الإثنين 23 / جمادى الأولى / 1446 - 25 / نوفمبر 2024
حديث «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا..»، «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي "باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات، والنهي الأكيد، والوعيد الشديد في تركهن" أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: أمرتُ أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: أمرتُ أن أقاتل الناس الآمر له هو الله -تبارك وتعالى-، كما هو معلوم، يعني: أمرني الله أن أقاتل الناس، ويستثنى من هذا أهل الكتاب، فإنه مأمور بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، أو يعطوا الجزية، كما قال الله : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:29] فهذا هو الغاية التي يقاتل أهل الكتاب حتى يفعلوها، وأما غيرهم، كمشركي العرب، وسائر أهل الأوثان، فإنهم يقاتلون، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، أو القتل.

وهنا قال: أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فذكر هذين الركنين، مع الشهادتين، مما يدل -كما ذكرت في الليلة الماضية- على أن الصلاة والزكاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأشرتُ إلى خلاف أهل العلم فيمن منع الزكاة، وقتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وتسمية الصحابة لهم بالمرتدين على اختلاف أنواعهم؛ ولهذا وقع خلاف مشهور عند أهل العلم: هل من منع الزكاة بخلاً يكون كافرًا، خارجًا من الملة؟

وأما الصلاة فالكلام في هذا معروف، والأدلة على أن تارك الصلاة ولو كسلاً إن تركها بالكلية يكفر، يخرج من الإسلام، أدلة ظاهرة قوية، وهذا الحديث هو أحد هذه الأدلة، فالنبي ﷺ يقول: أمرتُ أن أقاتل الناس أقاتلهم حتى يأتوا بالشهادتين، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وكما قال الله : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ[التوبة:11].

ومفهوم المخالفة: أنهم إن لم يفعلوا هذا انتفت الأخوة الإيمانية عنهم، فليسوا بإخوان لنا في الدين، ولا يمكن أن تنتفي هذه الأخوة إلا بالكفر، فلو أنهم قالوا: تبنا من الكفر، وأعطوا الزكاة، ولكنهم لم يصلوا، فإنهم لا يكونون إخوة لنا في الدين، وهكذا في الآية التي مضى الكلام عليها في قوله -تبارك وتعالى-: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ[التوبة:5] فمعنى ذلك أنه لا يخلى سبيلهم -أعني الكفار- إلا إذا فعلوا هذه الأمور جميعًا.

وقال ﷺ: فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وهذا يدل على أن العصمة لا تتحقق إلا بأن يصلي الإنسان، ويؤدي زكاة ماله.

قال: إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله حق الإسلام كما جاء في الأدلة الأخرى: النفس بالنفس في القصاص، وكما جاء عن النبي ﷺ بأن حد الساحر ضربة بالسيف[2]، ومن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به[3] صح ذلك عن النبي ﷺ إلى غير ذلك مما جاء فيه القتل، فذلك قوله ﷺ: إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله يعني: أن الله يتولى حسابهم، فتوكل سرائرهم وبواطنهم إلى ربهم -جل جلاله-.

قال: وعن معاذ قال: "بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن، فقال: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب[4]، متفق عليه.

معاذ بعثه النبي ﷺ إلى أحد مخلافي اليمن، قاضيًا ومعلمًا، فعلمه ﷺ ما يحتاج إليه فيما يتعلق بهؤلاء المدعوين، وفيما يتعلق بدعوتهم، فهم أهل كتاب، وكيف يبدأ معهم؟ وكيف يتدرج بهذه الدعوة؟ فذكر الصلاة بعد الشهادتين، وقال ﷺ: فإن أطاعوا لذلك ومعنى ذلك أنهم إن لم يطيعوا فقد يفهم منه أنه لا يذكر لهم ما بعده، فهم لم يقبلوا شرع الله -تبارك وتعالى-.

وقد تكلم أهل العلم على مسألة تتصل بالكافر فيما إذا أراد الدخول بالإسلام، والنطق بالشهادتين، مع الاشتراط، كأن يشترط ألا يصلي، أو يشترط أن يباح له شيء من المعاصي كالخمر مثلاً، أو نحو ذلك، فبعضهم قال: يقبل منه ذلك، ثم يطالب بتحقيق مقتضى الشهادتين من إقام الصلاة، وترك المحرمات، وما إلى ذلك.

ومنهم من قال: لا يقبل منه ذلك ابتداء، والمسألة فيها أدلة، لا يخلو كثير منها من ضعف، والله تعالى أعلم، هذا ما يتصل بحديث معاذ .

وقوله ﷺ فيه: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة يعني: الزكاة المفروضة تُؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم أخذ منه أهل العلم مسألة معروفة، وهي نقل الزكاة إلى بلد آخر، فالنبي ﷺ قال: فترد على فقرائهم قالوا: فالزكاة تبقى في البلد، فتؤخذ من الأغنياء، وترد على الفقراء؛ ولهذا منع طائفة من أهل العلم نقل الزكاة إلى بلد آخر، يعني: هل تؤخذ الزكاة مثلاً من هنا من هذه البلدة، ثم تنقل مثلاً توزع في مكة أو لا؟ فيه خلاف معروف، فالذين منعوا احتجوا بهذا الحديث، والأقرب -والله أعلم- أن ذلك جائز، ويدل عليه أن النبي ﷺ كانت القبائل تأتي له بالزكاة في المدينة، وكان ساعي الزكاة يذهب إلى القبائل والنواحي المختلفة، ويأخذ صدقات هؤلاء.

قال: فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم كرائم الأموال يعني: نفائس الأموال، فلا يُؤخذ الأجود والأفضل، فيكون ذلك إجحافًا في حقهم، فالإسلام دين العدل والرحمة، لكنه يأخذ من المتوسط، ولا يأخذ من الرديء فيكون ذلك إجحافًا في حق الفقراء.

