الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
حديث «اللهم فاطر السماوات والأرض..» إلى «أمسينا وأمسى الملك لله..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي باب الذكر عند الصباح والمساء، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت، وإذا أمسيت، قال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد ألا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه قال: قلها إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك[1]، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن.

قوله: "مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت، وإذا أمسيت" فالنبي ﷺ تخير لأحب الناس إليه من الرجال، وهو أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- هذا الذكر، فقال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض فاطر السماوات يعني: أنه مبدع السماوات والأرض، أوجدهما من العدم عالم الغيب والشهادة يعني: ما غاب بأنواعه الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، والشهادة هي الحضور، فهو يعلم كل شيء.

رب كل شيء ومليكه فلا يخرج شيء عن ملكه، ولا عن ربوبيته.

أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه هذه مقدمات بين يدي هذه الاستعاذة، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عن علمه شيء، ولا يخرج عن ربوبيته وملكه شيء، فالمستعيذ يشهد له بالتوحيد، ويستعيذ به من شر نفسه، وشر الشيطان وشركه.

فالإنسان إنما يقع في الغي إما بدوافع النفس الأمارة بالسوء إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] أو يقع بتزيين الشيطان وتسويله، كما قال الله : إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:10] قال المفسرون: أي: من تزيينه، فالشيطان هو الذي يدعو إلى هذا، فالشرور التي يقع فيها الإنسان إما أن يكون ذلك من دواعي النفس الأمارة، أو يكون ذلك من تزيين الشيطان، فالشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر.

فهنا يقول: أعوذ بك من شر نفسي فيستعيذ الإنسان من هذا.

وشر الشيطان وشركه وهو الإشراك الذي يدعو إليه، ويوقع الإنسان به، وفي رواية: وَشَرَكَه والشَّرَك هو مثل الفخ والمصيدة، فالشيطان يتصيد ابن آدم فيوقعه في أمور لا تحمد عواقبها بتزيين ذلك له، وإملاء منه لابن آدم، فيوقعه بالمنكر، حينما يتبع خطوات الشيطان.

فهنا قال: من شر الشيطان وشِركه أو من شر الشيطان وَشَرَكه.

قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك فإذا قال الإنسان مثل هذا، فإنه يسلم بإذن الله من مواقعة ما لا يليق، سواء كان ذلك بدوافع شيطانية، أو بدوافع النفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه جواب على السؤال الذي يرد كثيرًا في رمضان حينما تصفد الشياطين، ولا يزال كثير من الناس يعملون المنكر، وفي غيهم، هنا الاستعاذة من شر النفس، فالنفس لا تصفد في رمضان، وإنما الصيام يحجزها إن حقق الإنسان مقصود الشارع منه، بفقه حقيقة الصيام، كما سبق في مناسبات شتى، بالتقليل من الطعام والشراب، وما إلى ذلك، فمثل هذا يرجى له أن يحصل حبس النفس عن مطلوباتها السيئة، والشيطان تصفد، أعني المردة، فيكون ذلك حاجزًا من مواقعة كثير مما لا يليق.

ولكن الشيطان الصغار غير المردة، وأوساط الشياطين فهؤلاء لم يقيدوا ولم يصفدوا، وكثير من الناس يكفيه هؤلاء، فإنه ينقاد لكل أحد، وقد أرخى قياده، فتقوده شياطين الإنس والجن.

ثم ذكر حديث ابن مسعود قال: كان نبي الله ﷺ إذا أمسى قال: أمسينا، وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.

قال الراوي: "أراه قال فيهن"

يحتمل: أن يكون أراه أي: النبي -عليه الصلاة والسلام- قال فيهن.

ويحتمل: أن يكون راويه عن النبي ﷺ أي: ابن مسعود أراه قال فيهن: له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة، وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر، وإذا أصبح قال ذلك أيضًا: أصبحنا وأصبح الملك لله[2]، رواه مسلم.

"كان نبي الله ﷺ إذا أمسى قال" وعرفنا من هذا السياق أنه يدل على المداومة والتكرار، كل ما أمسى قال ذلك.

أمسينا، وأمسى الملك لله فإن الملك لله على الدوام، فيقول المؤمن ذلك صباح مساء، مقرًا لله بالوحدانية والملك، ويكون حامدًا له، الحمد لله الحمد المطلق، فإن (أل) هذه للاستغراق، ولا يكون ذلك إلا لمن كان متصفًا بجميع أوصاف الكمال، وهو الذي يستحق الوحدانية، ويستحق التوحيد، ويستحق العبادة، دون سواه؛ ولهذا قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد فله الملك كله، وأما  الذي بأيدي الخلق من الملك، فهو ملك قاصر ناقص، مسبوق بعدم، ويلحقه سلب ذلك، والعدم كما أنه يعتوره النقص، فهو لا يقوم إلا بالأجناد والأعوان، وتنتابه ألوان المخاوف، كما هو معلوم.

