الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(255) دعاء الضيف لصاحب الطعام " اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم "
تاريخ النشر: ١٢ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 1551
مرات الإستماع: 2871

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا باب "دعاء الضَّيف لصاحب الطَّعام"، وأورد فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو ما جاء عن عبدالله بن بسرٍ  قال: نزل رسولُ الله ﷺ على أبي، قال: فقرّبنا إليه طعامًا ووطبةً، فأكل منها، ثم أُتي بتمرٍ فكان يأكله، ويُلقي النَّوى بين أُصبعيه، ويجمع السَّبابة والوسطى، قال شُعبة: هو ظنّي، وهو فيه -إن شاء الله- إلقاء النَّوى بين الأصبعين، ثم أُتي بشرابٍ فشربه، ثم ناوله الذي عن يمينه، قال: فقال أبي -وأخذ بلجام دابَّته-: ادعُ الله لنا. فقال: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم[1]. أخرجه الإمامُ مسلم في "صحيحه".

يقول:"نزل رسولُ الله ﷺ على أبي، قال: فقرّبنا إليه طعامًا" يعني: قال بسر :"فقرّبنا إليه طعامًا ووطبةً"، قُرِّب إليه الطَّعام، هذا الطَّعام يحتمل أن يكون من الخبز كما ذكر بعضُهم، ويحتمل غير ذلك.

قال:"ووطبة" هكذا ضبطه بعضُهم في روايته، والوطبة بهذا اللَّفظ فسّر بالحيس، وهو أن يجمع التَّمر البرني، والأقط المدقوق، والسَّمن، التَّمر البرني نوعٌ من التمر الجيد في المدينة، من أجود التمر في المدينة، فهذا يُزال منه النوى، ثم بعد ذلك يُعجن، ويُدقّ الأقط، والأقط معروفٌ، جافٌّ، وأصله من اللَّبن، يُجفف، فيُؤكل، فيُدقّ، ثم بعد ذلك يُخلط مع السَّمن والتَّمر، وهذا يعرفه الناسُ بأسماء مختلفة في هذا العصر، كل قومٍ يُسمونه باسمٍ، لكن من الناس مَن لا يُضيف إليه السَّمن، ومنهم مَن يجعل ذلك معه بأي صورةٍ كان، يعني: إمَّا أن يخلط مع عنصره تمامًا، يخلط الأقط والسَّمن خلطًا كاملاً، أو أنَّ الأقط يكون في أعلاه، بعضهم يُسميه: الشّعثة، وبعضهم يُسميه: عرابيد، وربما من غير سمنٍ، وبعضهم يُسميه بأسماء أخرى: عبيطة، العامَّة يُسمونه بأسماء مختلفة، لكن هو الحيس إذا كان يتركب من هذه العناصر الثلاث: تمر، وأقط مدقوق، والسَّمن، هكذا فسّر الوطبة.

وبعضهم ضبطه بالرَّاء قال: "ورطبة"، لكن قال بعضُ أهل العلم كالحُميدي[2]: بأنَّه تصحيفٌ.

وضبطه بعضُهم:"ووطئة"، والوطئة طعامٌ يُتَّخذ من التَّمر كالحيس، يعني: مثلما سبق، لكن ماذا يُسمّى؟ هل يُسمّى: وطبة،أو وطئة -هكذا بالهمز بدلاً من الباء؟

فالوطبة أيضًا على هذا الضَّبط فسَّرها بعضُهم بغير ما ذُكِر، يعني: بغير التَّمر المعمول بالطَّريقة المشار إليها.

بعضهم فسّره بأنَّه سقاء من الجلد، سقاء اللَّبن، يقولون:"وطبة".

وبعض أهل العلم يقول: هذا تصحيفٌ"وطبة"، وأنَّه ليس ضبطه كذلك كما سبق، يعني: بعضهم ضبطه "رطبة"، وقيل: هذا أيضًا تصحيفٌ.

وكذلك ضبطه بعضُهم على أنَّه وطئة.

