409).
  14. "تهذيب اللغة" (7/17).
  15. "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (5/325).

مواد ذات صلة