الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(252) الدعاء قبل الطعام " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل بسم الله... "
تاريخ النشر: ٠٨ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 1610
مرات الإستماع: 1545

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا باب "الدعاء قبل الطَّعام"، وأورد فيه المؤلفُ حديثين:

الأول: ما جاء عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: قال رسولُ الله ﷺ: إذا أكل أحدُكم طعامًا فليقل: بسم الله، فإن نسي في أوَّله فليقل: بسم الله في أوَّله وآخره.

أخرجه أبو داود[1]، والترمذي[2]، وابن ماجه[3]، وسكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: "حسنٌ صحيحٌ"، وصححه الحافظُ ابن القيم[4]، والشيخ ناصر الدِّين الألباني[5] رحم الله الجميع.

وقال البُوصيري: "رجاله ثقات على شرط مسلمٍ، إلا أنَّه مُنقطع"[6]، وقال الحافظُ ابن حجر: "له شاهدٌ"[7].

قولها -رضي الله تعالى عنها-، عن النبي ﷺ أنَّه قال: إذا أكل أحدُكم طعامًا فليقل: بسم الله، المقصود بقوله ﷺ: إذا أكل أحدُكم طعامًا يعني: شرع في الأكل، وليس المقصودُ الفراغَ منه، وإنما تكون التَّسمية في مُبتدأه، في أوَّله، فهذا المراد بقوله: إذا أكل أحدُكم طعامًا يعني: شرع في الأكل.

فليقل: بسم الله، يعني: قبل أن يرفع شيئًا من هذا الطَّعام إلى فيه فليقل: "بسم الله"، الباء هذه حملها بعضُ أهل العلم على معنى الاستعانة، يعني: آكل مُستعينًا بسم الله، أو بمعنى المصاحبة: آكل مُستصحبًا اسم الله، وهي إمَّا أن يكون المقدرُ قبلها فعلاً: آكل، أو أن يكون اسمًا: أكلي بسم الله، فيُقدر في كلِّ موضعٍ بحسبه، فإذا أراد الإنسانُ أن يقرأ فقال: "بسم الله"، قراءتي بسم الله، أو أقرأ بسم الله.

ويمكن أن يكون مُؤخَّرًا، يعني المقدر: بسم الله أكلي، بسم الله قراءتي، بسم الله أقرأ. واستحسنه بعضُ أهل العلم، يعني: تأخير المقدر، قالوا: لئلا يُقدّم على اسم الله شيءٌ، فتكون البداءةُ به: بسم الله أقرأ، بسم الله أكلي، بسم الله آكل، سواء قدّر على أنَّه اسمٌ، أو قدّر على أنه فعلٌ.

وهنا النبي ﷺ يأمر مَن شرع في الأكل، مَن أراد أن يأكل أن يقول: "بسم الله": إذا أكل أحدُكم طعامًا هذا صريحٌ في الأكل: "أكل"، وإلا فإنَّ الطَّعام يُقال للشَّراب والأكل، والدَّليل على أنَّ الشرابَ يُقال له: طعام، هو ما جاء في قوله -تبارك وتعالى-: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ يعني: النهر، فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، يَطْعَمْهُ فعبَّر عن المشروب بذلك، فيُؤخذ منه أنَّ الشرابَ يُقال له: طعام؛ لأنَّه يطعم، تقول: فلان لم يطعم، يعني: لم يأكل، ولم يشرب.

لكنَّه هنا ذكر الأكل: إذا أكل أحدُكم طعامًا، وصار ذلك صريحًا في الأكل والشُّرب، ما شأن الشرب يكون داخلاً فيه؟ لأنَّ العِلَّة مُتحققة في الشرب، وذلك أنَّه يذكر اسمَ الله -تبارك وتعالى- على شُربه؛ لتحصل البركةُ فيه، وليندفع عنه المكروه من ضرر هذا الشُّرب، ومن مُشاركة الشَّيطان له؛ لأنَّه إن لم يُسمِّ فإنَّ الشيطانَ يأكل معه ويشرب، فيحتاج إلى التَّسمية.

ثم إنَّ قوله ﷺ: إذا أكل أحدُكم طعامًا فليقل: بسم الله، "إذا أكل أحدُكم طعامًا" الذي حمله عليه عامَّة أهل العلم: أنَّ ذلك إنما يكون في أول الأكل، لا في كلِّ رفعةٍ من الطَّعام، يعني: لا في كل جزءٍ من أجزائه حينما يرفع ذلك بيده إلى فيه.

هذا الذي قاله الجمهورُ: أنَّه في ابتداء الأكل، لكن من أهل العلم مَن فهم من ذلك أنَّه إذا أكل طعامًا؛ فكل جزءٍ يُقال له: طعام، والكلّ يُقال له: طعام، قالوا: ولتتحقق البركةُ في ذلك أكبر وأوفى على كل جزءٍ من أجزائه. هكذا فهم بعضُ أهل العلم.

وردَّه بعضُهم؛ كالحافظ ابن حجر[8] -رحمه الله-، وكان سماحةُ الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- إذا أكل في كل مرةٍ يرفع طعامًا يُسمِّي الله عليه، كأنَّه فهم ذلك مما ذكر، والله تعالى أعلم.