وبعضهم قال: "وطيئة"، كما يُقال: وثيقة، والوطيئة هي طعامٌ أيضًا كما سبق كالحيس، قيل: سُمي به وطيئة؛ لأنَّه يُوطأ باليد، وطيئة مثلما يُقال: عبيطة؛ لأنَّه يعبط فيما يقوله العامَّة اليوم، فهذا لأنَّه يُوطأ باليد قيل له: وطيئة، يمرس؛ لذلك بعضُهم ربما يُسميه: مريسة، لكن ذلك قد يُقال لغير ما هاهنا.

وقال: "فأكل منها"، فلو كانت هي السِّقاء لما قال:"فأكل منها"؛ لأنَّه يقول: "فقرّبنا إليه طعامًا ووطبةً، فأكل منها"، أكل من الوطبة.

إذن ليس المقصودُ بها أنها اسم سقاءٍ، اسمٌ لسقاء الجلد الذي يُوضع فيه اللَّبن؛ لأنَّه لا يُؤكل، وإنما يُشرب ما فيه.

يقول صاحبُ"القاموس المحيط": "الوطيئة: تمرٌ يُخرج نواه ويُعجن بلبنٍ"[3]، ويقصد بذلك -والله أعلم- الأقط، ويقول: بأنَّ الأظهر أنَّ المراد بالطَّعام الخبز[4].

وبعضُهم يقول: الوطيئة هذه هي وعاء فيه بعض الإدام، يعني: جاءوا له بخبزٍ، وجاءوا له بهذا الوعاء الذي يُوضع فيه الإدام، يعني: مثل الغِرارة التي يُوضع فيها القديد والكعك، وأصلها يُقال: وعاء من خيشٍ، ونحوه، يُوضع فيها القمح، ونحو ذلك، مثل: أكياس الطَّحين –الدَّقيق-،وأكياس الأرز، ونحو ذلك، هذه يُقال لها: غِرارة.

الشَّاهد أنهم جاءوا إليه ﷺ بهذا الطَّعام والوطيئة، أو الوطبة، فأكل منها، ثم أُتي بتمرٍ، فكان يأكله.

يحتمل أن تكون الوطيئةُ كما ذكر: أنها وعاءٌ فيه إدام،وجيء بتمرٍ لئلا يكون ذلك من قبيل التَّكرار.

ويحتمل أنَّ المقصود أنهم جاءوا له بذلك التَّمر المعمول بهذه الطريقة، ثم جاءوا له بتمرٍ خالصٍ؛ لقوله في الأول:"لما جيء له بالوطبة، أو الوطيئة فأكل منها، ثم أُتي بتمرٍ، فكان يأكله ويُلقي النَّوى بين أصبعيه"، كيف يكون هذا؟"ويجمع السَّبابة والوسطى".

قال شعبةُ أحد رواته -وهو الإمام شُعبة بن الحجاج- يقول:"هو ظنّي، وهو فيه -إن شاء الله- إلقاء النَّوى بين الأصبعين"، يعني: أنَّ المقصود أنَّه كان من هديه ﷺ أن يُلقي النَّوى بين السَّبابة والوسطى، بعضُهم يُسميها: السَّبابة؛ لأنَّ العربَ تُشير بها عند السَّب، فقيل لها: سبابة، ولكن هذا الاسم غير مُستحسنٍ، فيُقال لها: المسبّحة، هذه التي يُذكر الله فيها، والخطيب يوم الجمعة يُشير بها، والذَّاكر يذكر ربَّه بها، وفي التَّشهد يُشير بأصبعه ويُحركها يدعو بها، الإشارة بهذه المسبّحة، لكن لو قيل لها: السَّبابة، فهنا جاء في هذا الحديث تسمية ذلك بالسَّبابة، لكنَّه ليس من قول النبي ، ولكن من قول الصَّحابي، فلا إشكالَ في هذه التَّسمية، لكن الأولى أن يُقال: المسبّحة، فيُوضع هذا النَّوى هنا بين هذين الأُصبعين، بين المسبّحة والوسطى بهذه الطَّريقة، هكذا، فيكون ذلك طريقة إلقاء النَّوى لمن أراد أن يقتدي بالنبي في ذلك.

