الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب (2-2)
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان"، أورد المصنف -رحمه الله- قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].

والشاهد فيه بل كل الآية شاهد، ولكن قوله: وَلَا تَقْفُ هذا أصله مأخوذ عند بعض أهل العلم من القفى، وذلك أن الذي يتبع غيره يكون كأنه يسير خلفه، خلف قفاه، {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، ولما كانت الغيبة تقال في قفى الإنسان، يعني من وراء ظهره، قيل لذلك: قفو، يعني أن من أهل العلم من فسر هذا أعني قوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] فسره بالغيبة، والواقع أن هذا يصح أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، لكن وجهه ما ذكرت أنه مأخوذ من القفى، وأن الغيبة لما كانت تقال في القفى قيل له ذلك، يعني فسر بالغيبة، وَلَا تَقْفُ، والواقع أن ذلك يشمل الغيبة وغيرها، وكل ما يفعله الإنسان ويزاوله ويتبعه بغير علم فهو داخل في هذا من الأقوال، والعقائد، والأفعال، ومن ثم يقال: إن قوله: وَلَا تَقْفُ يدل على العموم، فعل مضارع جاء في هذا السياق فيحمل على أعم معانيه، لا تقف ثم مَا هذه تدل على العموم أيضًا مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ كل ما ليس لك به علم، فيدخل في هذا كل ما حرمه الله فإنه ليس للإنسان أن يفعله، أو أن يتابع أحدًا فيه أو أن يسير في ذلك الطريق الذي حرمه الله -تبارك وتعالى-.

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] لا تعتقد اعتقادًا ليس لك عليه أو ليس لك فيه من الله برهان، ولا تصدق قولا لم يقم دليل على تصديقه، ولا تنشر وتتكلم وتنقل كلامًا من غير أن تتحقق من صحته وثبوته، فيدخل في هذا الشائعات، وما إلى ذلك.

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لا تفعل شيئًا من العبادات والأعمال تتقرب به إلى الله تقليدًا لغيرك دون أن يكون لديك في ذلك علم ومعرفة صحيحة بأن ذلك مما جاء به الرسول ﷺ إلى غير ذلك من المعاني الداخلة تحته، واليوم يحتاج إلى هذا كثيرًا في الرسائل التي ينشرها الناس، ينشرون أشياء وأحاديث ومعلومات، ولكنها لا صحة لها إطلاقًا، لا يدرى من أين أخذت من بعض أهل البدع، أو من بعض الأفاكين، الذين يختلقونها وينشرونها في الناس.

إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، السمع والبصر والفؤاد جاءت مرتبة على هذا النسق، فالسمع أنفع من البصر فقد يكف بصر الإنسان فتجتمع القوى المدركة العقل، وما إلى ذلك، وتكون أكثر ما تكون وفورًا إذا ذهب البصر؛ لأن البصر يشتتها، ولذلك كثير ممن ذهبت أبصارهم أصيبوا بالعمى تجد عندهم من حضور الأذهان، وتوقدها ما ليس عند غيرهم، فالذهن يتفرق مع البصر، بكثرة المشاهدات والمرئيات هذا من جهة، ولذلك تجد بعض العلماء كثير من العلماء ليسوا من المبصرين.

فالسمع أنفع من البصر كما أن السمع أشمل، الإنسان يسمع الأشياء التي لا ترى كصوت الهواء الرياح، والرعد وما إلى ذلك صوت الأشياء البعيدة، يسمع صوت الطائرة وهو لا يراها، كما أن السمع يكون لجميع الجهات، أما البصر فإنه لا يرى إلا المتشخصات مما يصل إليه البصر من جهة واحدة فقط، والباقي لا يبصره، والإنسان إذا أصيب بسمعه كأن لا يسمع فإنه يحرم كثيرًا من العلم، فإن كان ذلك في صغره فإنه قد لا يعلم شيئًا لا يعلم شيئًا بل حتى النطق لا يستطيع أن ينطق، من ولد وهو لا يسمع فالنتيجة الطبيعية أنه لا يتكلم، وأما البصر فبخلاف ذلك ثم ذكر الفؤاد والقلب قيل له ذلك؛ لكثرة تفؤُّده، يعني لتوقده بالأفكار والمعاني والخواطر لا يتوقف، فذكره بعد السمع والبصر؛ لأنهما كالميزابين يصبان فيه فهو كالوعاء يستقبل من السمع والبصر، فالمشاهدات تؤثر في القلب حزنًا وفرحًا وشهوةً وغضبًا وما إلى ذلك، والمسموعات كذلك تؤثر فيه.

كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، يمكن أن يكون الضمير يرجع إلى الإنسان أن هذه الأشياء السمع والبصر والفؤاد تسأل عن الإنسان كما قال النبي ﷺ: لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع[1]، فالإنسان يحاسب فتنطق هذه، هذه تسأل عن الإنسان، وكما قال الله : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس:65].

وكذلك أيضًا يحتمل أن يعود الضمير على هذه الأشياء السمع والبصر والفؤاد، بمعنى أن الإنسان يسأل عنها، ماذا عمل بها؟ كما في حديث: لا تزولا قدما عبد يوم القيامة، فيحاسب عليها، وهما معنيان صحيحان، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وكل واحد من هذين المعنيين دل عليه دليل.

وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] رقيب ملك يرقبه، وعتيد حاضر، فكل ذلك يسجل على خلاف بين أهل العلم هل الملك يكتب كل شيء أكلت، وشربت، وقمت، وقعدت مما ليس فيه حساب، وما فيه حساب، أو أنه يكتب فقط ما يترتب عليه الجزاء، فمن أهل العلم من يقول: يكتب كل شيء؛ لعموم قوله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ، فــ قول نكرة في سياق النفي فيكون ذلك للعموم، ثم بعد ذلك يطرح ما لا يترتب عليه الحساب، رقيب عتيد يكتبان ما يقول من الحسنات والسيئات.

فإذا استشعر الإنسان هذا وأراد أن يتكلم فإنه يستشعر أنه يملي على الملك، وإذا استشعر الإنسان مثل هذا وهو يكلم الآخرين، وهو يتكلم مع الناس، أو يكلم في الهاتف، أو غير ذلك، يملي على الملك، وهو جالس في المجلس يتكلم يستشعر أنه يملي على الملك والملك يكتب كل ما يقول، إذا لا يتكلم إلا بما يسره ويبيض وجهه حينما يعطى صحيفة الأعمال، حينما يعطى كتابه منشورا ويقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، هذا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (11177)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وفي الأوسط عن أبي الدرداء، برقم (4710)، وقال: "لا يروى هذا الحديث عن أبي الدرداء إلا بهذا الإسناد"، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة، برقم (847)، وابن أبي شيبة في المصنف عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، برقم (34694)، وقال الألباني: "حسن لغيره"، كما في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (127).

مواد ذات صلة