الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(199) أذكار النوم " اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك ..."
تاريخ النشر: ٢٩ / شوّال / ١٤٣٥
التحميل: 2064
مرات الإستماع: 2270

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

 

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نواصل الحديث -أيّها الأحبّة- في الكلام على الأذكار التي تُقال قبل النوم، فمن ذلك: ما جاء عن البراء بن عازب قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا أوى إلى فراشه نام على شقِّه الأيمن، ثم قال: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، ووجهتُ وجهي إليك، وفوضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، ونبيِّك الذي أرسلتَ، وقال رسولُ الله ﷺ: مَن قالهنَّ ثم مات تحت ليلته مات على الفطرة[1].

وفي روايةٍ: قال رسولُ الله ﷺ لرجلٍ: يا فلان، إذا أويتَ إلى فراشك فتوضّأ وضوءك للصَّلاة، ثم اضطجع على شقِّك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، إلى قوله: أرسلت، قال: فإن متّ من ليلتك متّ على الفطرة، وإن أصبحتَ أصبتَ خيرًا. هذا الحديث مُخرَّجٌ في "الصحيحين"[2].

وقوله: "كان رسولُ الله ﷺ إذا أوى إلى فراشه" عرفنا أنَّ هذه الصِّيغة تدلّ على المداومة والاستمرار، وعرفنا المراد بقوله: "أوى إلى فراشه" في مناسباتٍ وأحاديث سابقةٍ؛ فـ"أوى إلى فراشه" بمعنى: أنَّه قصده للنَّوم: أوى إليه.

و"نام على شقِّه الأيمن" مضى في أحاديث أخرى: أنَّ النبي ﷺ كان يضع كفَّه اليُمنى تحت خدِّه الأيمن، وقلنا: إنَّ هذا يدلّ على أنَّه كان ينام على الشقِّ الأيمن، وجاء ذلك مُصرَّحًا به في عددٍ من الأحاديث؛ منها هذا الحديث: "نام على شقِّه الأيمن".

وذكرنا من قبل أنَّ قَصْدَ استقبال القبلة حال النوم لا أصلَ له، وليس بمشروعٍ، ولا مسنونٍ، كذلك توجيه الميت عند الاحتضار إلى القبلة لا أصلَ له، ولكن السُّنة أن ينام على شقِّه الأيمن، وأن يضع كفَّه اليُمنى تحت خدِّه الأيمن، هذا هو المسنون.

ثم قال: اللهم، وعرفنا أنَّ هذه اللَّفظة بمعنى: (يا الله)، فحذف ياء النِّداء، وعوَّض عنها بالميم.

اللهم أسلمتُ نفسي إليك إسلام النَّفس فُسِّر بالإخلاص، ومَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112] بمعنى الإخلاص، وتوحيد الوجهة والقصد:

فَلِوَاحِدٍ كُنْ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ أَعْنِي سَبِيلَ الْحقِّ وَالإِيمَانِ[3]

فهكذا فُسِّر بهذا الموضع على قول طائفةٍ من أهل العلم.

وبعضهم يقول: إنَّه بمعنى الاستسلام، أسلمتُ نفسي إليك يعني: استسلمتُ وانقدتُ، وهذا هو الأصل في استعمال هذه اللَّفظة: أنها تدلّ على الاستسلام، فهنا يُعلن أنَّه قد أسلم نفسَه وقلبَه وجوارحه لربِّه ومالكه ومعبوده ، إذًا لا يحصل منه خروجٌ عن طاعته، ولا انفلاتٌ عن إسلام وجهه لربِّه -تبارك وتعالى-.

ومن ثم فإنَّه لا يصحّ بحالٍ من الأحوال أن يقول هذا وهو ينام على مشاهد أو مسامع محرَّمة، فمن الناس مَن يُشاهد قنوات سيئة، أو غير ذلك، أو ينام على سماعٍ مُحرَّمٍ، فكيف يقول: أسلمتُ نفسي إليك وهو في هذا الحال من الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-؟!

وهنا أسلمتُ نفسي إليك أي: مائلة إليك، أو مُوجّهة ومُعبّدة ومُذللة إليك، وهذا يُشير -إذا فُسِّر بمعنى الاستسلام- إلى انقياد الجوارح لأمره ونهيه، والاستقامة على طاعته.

وجهتُ وجهي إليك هذا أقرب أن يُفسَّر بالإخلاص، كون الأول بمعنى الاستسلام، ووجهتُ وجهي إليك يعني: قصدي، فيتوجّه بقلبه -تبارك وتعالى-، أو وجهتُ قصدي إليك.

ففي إسلام النفس هذا بمعنى: الاستسلام، وتوجيه الوجه هذا بمعنى: الإخلاص لله -تبارك وتعالى-.