ولكن لو أنَّه ألقاه بأي طريقٍ كان، فإنَّ ذلك لا إشكالَ فيه؛ لأنَّ هذه ليست من القضايا التَّعبدية، فمَن أراد أن يتبع النبيَّ في أموره كلِّها، حتى في طريقة إلقاء النَّوى، فإنَّ هذه مراتب عالية.

وكان ابنُ عمر يتتبع ذلك، يعني: يتبع هدي النبي في كل شيءٍ -رضي الله عنه وأرضاه-، حتى إنَّه كان ينزل في المكان الذي نزل فيه النبيُّ وقضى حاجتَه في الطَّريق في السَّفر في الصَّحراء، ونحو ذلك.

لكن المسلم لم يُطالب بهذا، لنا في النبي أُسوة حسنة، لا شكَّ أنَّ شخصه أكمل الأشخاص، وأنَّ هديه أكمل الهدي، لكن الأُمَّة مُطالبة بالاقتداء في القضايا التَّعبدية، وما عدا ذلك فإذا فعل فإنَّ الإنسان يُؤجر على قصد المتابعة، فإن لم يفعل في الأمور العاديَّة فإنَّه يكون بذلك لا يلحقه الحرجُ.

قال:"ثم أُتي بشرابٍ فشربه"، وهذا يدلّ على أنه يصحّ، لا إشكالَ في الشُّرب بعد الأكل، الأطباء ينهون عن هذا ويقولون بأنَّه لا يصحّ، وأنه مُضرٌّ، ولكن هدي النبي أكمل الهدي، بعدما أكل أُتي بشرابٍ فشربه.

ويحتمل أنَّه أُتي بشرابٍ بعد مدّةٍ من الأكل،فـ"ثم" تُفيد التَّراخي، لكن ليس في هذا ما يُبين المدّة التي بقيها النبيُّ بين الأكل والشُّرب، ولا أعلم شيئًا عنه في ذلك، بل كان من عادتهم أنَّهم يتبعون الطَّعام بالشَّراب، والله قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا[الأعراف:31] للإباحة، وليس المقصودُ بذلك الترتيب، حتى في قوله -تبارك وتعالى-: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ۝ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ[الواقعة:20-21]، بعضُ الناس يقول: هذا يدلّ على تقديم الفاكهة قبل الطَّعام. وهذا غير صحيحٍ؛ فإنَّ هذه المذكورات ذُكرت هكذا مُتعاقبة، لا يدلّ على ترتيب ذلك في الخارج، يعني: إذا أراد الإنسانُ أن يأكل لا يقتضي ذلك أنَّ المقصود بالآية أنَّ الفاكهة تُؤكل قبل الطَّعام، بل إنَّ الأطباء يقولون: إنَّه لا يُجمع بين الطَّعام والفاكهة، وإنما يُؤكل كل واحدٍ على حدة، هكذا يقولون.

فالمقصود أنَّ ما يُفهم، أو ما قد يُفهم من هذه الآية أنَّه ليس بذاك، والله تعالى أعلم.

يقول هنا:"ثم أُتي بشرابٍ فشربه"، يعني: بعد الأكل،"ثم ناوله الذي عن يمينه"، والسُّنة أن يُعطى الشَّراب للكبير؛ الكبير في القدر، الكبير في السنِّ، بحسب المجلس، قد لا يُوجد فيه إلا كبيرٌ في السنِّ، فيُعطى له، وقد يُوجد فيه كبير قدرٍ: كالإمام العادل، أو العالم، أو الوالد، أو نحو ذلك؛ فيُقدّم في الشَّراب، فيُعطى، ثم يُدار عن يمينه، يمين مَن؟

يمين الشَّارب، وليس الذي يُعطيه، ليس يمين المعطي الذي يدور عليهم بالسِّقاء، إنما عن يمين الشَّارب يدور، هكذا السُّنة:"ثم ناوله الذي عن يمينه"، وهذا يدلّ على أنَّه لا يُشرع -كما يفعل بعضُ الناس- أن يبدأ بالإناء، أو بالطَّعام، أو نحو ذلك، أو بصبِّ القهوة، أو نحو ذلك مما يُشرب في المجلس: أن يبدأ بيمين المجلس من أول واحدٍ في المجلس؛ اعتقادًا بأنَّ البداءة باليمين مطلقًا، لا، وإنما يبدأ بالكبير، ثم مَن يكون عن يمينه، هذا هو المشروع.

