الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
من أخبار السلف في باب الغيبة وحفظ اللسان
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

أما ما يتصل بالآثار المنقولة عن السلف في باب الغيبة، وحفظ اللسان، فأذكر من ذلك:

ما جاء عن سعيد بن عبد العزيز: أنه قال: "لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: صموت واعٍ، وناطق عارف"[1].

يعني: أنه يصمت لا عن عجر، وإنما عن وعي وإدراك تام، وكما سبق أن طول الصمت يدل على كمال العقل، ووفوره.

"وناطق عارف" يعني: أنه يعرف ما يخرج من رأسه، والذين يسرعون في الكلام، وتسبق ألسنتهم أفئدتهم، هؤلاء يتكلمون بكلام يندمون عليه غاليًا، فلا يكون اللسان في هذه الحال مزمومًا مخطومًا بزمام وخطام العقل.

وجاء عن الفضيل -رحمه الله-: "من استوحش من الوحدة، واستأنس بالناس، لم يسلم من الرياء، لا حجَّ ولا جهاد أشدُّ من حبس اللسان، وليس أحد أشدَّ غمًّا ممن سجن لسانه"[2].

 وعن الفضيل قال: "احفظ لسانك، وأقبل على شأنك، واعرف زمانك، وأخف مكانك"[3].

وجاء عن أبي بكر بن عياش -رحمه الله- أنه قال: "أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى به عافية، وأدنى ضرر المنطق الشهرة، وكفى به بلية"[4].

ويقول بشر الحافي -رحمه الله-: كان المعافى صاحب دنيا واسعة -يعني الرجل من الأغنياء- قال مرة رجل: ما أشد البرد اليوم! فالتفت إليه المعافى، وقال: استدفأت الآن، لو سكتَّ لكان خيرًا لك[5]، يعني: كانوا يكرهون فضول القول، مع أن هذه العبارة لا شيء فيها، وليست محرمة.

يقول الذهبي تعليقًا على هذا القول: "قلتُ: قول مثل هذا جائز، لكنهم كانوا يكرهون فضول الكلام، واختلف العلماء في الكلام المباح، هل يكتبه الملكان أم لا يكتبان إلا المستحب الذي فيه أجر، والمذموم الذي فيه تبعة؟ والصحيح: كتابة الجميع؛ لعموم النص في قوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] ثم ليس إلى الملكين اطلاع على النيات والإخلاص، بل يكتبان النطق، وأما السرائر الباعثة للنطق، فالله يتولاها"[6].

وقال ابن مهدي: "لولا أني أكره أن يعصى الله لتمنيت ألا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته لم يعمل بها"[7].

وقال الفلاس: "ما سمعتُ وكيعًا ذاكرًا أحدًا بسوء قط"[8]، وكيع بن الجراح يقول الذهبي عنه: "قلتُ: مع إمامته، كلامه نزر جدًا في الرجال"[9] يعني في الجرح والتعديل، وهذا يتوقف عليه قبول الروايات، فكيف بإطلاق اللسان من غير حاجة.

وجاء عن ابن وهب قال: "نذرت أنني كلما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا، فأجهدني، فكنتُ أغتاب وأصوم، فنويتُ أني كلما اغتبتُ إنسانًا أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة"[10].

وقد قيل: اغتاب رجل عند معروف الكرخي، فقال: اذكر القطن إذا وضع على عينيك"[11]، يعني: إذا مات الإنسان، وكفن.

ويقول الإمام البخاري -رحمه الله-: "سمعتُ أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني -رحمه الله- يقول: منذ عقلت أن الغيبة حرام ما اغتبت أحدًا قط"[12] هذا صاحب كتاب السنة.

ويقول البخاري -رحمه الله-: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا"[13] يقول الذهبي: "صدق رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعّفه، فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر، ونحو ذلك، وقلّ أن يقول: فلان كذاب، أو كان يضع الحديث، حتى أنه قال: إذا قلتُ: فلان في حديثه نظر، فهو متهم واهٍ، وهذا معنى قوله: "لا يحاسبني الله أني اغتبتُ أحدًا، وهذا والله غاية الورع"[14]. يعني: هؤلاء مع الحاجة، بل الضرورة إلى معرفة حال الرواة، ومع ذلك هذا التحرز العظيم، فمن منا يستطيع أن يقول: أرجو أن ألقى الله، ولا يحاسبني أني ما اغتبتُ إنسانًا؟! من منا يستطيع هذا؟!

وجاء عنه -أعني البخاري- أنه قال: "ما اغتبتُ أحد قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها"[15].

