الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
حديث «قفلة كغزوة» إلى «الحرب خدعة»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد ما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: قفلة كغزوة[1] رواه أبو داود بإسناد جيد.

قفلة الواحدة من القفول، وهو العودة، والرجعة من الجهاد، قال: قفلة كغزوة، أخذ منه معنى، وهو أن الإنسان حينما يكون في طاعة من الطاعات يكتب له ممشاه كما دلت عليه النصوص، يذهب إلى المسجد، تكتب له خطواته، وكذلك رجوعه إذا رجع إلى بيته، فإن ذلك يكتب، إذا ذهب إلى الحج، ذهب إلى العمرة، ذهب إلى مجلس علم، ونحو ذلك فهذه خطوات مكتوبة، ومضى في الصلاة لما قال النبي ﷺ للرجل الذي قال له من قال: لو اتخذت حمارًا أي من أجل أن يذهب كان مسكنه بعيدًا عن المسجد، فكان يأتي في الرمضاء، وفي الظلماء، يذهب على قدميه، فذكر أنه يحتسب عند الله -تبارك وتعالى- مشيه إلى المسجد، مجيئه إذا جاء للصلاة، ورجوعه إذا رجع إلى أهله، فالنبي ﷺ أقره على ذلك، وأخبره أن له ما احتسب، فدل على أن الرجوع من المسجد يكتب للإنسان كما يكتب له ذهابه[2] فهنا هذا يؤيد هذا المعنى قفلة كغزوة وهذا ليس في الصلاة، فدل ذلك على أن الرجوع من الطاعات عمومًا أنه يكتب للإنسان، وهذا المعنى ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في كتابه المختصر في القواعد المنظومة في القواعد الفقهية، وقد سبق شرحها، والتعليق عليها، والكلام على هذا المعنى، وشواهده، فالحاصل أن المؤمن يحتسب هذا عند الله -تبارك وتعالى- نحتسب المشي في ذهابنا إلى الطاعات، ونحتسب المشي أيضًا في رجوعنا، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده حيث يسر لهم أسباب الأجور، وأفاض عليهم من ألطافه ما لا يخطر على بال.

ثم ذكر حديث السائب بن يزيد قال: لما قدم النبي ﷺ من غزوة تبوك تلقاه الناس، فلقيته مع الصبيان على ثنية الوداع[3]، رواه أبو داود بإسناد صحيح.

كما ذكرت لكم أن المؤلف -رحمه الله- يذكر هذه الأحاديث في الباب، وهي تعبر عن معان تتصل بأنواع منه، يعني الحديث السابق يتحدث عن الرجوع من سفر الجهاد، هذا الحديث يتحدث عن الاستقبال، استقبال هؤلاء الذين جاؤوا، وأن ذلك مشروع، فالسائب بن يزيد يقول: لما قدم النبي ﷺ من غزوة تبوك تلقاه الناس، فتلقيته مع الصبيان، تلقاه الناس ممن لم يخرج من ذوي الأعذار، وغيرهم؛ لأنه قد تخلف عن غزوة تبوك جماعة من الناس، بعضهم اعتذروا بمعاذير، وبعضهم كان معذورًا.

على كل حال على ثنية الوادع، الثنية بعضهم يقول: هي الطريق في الجبل، وبعضهم يقول: هي المرتفع من الأرض، وبعضهم يقول: هي الجبل، وبعضهم يقول: غير ذلك، المقصود: لا شك أنها مرتفعة، سواء كان الطريق في جبل، أو قيل الجبل نفسه ثنية، هي مكان مرتفع في الطريق، فهذه ثنية الوادع، هناك ثنية الوداع المشهورة التي في طريق مكة، وهذه جنوب المدينة، ثنية الوداع المشهورة، أما هذه ففي الشمال، النبي ﷺ قدم من تبوك شمال المدينة، فهي ثنية أخرى، غير ثنية الوداع المعروفة، المشهورة في طريق المدينة.

والذي يظهر -والله أعلم- أن الناس حينما يخرجون، أو يعودون، فهو حينما يودعه أهله، وأحباؤه، ويخرجون من المدينة -وهذا من كمال الأدب، مع المسافر- إلى هذه الناحية سواء كان في طريق تبوك، أو في طريق مكة، أو غير ذلك، فهذه يقال لها: ثنية الوداع، يودع عندها المسافر، فسميت بهذا.

فهنا خرجوا لاستقباله ﷺ خارج البلد: يقول: ورواه البخاري قال: ذهبنا نتلقى رسول الله ﷺ مع الصبيان إلى ثنية الوداع -لاحظ- مع أنه ما كان عندهم وسائل اتصال في ذلك الوقت، إنما يخرجون يتحرون، وبحسب ما يبلغهم ممن سبقوا يأتون بالبشارة مثلاً بمقدمه ﷺ أو نحو ذلك، فيخرج الناس يتحرون مجيئه، فلربما جلسوا نصف نهار، ولربما جلسوا أكثر من ذلك.