قال: واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب وهذا واضح لا يحتاج إلى تعليق.

ثم ذكر حديث جابر قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة[5]، رواه مسلم.

إن بين الرجل وبين الشرك والكفر (أل) هذه عهدية، يعني: الشرك والكفر المعروف والمعهود، وهو الكفر الذي يخرج من الملة، ولا حاجة لتأويل هذا بكفر النعمة، فذلك تكلف لا دليل عليه.

وقوله: ترك الصلاة وقد يفهم منه أن المقصود: الترك بالكلية، وبعض أهل العلم قال: إذا ترك فرضًا واحدًا حتى خرج الوقت فإنه يكفر، وإن كان ذلك من غير عذر.

وبعضهم قيده بخمسة فروض، ولا أعلم أحدًا يقول: بأنه يترك هكذا، يعني: حتى الذين قالوا: إن الكفر هنا المقصود به من جحد، ما أحد منهم قال: إنه يُترك صلى أو لم يصل، قالوا: الذي لا يصلي -بعضهم قال:- يقتل حدًا، معناه: أنه كافر، ترك الإسلام.

وبعضهم يقول: يقتل تعزيرًا، وبعضهم يقول: يحبس ويضرب بالخشب، حتى يصلي، أو يموت، وبعضهم يقول: إنه يحبس حتى يصلي، أو يبقى في الحبس، وأبو حنيفة يقول: يحبس ويضرب بالخشب[6]، والشافعي يقول: يحبس ويجلد حتى يصلي ولا يترك[7]، ولا أعلم أحدًا من أهل العلم قال: إن كان لا يصلي يترك كما يشاء، ويخلى سبيله.

ثم أيضًا هنا مسألة لغوية، وهي قوله ﷺ: إن بين الرجل وبين الشرك كلمة بين وبين، المشهور عند النحاة وعند أهل اللغة أن بين لا تكرر إذا وقعت بين اسمين ظاهرين، إنما تكون مع الضمير وشبهه، فهنا قال: بين الرجل وبين الشرك يعني: المشهور أنه يقال: بين الرجل والشرك، ولا تكرر بين هنا، لكنه كررها، فهذا يدل على أن (بين) تُكرر مع الاسمين الظاهرين، وأنه يجوز ذلك، وإن كان ذلك خلاف المشهور، وقد جاء ذلك في عدد من الأحاديث، وجاء أيضًا في كلام بعض الشعراء الذين يحتج بشعرهم من الجاهليين، وأوقات الاحتجاج من شعراء المسلمين، فهذا يدل على أن هذا الأسلوب صحيح، وإن كان المشهور خلافه، لكن كونه يقال: هذا غلط، هذا غير صحيح، والله أعلم، مع أن كثيرًا من النحاة بل عامة المعاصرين يقولون: إنه غلط، وقولهم هذا هو الغلط؛ لأنه كما ترون جاء في عدد من الأحاديث.

وجاء في حديث شقيق بن عبد الله التابعي المتفق على جلالته -رحمه الله- قال: "كان أصحاب محمد ﷺ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة"[8]، رواه الترمذي في كتاب الإيمان، بإسناد صحيح.

لاحظ "لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر" هل المقصود بهذا كفر النعمة، أو المقصود أن استحلاله يكون كفرًا؟ هو لو استحل غيره من الأعمال، أو الخمر أو استحل الزنا يكفر، فلماذا يخص بالصلاة؟ فهذا يدل على أنهم يقصدون بالكفر الكفر الأكبر، المخرج من الملة، والله تعالى أعلم.

الحديث الأخير في الباب: هو حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئًا قال الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل منها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر أعماله على هذا رواه الترمذي، وقال: حديث حسن[9].

أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله هي صلاته، المقصود بهذا بطبيعة الحال، والله تعالى أعلم أول ما يحاسب عليه في حقوق الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه جاء الحديث الآخر: أول ما يقضى بين الناس في الدماء[10] فذاك في حقوق الخلق والقضاء والفصل بين أهل الخصومات والمظالم، أما الحساب فأول ما يحاسب عليه العبد من أعماله التي تتصل بحق الله -تبارك وتعالى- الصلاة.

إذا الذي لا يصلي، ما حاله؟ جاءه الموت وهو لا يصلي، نسأل الله العافية فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئًا يعني: انتقص العبد من فريضته شيئًا أخل بها قال: الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل منها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر أعماله على هذا يعني: إذا ردت رد سائر العمل، وإذا قبلت قبل سائر العمل، وكذلك أيضًا يكمل الفرض بالنفل، يعني: صوم رمضان مثلاً ما يقع فيه من الخلل يكمل بالنوافل، وهكذا، فمثل هذا يستدعي منا وقفة مع النفس في هذا العمل الذي هو الصلاة، وكيف نؤديها؟ وكيف نحافظ عليها؟ وكيف يؤديها أولادنا؟ وما يقع من الإخلال، أو التفريط بها، أو بشيء من النوافل، فإنها تكمل بها الفرائض.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] برقم (25) ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله برقم (22).
  2. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الحدود، باب ما جاء في حد الساحر برقم (1460) وضعفه الألباني.
  3. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي برقم (1456) وصححه الألباني.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة برقم (1395) ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام برقم (19).
  5. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (82).
  6. نور الإيضاح ونجاة الأرواح في الفقه الحنفي (ص:76).
  7. البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/16).
  8. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2622) وصححه الألباني.
  9. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة برقم (413) وصححه الألباني.
  10. أخرجه البخاري في كتاب الديات برقم (6864).

مواد ذات صلة