قال:"ثم ناوله الذي عن يمينه"، قال:"فقام أبي وأخذ بلجام دابَّته" يعني: بعدما خرج وركب دابَّته، قام بسر وأخذ بلجام الدَّابة، وهذا فيه من التَّواضع وتعظيم النبي والإكرام له: أن يأخذ بلجام دابَّته.

وقال:"ادعُ اللهَ لنا"، ليس هذا في مُقابل هذا الإطعام والضِّيافة، فإنَّه ليس ذلك بمقصودٍ: أن يُقدّم له طعامًا، ثم يقول: ادعُ مُقابل هذا الطَّعام، فيكون ذلك على سبيل المكافأة، وإنما الذي يُطعم ويُريد ما عند الله -تبارك وتعالى- لا ينتظر مُكافأة ممن أعطاه، ولو بالدُّعاء، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ[الإنسان:8]، لما ذكر هؤلاء وإطعام الطَّعام على حبِّه، ذكر شعارَهم بعد ذلك: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان:9].

شيخ الإسلام[5]-رحمه الله- يقول: بأنَّ الذي يُطعم أو يُعطي، ثم بعد ذلك ينتظر الدُّعاء، يعني: يُعطي من أجل الدُّعاء، أو يُعطي من أجل الشُّكر، فإنَّ ذلك لا يدخل في قوله: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا؛ لأنَّ هذا ينتظر الشُّكران، ينتظر المكافأة، ينتظر العوض، وإنما يُريد ما عند الله فقط.

ثم أيضًا مُقتضى الكرم في الضِّيافة ألا يطلب من الضيف أن يُكافئه على هذا العطاء؛ ولذلك لا يُحمل هذا على هذا النوع: أنه قصد المكافأة؛ لأنَّه لم يقل ذلك بعد الطَّعام، بعدما أكل قال:"ادعُ الله لنا"، وإنما بعدما قام، بعد ذلك ركب دابَّته، وهمَّ بالانصراف؛ طلب منه الدُّعاء؛ وهذا لكون النبي ﷺ مُستجاب الدَّعوة، سواء قدّم له طعامًا، أو لم يُقدّم له طعامًا.

لما جاء النبيُّ ﷺ إلى سعد بن عُبادة ، فسلَّم، فلم يردّ عليه السَّلام ثلاثًا، ثم خرج إليه وأخبره أنَّه سمعه من أول مرةٍ، فهذا الاستئذان: أن يُسلِّم ثلاثًا، ويستأذن، ويقول:"أأدخل"، فبين له أنَّه سمعه، ولكن أراد أن يستكثر من صلاة النبي ودُعائه وسلامه عليه.

ولما أيضًا جاء أبو أوفى بصدقته، بزكاته للنبي قالت امرأتُه: يا رسول الله، صلِّ عليَّ وعلى زوجي. فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى[6]، والله يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ[التوبة:103].

فهذا دُعاء النبي ﷺ وصلاته، وهل يُؤخذ من هذا مشروعية طلب الدُّعاء ممن يُعتقد فيه الصَّلاح:"ادعُ لي"؟

أمَّا في باب الصَّدقة والإحسان فإنَّه لا يطلب من أحدٍ شيئًا؛ لأنَّ الله قال: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وإذا قال:"جزاك الله خيرًا" فقد كافأه؛ ولهذا كانت عائشةُ -رضي الله عنها- تبعث الجاريةَ، أو نحو ذلك، أو الخادم، وتقول:"انظروا ماذا يقولون؟"، يعني: تبعثه بالعطيّة، أو الطَّعام، أو الصَّدقة،"فقولي مثلما يقولون"، يعني: إن قالوا:"جزاكم الله خيرًا"، قولي:"بل أنتم جزاكم الله خيرًا"؛ لئلا يكون قد كافأهم، فمثل هذا إنما يُريد ما عند الله -تبارك وتعالى-.