وفوضتُ أمري إليك هذا بمعنى: التَّوكل على الله ، فهو يركن إليه بعد أن أخلص له، واستسلم وانقاد، فكل شأنٍ من شؤونه فالله -تبارك وتعالى- يُدبره ويصرفه كيف شاء، فهو مُفوِّضٌ لله ، مُسلم مُستسلمٌ لأمره الشَّرعي والقدري، فهو إذًا يُعلن توكّله على الله؛ ليكفيه ما أهمّه.

ومن ثم فلا يصح بحالٍ من الأحوال أن يقول الإنسانُ: وجهتُ وجهي إليك، وفوضتُ أمري إليك وهو يُرائي بأعماله، ويتزين بها للناس، أو أنَّه قد اشتغل قلبُه بزيدٍ وعمرو من أجل أن ينفعوه، فهو ينتظر الصَّباح من أجل أن يذهب إلى فلانٍ أو فلانٍ من المخلوقين لعلهم أن يُعينوه، وتعلّق قلبُه بهم، سواء كان هذا ممن يشفع له، أو كان ممن يعتقد أنَّه يملك قرارًا في أمرٍ يخصّه، أو كان ذلك فيما يتعلّق بالتَّطبب، فعلّق قلبَه بالطَّبيب.

فهذا كله خلاف التَّوكل، وبذل الأسباب مطلوبٌ، ولكن القلب يبقى متعلِّقًا بالله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ الخلق لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [الرعد:16].

فهذا الإعلان -أيّها الأحبّة- ينبغي أن يكون حقيقةً واقعةً في القلب، وظاهرةً على مُزاولات الإنسان وتصرُّفاته.

وألجأتُ ظهري إليك ألجأتُه بمعنى: أسندتُه، يعني: اعتمدتُ في أموري، فبعد هذا التَّفويض، والتَّوكل على الله فيما يفتقر إليه من أموره، فهو هنا يلتجئ إليه أيضًا فيما يُحاذره ويخافه، أو يتأذَّى به، فيُسند ظهرَه إلى الله -تبارك وتعالى-، بمعنى: أنَّه يركن إليه، ويتقوَّى به، ويستعين بربِّه وخالقه .

وخصَّ ذلك بالظَّهر باعتبار أنَّ العادة الجارية: أنَّ الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه؛ ولهذا يقولون: فلانٌ له ظهر، بمعنى: له سندٌ، ولوطٌ ﷺ قال للملائكة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، والنبي ﷺ قال تعليقًا على ذلك: ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ[4].

فقوله: ألجأتُ ظهري إليك هذا في كلِّ ما يخصّه مما يتعلق بمعايشه، أو في مُزاولاته وأحواله كلِّها، كلّ ذلك: رغبةً ورهبةً إليك، هذا كأنَّه تعليلٌ لما مضى، يعني: هذا التَّفويض والالتجاء وإسلام الوجه لله -تبارك وتعالى- كلّ ذلك طمعًا في رفدك وثوابك، وخوفًا من غضبك وعقابك، فيكون راغبًا، راهبًا.

ويحتمل أن يكون ذلك من قبيل الحال، يعني: ألجأتُ ظهري إليك حال كوني راغبًا في ثوابك، راهبًا من عقابك، وهذا يُشبه ما يُسمَّى: باللَّف والنَّشر، فاللَّف والنَّشر أن يذكر قضايا يُجملها، ثم بعد ذلك يذكر بعده أمورًا ترجع إلى المذكورات جملةً قبله، فهنا فوضتُ أموري رغبةً وطمعًا في ثوابك، رغبةً هذا يرجع للرَّغبة، ألجأتُ ظهري عند مَن فسَّره بما يكون من محاذرة المكروه، فيكون من قبيل العوذ واللُّجوء إلى الله مما يخافه ويكرهه، فيكون ذلك مُتعلِّقًا بقوله: رهبةً، فيكون ذكر جملةً من الأمور منها ما يتَّصل بالرَّغبة، ومنها ما يتَّصل بالرَّهبة.

ثم عقَّب ذلك بقوله: رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك لا مهربَ ولا ملاذَ ولا مخلصَ من الله -تبارك وتعالى- ومن عقوبته إلا بالفرار إليه، فإنَّ مَن خافه لجأ إليه، وفرَّ إليه.

وهذا يُشبه قوله في الحديث الآخر: أعوذ بك منك[5]، فإنَّ العبد إذا خاف ربَّه -تبارك وتعالى- فإنَّه يلجأ إليه، ويركن إليه.

آمنتُ معناه: الإقرار والانقياد والتَّصديق، بكتابك الكتاب هنا مفرد مُضاف، فيحتمل أن يكون المرادُ به العموم، يعني: بكتبك التي أنزلت.

ويحتمل أن يكون الكتابُ المقصود به ما نزل على النبي ﷺ، وكأنَّ هذا هو الأقرب، بقرينة ما بعده من قوله: ونبيّك الذي أرسلتَ.

فهنا الكتاب يحتمل أن يكون القرآن، ويحتمل أن يكون جنس الكتب، فيشمل كلَّ كتابٍ نزل على نبيٍّ من الأنبياء.