فليقل: بسم الله هذا أمرٌ، والأمر للوجوب، فدلَّ ذلك على وجوب التَّسمية، فيقول في أوَّله: "بسم الله"، فتكون هذه هي الصِّيغة: "بسم الله"، دون زيادةٍ، خلافًا لما ذكره بعضُ أهل العلم من أنَّ الزيادة تكون أكمل، بأن يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، أو أن يقول في المرة الأولى، يعني: بناءً على أنَّه يُسمِّي في كل مرةٍ يرفع فيها الطَّعام، كما يقوله صاحبُ "الإحياء"[9]، يقول: "في الأولى يقول: بسم الله، وفي الثانية يقول: بسم الله الرحمن، وفي الثالثة يقول: بسم الله الرحمن الرحيم"، وهذا لا دليلَ عليه، ولا يصحّ أن يكون هذا من قبيل الاستحسان بالرأي، وقد ردَّه الحافظُ ابن حجر[10] -رحمه الله- لهذه العِلَّة التي ذكرتُ: لا دليلَ على ذلك.

وهنا ذكر اسم الله -تبارك وتعالى- على الطَّعام يحصل به البركة، ويدفع به السّوء ومُشاركة الشيطان، ويحصل بسبب ذلك من النَّفع والتَّغذي؛ الغذاء للبدن -تغذية البدن-، ويحصل بذلك أيضًا لقائله إذا أحضر قلبَه من استحضار نعمة الله -تبارك وتعالى- عليه حال هذا الطَّعام، وعند خروجه من حوله وطوله وقوّته، وما إلى ذلك من المعاني.

الإمام النَّووي[11] -رحمه الله- كان يرى أن يُزاد فيُقال: "بسم الله الرحمن" في أول الطَّعام، وأنَّه يكفي أن يقول، يُجزئه أن يقول: "بسم الله"، ويحصل بذلك الامتثال.

لكن هذا أيضًا لا دليلَ عليه، إنما يكفي أن يقول: "بسم الله" كما أمر النبيُّ ﷺ، ما قال النبيُّ ﷺ: فليقل: بسم الله الرحمن الرحيم. وإنما يقول: بسم الله: فليقل: بسم الله، فجاء بالصِّيغة، لكن حينما علَّم الغلامَ قال: "سمِّ الله يا غلام".

يحتمل هنا أن يذكر الصِّيغة كاملةً، أو أن يذكر بعضَها، لكن هنا قال: فليقل: بسم الله، فعلَّمه كيف يقول، فيلتزم هذه الصِّيغة، ولا يزيد على ذلك.

ووجه بعضُهم؛ يعني: مَن قال بأنَّه يُسمِّ مع كل مرةٍ يرفع فيها، بعضُهم وجّه ذلك قال: لئلا يشغله الأكلُ عن ذكر الله فتحصل له غفلة في هذا الوقت.

انظر إلى أي حدٍّ يُفكرون وينظرون؛ لئلا ينشغل عن ذكر الله وقت الأكل، مثلما قلنا في الكلام على الخروج من الخلاء أنَّه يقول: "غفرانك"، وأنَّ بعضَ العُلماء علَّله بأنَّه يستغفر من ترك ذكر الله في هذه المدّة التي بقيها في الخلاء، ولو كانت بضع دقائق: "غفرانك" يستغفر، مع أنَّه لا يُشرع له أن يذكر الله في الخلاء، لكن هو يستشعر النَّقص الذي حصل له، والانقطاع عن ذكر الله ، فيقول: "غفرانك"، فكيف بالسَّاعات الطَّويلة؟!

أنا أقول: بصرف النَّظر هل هذه هي العِلَّة، أو لا؟ لكن انظر كيف يُفكر هؤلاء العلماء؟ وكيف يفعلون؟ أين تذهب أفهامهم؟ ينظرون إلى أنَّ الانقطاع اليسير عن الذكر أمرٌ يحصل به شيءٌ من الغفلة، فلا يشغله دخول الخلاء ولا الاشتغال بالطَّعام عن ذكر الله ، فكيف بالذي أكثر ساعات اليوم والليلة وهو في حالٍ من الغفلة، لا يذكر الله إلا قليلاً؟! وهذه صفةٌ من صفات المنافقين.

لكن مهما يُقال من تعليلٍ، فإنَّ المشروع أن يقتصر على قوله: "بسم الله"، ويبقى النَّظر: هل يُشرع له في كل مرةٍ يرفع فيها الطَّعام أن يقول: "بسم الله"، أو لا؟ الذي عليه عامَّة أهل العلم أنَّه يقول ذلك في البداية.

قال: فإن نسي في أوَّله فليقل: بسم الله في أوَّله وآخره يعني: على جميع أجزائه، يعني: آكل أول الطَّعام وآخر الطَّعام مُستعينًا باسم الله، يعني: مُتبركًا باسمه في أوَّله وآخره، أو مُستعينًا، أو مُستصحبًا اسمه؛ لتحصل البركة، ويندفع السُّوء والضَّرر.

ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ التَّسمية في أوَّله مُستحبّة، وليست بواجبةٍ، كما تُستحبّ التَّسمية في أول الشَّراب، كما ذكر ذلك النَّووي -رحمه الله-، وقالوا: يُستحبّ أن يجهر بالتَّسمية؛ ليُسمع غيره، فيقتدون به، ويتذكَّرون إن حصل لهم نسيانٌ، أو ذهولٌ، أو غفلةٌ، وهذا لا شكَّ أنَّه أحسن من قول بعضهم: "قولوا: بسم الله"، "الذي ما سمَّى يُسمِّي"، فالنبي ﷺ ما كان يفعل هذا إلا لمن علم أنَّه لم يُسمِّ، يقول له: "سمِّ الله يا غلام"، أمَّا أن يتّخذ الإنسانُ هذا عادةً ويقول: "الذي ما سمَّى يُسمِّي"، "قولوا: بسم الله"، هكذا، وإذا ركب قال لهم: قولوا دعاء الركوب، وإذا نزل، لا، قل دُعاء الركوب بصوتٍ يسمعونه، فيتذكرون، قل: "بسم الله" عند الشُّروع في الطَّعام، فيسمعون، ارفع صوتك بالذكر بعد الصَّلاة؛ فيتعلَّمون ويتذكَّرون ويسمعون، وهكذا في كل شأنٍ يُشرع فيه ذكرٌ أو دعاءٌ يمكن أن يُسمع الآخرين؛ ليتذكَّروا.

يقول النَّووي[12] -رحمه الله-: ولو ترك التَّسمية في أول الطَّعام عامدًا، أو ناسيًا، أو جاهلاً، أو مُكرهًا، أو عاجزًا لعارضٍ آخر، ثم تمكَّن في أثناء أكله منها؛ يستحبّ أن يُسمِّي ويقول: بسم الله، يعني: في أوَّله وآخره؛ لهذا الحديث.

لكن ما ذكره -رحمه الله- من أنَّ التسمية مُستحبّة، وليست بواجبةٍ، هذا خلاف ظاهر الحديث؛ فإنَّه أمر، والأصل أنَّ الأمر للوجوب؛ ولهذا ذهب الحافظُ ابن القيم[13] -رحمه الله- إلى وجوبها عند الأكل، قال: وهو أحد الوجهين لأصحاب الإمام أحمد[14] -رحمه الله-.

وذكر أنَّ أحاديثَ الأمر بها صحيحة وصريحة، ولا مُعارضَ لها، ولا يوجد إجماعٌ يسوغ مخالفة هذه القاعدة: أنَّ الأمر للوجوب في هذا الموضع، فيبقى على ظاهره، لا سيّما أنَّ الشيطانَ يشترك معه في طعامه وشرابه إن لم يُسمِّ، فتكون التَّسميةُ واجبةً، فإن حصل له نسيانٌ أو ذهولٌ عنها فإنَّه يقول: "بسم الله في أوَّله وآخره"، يعني: أنَّ ذلك يُدرك به أوّله، وكذلك آخر الطَّعام، يعني: ما تبقى منه، ولو لقمة واحدة.

لكن هل يقول هذا لو أنَّه فرغ من الطَّعام إن نسي في أوَّله؟

النبي ﷺ يقول هنا: فليقل: بسم الله في أوَّله وآخره، قد يُفهم منه أنَّ ذلك يقوله إذا كان قد بقيت بقيةٌ من الطَّعام، تذكّر في أثناء الأكل، لا بعد الفراغ منه، فيكون اسمُ الله -تبارك وتعالى- واقعًا على بعض أجزاء هذا الطَّعام، وعلى بعض مُزاولته وفعله، وهو الأكل، فعل هذا المسمّى، هكذا يبدو -والله أعلم-؛ ولذلك مَن نسي التَّسمية حتى فرغ فإنَّه يمكن أن يأخذ لقمةً ويقول: "بسم الله في أوَّله وآخره"، والله أعلم.

هذا ما يتعلق بهذا الحديث، لعلَّ هذا القدر يكفي -إن شاء الله-، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

  1. أخرجه أبو داود: كتاب الأطعمة، باب التَّسمية على الطَّعام، برقم (3767).
  2. أخرجه الترمذي: أبواب الأطعمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في التَّسمية على الطَّعام، برقم (1858).
  3. أخرجه ابن ماجه: كتاب الأطعمة، باب التَّسمية عند الطَّعام، برقم (3264).
  4. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/362).
  5. "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (7/24)، برقم (1965).
  6. "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (4/9).
  7. انظر: "الفتوحات الربانية" (5/182-183)، نقلًا من موسوعة الحافظ ابن حجر الحديثية (5/187).
  8. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/521).
  9. انظر: "إحياء علوم الدين" (2/5).
  10. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/521).
  11. انظر: "شرح النووي على مسلم" (13/189)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/521).
  12. انظر: "شرح النووي على مسلم" (13/188-189).
  13. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/362).
  14. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/362).

مواد ذات صلة