لكن هل يطلب الدُّعاء عمومًا ممن يعتقد فيه الصَّلاح، ويرجو قبول دُعائه؟

كثيرٌ من أهل العلم يقولون: لا إشكالَ في هذا. وذكر هذا النَّووي[7]-رحمه الله-، بل إنَّ بعضَهم يستحبّ ذلك، ويستدلون بأنَّ النبي ﷺ قال لعمر لما أراد العُمرة:لا تنسنا يا أخي من دُعائك[8]، لكن الحديثَ ضعيفٌ.

شيخ الإسلام -رحمه الله- له رأيٌ في هذه المسألة معروفٌ؛ يرى أنَّ ذلك لا يُشرع مطلقًا، وليس بمحرَّمٍ، ولكنَّه خلاف الأولى: أن يطلب منأحدٍ أن يدعو له، وعلل ذلك بعدّة أمورٍ:

الأمر الأول: أنَّه لا يخلو من افتقارٍ إلى المخلوق، والنبي ﷺ كان قد بايع بعضَ أصحابه على ألا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا،"شيئًا" نكرة في سياق النَّفي، قال: فكان السوطُ يسقط من أحدهم[9]-يعني: هو على الدَّابة- لا يقول لصاحبه: ناولنيه، ينزل، والنُّزول من الدَّابة ليس بالشيء السَّهل، ينزل ويأخذ السوط، ثم يركب مرةً أخرى، فهذه منزلة عالية لا تصلح لكلِّ أحدٍ، يعني: لا تصلح للمُخلطين من أمثالنا، نحن نُعافس المنكرات والسَّيئات والذُّنوب والقبائح، ثم بعد ذلك نريد ألا نطلب من أحدٍ أدنى الأشياء، يحتاج الإنسانُ أن يُكمل الأساسات –الأصول- ثم بعد ذلك ينتقل إلى هذه المراتب العالية، فهذا فيه نوع افتقارٍ إلى المخلوق.

الأمر الثاني: الملحظ الثاني الذي ذكره شيخُ الإسلام: أنَّه لا يخلو من تزكيةٍ لهذا الذي طُلب منه، يعني: كأنَّه مُستجاب الدَّعوة، كأنَّه وليٌّ من أولياء الله، ومَن الذي يستطيع أن يُزكِّي أحدًا، والله يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ[النجم:32]، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ[النساء:49]؟!

عمر يقول:"تقولون لقتلاكم: فلان شهيد، فلان شهيد، الله أعلم بمَن يُقاتل في سبيله"[10]، والرجل الذي قُتل في المعركة والصَّحابة أثنوا عليه خيرًا، وقالوا: "هنيئًا له الشَّهادة"، فأخبرهم النبي ﷺ أنَّ الشَّملة التي غلَّها تُسعّر عليه في قبره[11].

والرجل الآخر الذي قال:هو في النَّار قبل أن يُقتل، لما ذكروا بلاءه، ثم بعد ذلك لما أصابته جراحُه جزع واستعجلفي الموت؛ فوضع ذبابَ السيف بين ثدييه ثم تحامل عليه حتى قتل نفسَه[12].

الأمر الثالث الذي ذكره شيخُ الإسلام هو: أنَّ ذلك فيه تركٌ لما أمر الله به من الدُّعاء، فالعبد مأمورٌ بالدُّعاء، وهذه من أجلّ العبادات، فيترك ذلك، ويطلب من الآخرين أن يدعون له.

هذه ثلاثة أمور، لكن مَن طلب من غيره أن يدعو له لا يُقال: إنَّه فعل شيئًا محظورًا ومنكرًا، لكن هل الأولى أن يترك ولا يطلب من أحدٍ شيئًا؟ شيخ الإسلام يرى أنَّ الأولى الترك.