أما الملك الحقيقي، فهو لله ، وهؤلاء الملوك إنما وهبهم الله ذلك، وهو يسلبهم إياه، متى شاء قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] فهو -تبارك وتعالى- يحول الناس من حال إلى حال، فبينما هو ملك مطاع، وإذا به يتحول إلى حال من الذل والمهانة والخوف، ويطلب العافية جاهدًا، وقد لا يحصلها، وينقلب عليه الأعوان، وشهداء يشهدون عليه بجناياته وجرائره، والله المستعان.

فهنا قال: وهو على كل شيء قدير فهذا الذي بهذه المثابة -أيها الأحبة- أمسى الملك له، وهو الذي له الملك كله، وله الحمد كله، وهو على كل شيء قدير: هو القادر على الحماية، أن يحمنا في الصباح والمساء، وأن يعطينا سؤلنا، وأن ينجينا مما نخاف ونحاذر.

قال: رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها فلا يختص ذلك فيها، وإنما يسأل الخير على سبيل الدوام، يسأله في هذه الليلة؛ لأنه يعيشها، وخير ما بعدها من الليالي والأيام، فلا يقتصر سؤله على ليلة دون ليلة، ولا على يوم دون يوم، فالعبد لا غنى له عن ربه -تبارك وتعالى- طرفة عين، ولا أقل من ذلك.

قال: وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة، وشر ما بعدها قدم الخير؛ لأنه هو المطلوب الأول للناس، وهو المقصود لذاته، وأما الشر فإنما يستدفع، أو يطلب دفعه؛ لأنه يعرض، وإنما يقصد الكمالات وأوصاف الكمال، وأما الشرور فإنه يقصد دفعها؛ لأنها منغصة، فأخرجها أجل ذلك بعده، والله تعالى أعلم.

رب أعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر الكسل معروف، وهو فتور يعتري الإنسان، فيقعده عما هو بصدده من مصالحه الدنيوية، أو الأخروية، فيبقى الإنسان كأنه لا حراك به، يستثقل القيام والقعود والانتشار في مصالحه، فمثل هذا أمر يستعاذ منه، ويكثر مثل هذا الكسل في الإجازات وأوقات الراحة، وما إلى ذلك، فيحصل للناس شيء من الترهل، فتألفه نفوسهم.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم[3]

فالنفس حيث وضعها صاحبها تكون، فإذا استرسل الإنسان مع أسباب الراحة استرسلت النفس، وحصل لها من الضعف والترهل الشيء الكثير، فيستثقل الإنسان حياة النشاط والجد التي كان عليها قبل ذلك، وإذا أراد أن يرجع إليها، سواء كان في أعماله الدنيوية، أو كان ذلك في العبادات، فإن ذلك يثقل عليه جدًا.

والنبي ﷺ استعاذ من هذا، قال: وسوء الكبر وهو ما يحصل من الزمانة، وضعف ابن آدم في سمعه وبصره وأعضائه وبدنه، وبعضهم ضبطه هكذا: "وسوء الكِبْر" الكبر معروف.

وعلى كل حال المشهور وسوء الكبَر وهذا من جملة الاستعاذة من أن يرد الإنسان إلى أرذل العمر.

قال: رب أعوذ بك من عذاب في النار عذاب هنا نكرة، أي عذاب في النار؛ لأن أقل القليل مما يحصل من ذلك يعد كثيرًا، فإن عذابها لا يطاق، فلم يقل هنا: "من عذاب النار" يعني: كل عذاب النار، فإذا استعاذ من قليله، فإن الاستعاذة من كثيره حاصلة بذلك.

وعذاب في القبر، وإذا أصبح قال ذلك أيضًا أصبحنا وأصبح الملك لله فهذه المعاني على قدر ما يحصل من الاستشعار لها على قدر ما يحصل من الآثار لهذه الأذكار.

هذا، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه

  1. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3392) وأبو داود في أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح برقم (5067) وصححه الألباني.
  2. أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم (2723).
  3. البيت للبوصيري من اليردة: البردة شرحًا وإعرابًا وبلاغة لطلاب المعاهد والجامعات (ص:35).

مواد ذات صلة