وكان قد قال له بعض أصحابه: "يقولون: إنك تناولت فلانًا -يعني تكلمت فيه- قال: سبحان الله، ما ذكرتُ أحدًا بسوءٍ إلا أن أقول ساهيًا وما يخرج اسم فلان من صحيفتي يوم القيامة؟!"[16].

وكان ابن علية، إسماعيل الإمام، فقيهًا إمامًا مفتيًا، من أئمة الحديث، وكان يقول: "من قال: ابن علية، فقد اغتابني"[17]، يعني: كان يكره أن ينسب لأمه، قال الذهبي: "شيء قد غلب عليه -يعني الاسم- فما الحيلة؟ قد دعا النبي ﷺ غير واحد من الصحابة بأسمائهم، مضافًا إلى الأم، كالزبير ابن صفية، وعمار ابن سمية"[18]، وقد مضى الكلام على هذا، وأن الإنسان إذا عُرف باسم، ولم يكن مندوحة، فإنه يذكر بهذا.

وقال إبراهيم الحربي -رحمه الله-: "ما أخرجت بغداد أتم عقلاً من بشر بن الحارث، ولا أحفظ للسانه، كأن في كل شعرة منه عقل، وطئ الناس عقبه خمسين سنة، ما عرف له غيبة لمسلم، ما رأيت أفضل منه"[19].

وكان سعيد بن جبير -رحمه الله- لا يدع أحدًا يغتاب عنده[20].

ويقول جرير بن حازم: "كنتُ عند محمد بن سيرين، فذكر رجلاً، فقال: ذاك الأسود، ثم قال: إنا لله، ما أرانا إلا قد اغتبناه"[21]

وقال ابن عون: "كانوا إذا ذكروا عند محمد بن سيرين رجلاً بسيئة، ذكره هو بأحسن ما يعلم"[22].

وجاء ناس إليه، فقالوا: إنا نلنا منك، فاجعلنا في حل، قال: لا أحل لكم شيئًا حرمه الله"[23]، وهذا كما سبق في أول الباب، فقد ذكرتُ حينها بأنه يحسن بالإنسان إذا تحلله أحد من غيبة ألا يحلله بإطلاق، وإنما يكون ذلك مشروطًا بالتوبة؛ لئلا يتسارع الناس في معصية الله ، والوقيعة في أعراض المسلمين.

وجاء عن ابن عون في صفته: أنه كان أملكهم للسانه[24].

وكان سفيان الثوري يقول: "أقل من معرفة الناس تقل غيبتك"[25].

وجاء عن الحسن بن صالح: فتشت الورع، فلم أجده في شيء أقل من اللسان"[26].

وكان سعيد بن العاص يقول: "القلوب تتغير، فلا ينبغي للمرء أن يكون مادحًا اليوم، ذامًا غدًا"[27].

وهنا عبارة للشافعي -رحمه الله- يقول: "من نم لك نم عليك"[28]، يعني: ما الذي جعله ينتهك حرمة مسلم، وينتهك حدود الله ، فينقل لك نميمة، فإن الذي سوغ له ذلك سيسوغ له أن ينقل عنك، فهذا لا يخاف من الله -تبارك وتعالى-.

وكان وهب بن منبه يقول: "إذا سمعت الرجل يمدحك بما ليس فيك، فلا تأمنه أن يذمك بما ليس فيك"[29].

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. تاريخ دمشق لابن عساكر (21/206) وتاريخ دمشق لابن عساكر (21/206) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/36).
  2. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/436).
  3. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/436).
  4. تاريخ الإسلام ت بشار (4/1263) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/501).
  5. تاريخ الإسلام ت بشار (4/978) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/84).
  6. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/84).
  7. تاريخ الإسلام ت بشار (4/1153) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/195- 196).
  8. تاريخ الإسلام ت بشار (4/1234) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/158).
  9. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/158).
  10. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/228).
  11. تاريخ الإسلام ت بشار (4/1212) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/341).
  12. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/482).
  13. تاريخ دمشق لابن عساكر (52/81) وتاريخ الإسلام ت بشار (6/154) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (12/439).
  14. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (12/439).
  15. تاريخ الإسلام ت بشار (6/154) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (12/441).
  16. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (12/445).
  17. تاريخ الإسلام ت بشار (4/1070) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/108).
  18. وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/108).
  19. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/472).
  20. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/336).
  21. تاريخ دمشق لابن عساكر (53/214) وتاريخ الإسلام ت بشار (3/155) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/615).
  22. تاريخ دمشق لابن عساكر (53/213) وتاريخ الإسلام ت بشار (3/158) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/620).
  23. تاريخ الإسلام ت بشار (3/158) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/620).
  24. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (6/366).
  25. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/276).
  26. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/368).
  27. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (3/448).
  28. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/99).
  29. تاريخ دمشق لابن عساكر (63/391).

مواد ذات صلة