وهكذا خرج الناس يستقبلون عمر حينما قدم من الشام لما ذهب يتسلم مفاتيح بيت المقدس في سفرته المشهورة -رضي الله عنه وأرضاه- فلما رجع إلى المدينة، وجد الناس قد خرجوا، والصبيان قد خرجوا، وكانوا قد تركوا الكتاتيب، كانوا في الكتاتيب يحفظون القرآن، وكان ذلك في يوم جمعة، فأمضى عليهم عمر أمضى عليهم ذلك، فكان يوم خميس، فأجرى عليهم ذلك.

فالشاهد: أنه صار ذلك اليوم إجازة عندهم، ويبدؤون دراستهم في يوم السبت، ولذلك فإن التلاميذ منذ ذلك الحين، منذ زمن بعيد لا يحبون يوم السبت؛ لأنه بداية الدراسة، وقد جاء في بعض كلام الشعراء والحكماء، أو نحو ذلك من الظرفاء يذكر يصور فيها أحيانًا كراهية الناس له، أو للشيء الفلاني، أو أنه يكره كذا ككراهية الصبيان ليوم السبت، هذا من قرون متطاولة؛ لأنه بعد إجازة، والناس يستثقلون اليوم الذي يكون بعد الإجازة، ولذلك فإن الإنسان الموظف مثلاً أو المعلم، أو غيره، آخر يوم من الإجازة لربما يثقل عليه اليوم الذي بعده جدًا، ويكتئب، ويشعر أن ذهابه بتثاقل إلى العمل، بينما إذا النفس كالطفل إن تتركه شب على حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم[4].

يقول هنا: وعن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: من لم يغزو، أو يجهز غازيًا، أو يخلف غازيًا في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة[5]، رواه أبو داود بإسناد صحيح.

مضى الحديث: من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق[6] هنا من لم يغزو، أو يجهز غازيًا، يعني بما يحتاج إليه من مال، أو سلاح، أو طعام، أو يخلف غازيًا في أهل بخير، بأن يكون كافلاً لهم، يتعهدهم أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة، والقارعة المقصود بها الداهية، رواه أبو داود بإسناد صحيح.

ثم ذكر حديث أنس أن النبي ﷺ قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم[7] بالأموال والأنفس ظاهر، وأما بالألسن فبإقامة الحجج والبراهين، والرد على أباطيلهم، وما إلى ذلك.

ثم ذكر حديث أبي عمرو، ويقال: أبو حكيم النعمان بن مقرن قال: ((شهدت رسول الله ﷺ إذا لم يقاتل من أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر))[8].

هذا الحديث يفسر الحديث الذي مضى قبل ليال حديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي ﷺ ربما في بعض أيامه التي لقي فيها العدو أخر حتى مالت الشمس، ثم قال لهم ما قال، قال: لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف[9] إلى آخره.

وقد مضى الكلام على هذا، فهذا الحديث يفسره، يقول: ((شهدتُ رسول الله ﷺ إذا لم يقاتل من أول النهار؛ أخر القتال حتى تزول الشمس)) وقلنا هناك بعد الزوال، بعضهم قال: تفاؤلاً بتغير الحال، الشمس تنتقل من حال إلى حال، فذلك تفاؤلاً بالنصر، أو من أجل هبوب الرياح، وهو تفاؤل بالنصر، ولأنه يتغير به الهواء، يعني بحيث ما يستقبل الشمس، وحر الشمس حينما يبدأ بالضحى مثلاً، وإنما يبدأ حرها في حال من الإدبار، من بعد الزوال.

فهنا ذكر العلل والأسباب والحكمة، قال: حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، تهب الرياح تفاؤلاً رياح النصر، والنبي ﷺ يقول: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور[10] والصبا هي الرياح التي من المشرق، والدبور هي الرياح التي تأتي من المغرب.

فالشاهد: وتهب الرياح، وينزل النصر، فيحصل برد الهواء، ويتنزل نصر الله -تبارك وتعالى- هذا إذا لم يقاتل في أول النهار، فإن النبي ﷺ قال: بورك لأمتي في بكورها[11]، هذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا[12]، متفق عليه.

قد مضى الكلام على هذا المعنى من حديث عبد الله بن أبي أوفى وعرفنا هناك أن تمني لقاء العدو يشعر بشيء من الزهو، والثقة الزائدة بالنفس، ولربما يبتلى الإنسان فينكسر، ولا يستطيع الصبر والثبات، والعافية لا يعدلها شيء، ولهذا قال: واسألوا الله العافية ولهذا لا يتمنى الإنسان أيضًا البلاء من المرض، ونحو ذلك، وإنما سأل ربه العافية، فإذا، وقع به البلاء صبر.