ونبيّك الذي أرسلتَ في بعض الرِّوايات: أنَّ النبي ﷺ كان يقول ذلك للبراء، فقال: "ورسولك الذي أرسلتَ"، فرد النبيُّ ﷺ عليه ذلك، وقال: ونبيّك الذي أرسلتَ.

ولاحظوا: مع أنَّ الرسولَ نبيٌّ وزيادة، فلمَّا عبَّر بدلاً من اللَّفظة التي ذكرها النبيُّ ﷺ بلفظةٍ أخرى أبلغ تُؤدِّي معناها وزيادة: "ورسولك الذي أرسلتَ"، فأعادها عليه النبيُّ ﷺ: ونبيّك الذي أرسلتَ، فهذا يُؤخَذ منه -كما ذكرنا في المقدِّمات- أنَّ الأذكار توقيفية، بمعنى: أنَّه لا يبدل لفظًا مكان لفظٍ.

ثم قال النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: مَن قالهنَّ ثم مات تحت ليلته أي: قال هذه الكلمات، ثم مات تحت ليلته، ما معنى: مات تحت ليلته يحتمل معنيين:

يحتمل أنَّه بمعنى: لم يتجاوز الليل إلى النَّهار؛ لأنَّ الليل يسلخ منه النهار، فهو تحته، يعني: أنَّه يقع ذلك قبل أن ينسلخ النهارُ من الليل، وهو تحته.

أو يكون بمعنى: مات تحت نازلةٍ عليه في ليلته، يعني: تحت حادثةٍ تحصل له في ليلته، تحصل له سكتة، أو غير ذلك؛ فيموت في تلك الليلة، فيكون تحت ليلته أي: تحت واقعةٍ، أو حادثةٍ، أو يكون تحت ليلته باعتبار ما ذكر من سلخ الليل من النَّهار.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله- ذكر أنَّ سببَ التَّعبير بالتَّحت: أنَّ الله تعالى جعل الليل لباسًا، فالناس مغمورون ومستورون تحته، كالمستور تحت ثيابه ولباسه[6]، وهذا أوضح، فإنَّ الليل كأنَّه يُظلّه، فهو تحت ظلامه، ومن ثم فمعنى ذلك أنَّه إذا مات في ليلته فإنَّه يكون قد مات على الفطرة، والفطرة هي الإسلام، على الدِّين القويم الصَّحيح؛ ملّة إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام-.

وهذا بمعنى قوله ﷺ: مَن كان آخر كلامه "لا إله إلا الله" دخل الجنَّة[7]، فمثل هذا التَّسليم والتَّفويض والالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى-، كلّ هذا يرجع إلى التوحيد، والإخلاص للمعبود، واستسلام جوارحه، والتَّفويض الذي يقتضي التَّوكل والرِّضا بما يُقدّره من الأقدار، وما يحكم به من التَّشريعات؛ فإنَّه لا يكون له اختيارٌ مع ربِّه -تبارك وتعالى-، فيكون هذا الإنسانُ راضيًا بما يُقدِّره الله عليه، فلا يوجد عنده أدنى اعتراضٍ، وإنما حاله التَّسليم.

فمَن كان بهذه المثابة حقًّا، ويعتقد ما يقول، ويستحضر مثل هذه المعاني، فلا شكَّ أنَّه قد مات خالصًا مُخلصًا على الفطرة، ورغم أنَّ هذه كلمات يسيرة، لكن إذا مات الإنسانُ وهو يقولها يكون بهذه المثابة، فمثل هذا ينبغي أن يُحافظ عليه.

ومن ثم فإنَّ العبدَ يكون بهذه الحال قد ختم له بخيرٍ، وختم له بخاتمةٍ حسنةٍ، وهذا الذي ينبغي أن يشتغل به، وأن يعول عليه، يعني: كثير من الناس ينظرون إلى أشياء أخرى؛ ينظرون إلى خفَّة الجنازة، أو ينظرون إلى هيئة الميت، أو ينظرون إلى أصبعه، أو نحو ذلك، ويقولون: مات وهو يتشهد. ومثل هذا لا شكَّ أنَّه كلام المعصوم -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وهو أولى بأن نتمسَّك به، وأن نحرص عليه، ومثل هذا لا يعجز عنه أحدٌ.

والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب النوم على الشقِّ الأيمن، برقم (5840).
  2. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، باب فضل مَن بات على الوضوء، برقم (239)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (4885).
  3. لابن القيم: "توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية = نونية ابن القيم" (2/258).
  4. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر:51]، برقم (3121)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب زيادة طُمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، برقم (216).
  5. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (751).
  6. نقله عنه في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/1655).
  7. أخرجه أبو داود: كتاب الجنائز، بابٌ في التلقين، برقم (2709)، والترمذي: كتاب الجنائز، باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدُّعاء له عنده، برقم (899)، وصححه الألباني.

مواد ذات صلة