"ادعُالله لنا"، فقال: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم، هذا هو الشَّاهد:اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، دُعاء لهم بالبركة في الرزق، وهذا يشمل الطَّعام وغير الطَّعام: العلم رزق، والولد رزق، والمال رزق، والطَّعام رزق، وكلّ ذلك.

واغفر لهم، وارحمهم، والمغفرة: التَّجاوز عن السَّيئات، وكذلك السَّتر فلا يفتضح: لا في الدنيا، ولا في الآخرة، والرَّحمة فوق ذلك؛ الرَّحمة هي التي يصل بها إلى الدَّرجات، وهي التي يدخل بها الجنة: لن يدخل الجنةَ أحدٌ بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني اللهُ برحمته[13].

فبرحمة الله  تحصل للعبد خيرات الدُّنيا والآخرة، لا بمجرد المغفرة، فالمغفرة من باب التَّخلية، والرَّحمة من باب التَّحلية، فدعا لهم بهذا الدُّعاء، هل يُؤخذ من هذا أنَّ ذلك يُشرع بعدما يطعم الإنسانُ الطَّعامَ، أو أنَّه قاله ﷺ بناءً على طلبه؛ طلب بسر أن يدعو النبيُّ لهم، فدعا لهم: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم؟

فمن نظر إلى المناسبة، وأنَّ هذا قيل بعدما أكل النبيُّ ، فهم منه أنَّ ذلك مما يُقال بعد الطَّعام، أن يكون ذلك من جملة ما يُقال بعد الطَّعام.

وهذا يحتمل، وهو قريبٌ، لكنَّه ليس نصًّا فيه؛ لأنَّ النبي ما قاله بعدما أكل، أكل وفرغ وانتهى، وأراد أن يذهب، ثم بعد ذلك أخذ بلجام دابَّته، وطلب منه الدُّعاء، فدعا له بمثل هذا، فيُمكن أن يُدعا للمضيف، يمكن أن يُدعا له، ويمكن أن يدعو له إذا أراد أن ينصرف، لكن إنما دعا النبيُّ عند الانصراف لما طلب منه، فلا يقتضي ذلك تخصيصه بهذه الحال، فالأمر في هذا واسعٌ-إن شاء الله-، فإذا قاله الإنسانُ بعد الطَّعام، أو قاله إذا همَّ بالانصراف، أو نحو ذلك، فالأمر يسيرٌ،والله أعلم.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب استحباب وضع النَّوى خارج التمر، واستحباب دعاء الضَّيف لأهل الطَّعام، وطلب الدُّعاء من الضَّيف الصَّالح وإجابته لذلك، برقم (2042).
  2. انظر: "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" (5/245).
  3. "القاموس المحيط" (ص56).
  4. "القاموس المحيط" (ص1133).
  5. انظر: "مجموع الفتاوى" (1/188).
  6. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودُعائه لصاحب الصَّدقة، برقم (1497)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب الدُّعاء لمن أتى بصدقته، برقم (1078).
  7. "شرح النووي على مسلم" (16/95).
  8. أخرجه أبو داود: باب تفريع أبواب الوتر، باب الدُّعاء، برقم (1498)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف أبي داود"، برقم (264).
  9. أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، برقم (1043).
  10. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب غِلظ تحريم الغلول، وأنَّه لا يدخل الجنةَ إلا المؤمنون، برقم (114).
  11. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنُّذور، باب هل يدخل في الأيمان والنُّذور الأرض والغنم والزروع والأمتعة، برقم (6707)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول، وأنَّه لا يدخل الجنةَ إلا المؤمنون، برقم (115).
  12. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأنَّ مَن قتل نفسَه بشيءٍ عُذِّب به في النار، وأنَّه لا يدخل الجنةَ إلا نفسٌ مسلمة، برقم (112).
  13. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم (6463)، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله، بل برحمة الله تعالى، برقم (2816)

مواد ذات صلة