الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر..» إلى «رباط يوم في سبيل لله خير من ألف يوم..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد، ما جاء من حديث سلمان قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان[1]، رواه مسلم.

رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه رباط يوم وليلة هذا يدل على أن الرباط يصح أن يكون هذه المدة، يعني يوم وليلة؛ خلافا لبعض أهل العلم، كالإمام مالك -رحمه الله- الذي يرى أن أقله أربعين يومًا[2]، وعلى كل حال الرباط الأقرب أنه كما يدل عليه ظاهر هذا الحديث يكون بأقل من ذلك، هنا قال النبي ﷺ: رباط يوم وليلة وعرفنا من قبل في حديث سبق أن الرباط المقصود به لزوم الثغور المتاخمة للعدو، وأن ذلك يرجع -والله تعالى أعلم- إلى أن هؤلاء المرابطين يربطون خيلهم؛ استعدادًا لما قد يفجؤهم ويعرض لهم، وهكذا من يقابلهم من العدو كذلك.

رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه صيام شهر وقيامه، هو لم يقيد ذلك برمضان، ولكن لما كان الصوم صيام النهار، وقيام الليل بتلك المنزلة في العبادة، والفضل ذكر هذا، والتنكير يدل على أن ذلك لا يتقيد بشهر بعينه، ولكن لو قال قائل: بأن ذلك لا يكون أفضل من صيام شهر رمضان؛ لكان ذلك له وجه، وذلك أن صوم رمضان فريضة، وهو آكد من الرباط، وما تقرب المتقربون إلى الله بشيء أحب إليه مما افترض عليهم، ولهذا قال النبي ﷺ: خير من صيام شهر وقيامه ما قال: صيام شهر رمضان مثلاً.

قال: وإن مات فيه؛ جرى عليه عمله الذي كان يعمل معروف أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له[3] بينما هذا لا، هذا يجري عليه عمله الذي كان يعمله، ما هو العمل الذي كان عمله؟

أوله الرباط، فيجري عليه، ثم ماذا كان يعمل في أثناء هذا الرباط مثلاً؟

يصلي الفرائض والرواتب ويتطوع، يصلي الضحى، يقوم من الليل، يصوم من النهار، أو يصوم الاثنين والخميس، يجري عليه ذلك، يستمر، لا ينقطع، فهذا فضل لا يوجد في غير هذا العمل، إذا مات يستمر عليه أجره.

قال: وأجري عليه رزقه لاحظ هنا ما قتل، مات في حال الرباط، أجري عليه رزقه يعني في البرزخ، يأتيه من نعيم الجنّة، وما يلتذ به، وما شابه ذلك.

قال: وأمن الفتان الفتان المقصود به: الملكان اللذان يسألانه في القبر، وهذه لا شك أنها فتنة، وهي من أعظم ما يواجه الإنسان من الفتن، حينما يسأله ملكان ينتهرانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟، فيأمن الفتان، فهذا يحتمل أن يكون المراد به: أنهما لا يأتيانه أصلاً، يكفي أنه مات على هذا العمل، وهذا قال به بعض أهل العلم أنه لا يأتيه الفتان إطلاقًا، وبعضهم قال: يأتيه الفتان، ولكنه لا يحصل له ما يحصل لغيره من الانتهار مثلاً، والخوف، وإنما يأتيانه في حال من السكون واللطف، ويكون في حال من الأمن والطمأنينة، وأمن الفتان.

ثم ذكر حديث فضالة بن عبيد وهو من أصحاب النبي ﷺ الذين انتقلوا إلى الشام، وكان قاضيًا فيها في زمن معاوية ومات في أيام خلافته، وحمل معاوية جنازته، وقال لابنه: يا بني احمل معي، أو أعني فإنك لن تحمل بعده مثله![4] فضالة بن عبيد قال أن رسول الله ﷺ قال: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة[5] يعني أن عمله لا يزال إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر، وهذا كما سبق يحتمل أنهما لا يأتيانه، ويحتمل أنه لا يحصل له ما يحصل لغيره من الخوف، والاضطراب إلى آخره، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

ثم ذكر حديث عثمان قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل[6]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

لاحظ هناك قال: خير من صيام شهر وقيامه وهنا قال: خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل فهذا الحديث، حديث عثمان فيه ضعف، والشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ضعفه في كتاب ضعيف الجامع، وحسنه لغيره بصحيح الترغيب والترهيب، وصحيح الترغيب والترهيب متأخر، فكأنه تراجع عن تضعيفه، فإن صح الحديث هذا، إن صح؛ فوجه الجمع -والله أعلم- بينه وبين الحديث السابق: خير من صيام شهر وقيامه؛ أن ذلك يختلف بحسب ما يحتف به، فقد يكون ذلك باعتبار ما يقوم في قلب العبد، فالأعمال كما هو معلوم تتفاوت بحسب ما يقوم بقلوب أصحابها من الإخبات، وعظم الإخلاص، والرغبة فيما عند الله، ودفع دواعي العجب، وما أشبه ذلك.

وكذلك ما يتعلق بالمكان، فقد يكون المكان أشد خطورة في الرباط، فيكون الرباط فيه أعظم أجرًا من الرباط في مكان آخر ليس لهذه المثابة، وقد يكون ذلك بحسب الزمان، فقد يكون في زمان الرباط أكثر أهمية، والحاجة إليه أعظم في وقت من الأوقات دون وقت آخر، فأوقات المخاوف غير أوقات الأمان، أوقات يقل فيها المرابطون غير الأوقات التي يتهافت الناس فيها على الرباط، ويتكاثرون، فهذا يكثر معه الأجر والثواب، ولهذا كان الذين في آخر الزمان يؤتون كأجر خمسين من أصحاب النبي ﷺ وذلك للغربة بحاجة إلى أعوان، بحاجة إلى تثبيت، والعلم عند الله -تبارك وتعالى- هذا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله -عز وجل- برقم (1913).
  2. انظر: المقدمات الممهدات، لابن رشد (1/365).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631).
  4. انظر: تاريخ أبي زرعة الدمشقي، لأبي زرعة (689، 690).
  5. أخرجه الترمذي في سننه، كتاب أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من مات مرابطا، برقم (1621)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3823).
  6. أخرجه الترمذي في سننه، كتاب أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط، برقم (1667)، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3831).

مواد ذات صلة