ثم ذكر الحديث الأخير في هذا الباب، وهو حديث أبي هريرة وحديث جابر -رضي الله عنهما أجمعين- أن النبي ﷺ قال: الحرب خدعة[13]، متفق عليه.

هنا ضبطه بفتح الخاء، هكذا ضبطه على كل حال بعضهم، كما قال الخطابي: يروى بفتح الخاء، وسكون الدال، وهو أفصحها خدعة[14].

وعلى كل حال بعضهم يقول إن الخدعة هي الواحدة من الخداع، الحرب خدعة، ويكون معناه على هذا إذا ضبط بذلك أنها الحرب خدعة يعني وتنتهي، ينتهي أمرها، يعني بمعنى أن الإنسان إذا لم يتفطن فإن كسره وهزيمته قد تكون بهذه الخدعة، الحرب خدعة، وضبطه بعضهم بضم الخاء، وفتح الدال، خُدَعة يعني أن الحرب تخدع الرجال، وتمنيهم، بمعنى أن الخدعة هو كثير المخادعة، كثير الخداع، ولهذا يقال هذه سوق خدعة، يعني كثيرة التلون والتقلب، ما تعرف لها ضابطًا، فالأسعار ترتفع، وتنزل السلع، تتحرك، ثم بعد ذلك تبور، وهكذا كما يقال: فلان ضحكة، ونحو ذلك.

وبعضهم يضبطه يقول: الحرب خُدْعة بمعنى أنه الحرب خدعة أن ذلك يعني كأنه يقول الحرب الحقيقية خدعة، حقيقة الحرب هي الخدعة، بمعنى أن الإنسان يكفى بها عن القتال، ونحو ذلك، الحرب خدعة، كما تقول مثلاً: العقل تجربة، أو نحو ذلك، الحرب خدعة، فيستطيع الإنسان أن ينتصر بإذن الله بها، ويستطيع أن يكتفي القتال، ونحو ذلك، فهذا مما يرخص فيه بالخدعة من المواضع التي لا تجوز فيها، يعني المخادعة لا تجوز، لكنها في الحرب جائزة، والإنسان حينما يكون مفسدًا، فاسدًا، ظالمًا، مجرمًا مؤذيًا لعباد الله فيمكر به، حتى يقع في سوء فعله، فهذا من المقامات الجائزة، يخدع يعني يجعل له كمين، كأهل الحسبة مثلاً الهيئة، يجعلون كمين لأحد المفسدين الذين يعبثون بالأعراض، أو نحو ذلك، فيقولون لامرأة واعديه مثلاً، ثم بعد ذلك يقبضون عليه، وهو متلبس بجرمه، فهذه خدعة، فالخدعة حقيقتها أن يظهر له غير ما يخفي من أجل الإيقاع به، هذه هي الخدعة.

فقول النبي ﷺ: الحرب خدعة دل ذلك على أنه يرخص فيها، هذا بخلاف نكث العهود فإنه لا يجوز المخادعة في هذا، ولا نقض العهد والأمان، إذا أعطى أحدًا أمانًا لا يجوز أن يخدعه، فإذا جاء إليه، أو نزل من الحصن قتله، ويعتقد أنه بذلك حصل أمرًا يصح له أن يفعله باعتبار أن الحرب خدعة، لا يكون ذلك لا في الأمان، ولا في العهود، فيجب الوفاء بهذا كله، لكن لا أمان، ولا عهد، والمعركة قد قامت، أو أطلت برأسها، وحصل مثل ما حصل مع نعيم بن مسعود في وقعة الأحزاب جاء إلى النبي ﷺ وأسلم سرًا فالنبي ﷺ أشار له بمثل هذا، فذهب يقول لهؤلاء كلامًا، ويقول للآخرين كلامًا، حتى ضرب بعضهم ببعض، فوقع الانشقاق في داخل الأحزاب، وانعدمت الثقة بين هؤلاء الفرقاء[15]، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في فضل القفل في سبيل الله تعالى برقم (2487) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4391).
  2. أخرجه أحمد في مسنده، برقم (21215)، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في التلقي، برقم (2779)، وصححه الألباني.
  4. انظر: جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، لأحمد الهاشمي (2/217).
  5. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو، برقم (2503) وحسنه الألباني في تحقيق رياض الصالحين، برقم (1356).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ذم من مات، ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، برقم (1910).
  7. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو، برقم (2504)، وصححه الألباني.
  8. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في أي وقت يستحب اللقاء، برقم (2655)، وصححه الألباني.
  9. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، برقم (2965)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، برقم (1742).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا، برقم (1035)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم (900).
  11. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، برقم (754)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (2839).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، برقم (2965)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، برقم (1742).
  13. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، برقم (3030)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخداع في الحرب، برقم (1739).
  14. انظر: معالم السنن، للخطابي (2/269).
  15. انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (1/495).

مواد ذات صلة