الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
حديث «لا تباغضوا ولا تحاسدوا..»، «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر، مضى الكلام على الآيات التي صدر عنها المصنف -رحمه الله- بها هذا الباب، وبقي الكلام على الأحاديث، وقد أورد حديثين اثنين.

الأول: عن أنس أن النبي ﷺ قال: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: لا تباغضوا يعني: نهي عن البغض، وهذا أمر قد يقع في قلب الإنسان من غير اختياره، ومعلوم أن الإنسان لا يكلف بما لا يطيق.

ومثل هذا أهل العلم يرجعون فيه الخطاب إلى سببه، أو متعلقة بحسب المقام، فمثل هذا يرجع فيه إلى السبب.

لا تباغضوا يعني: في ضمنه نهي عن مواقعه الأسباب، التي يحصل بها التباغض بين المسلمين، وهذه الأسباب التي يحصل بها التباغض كثيرة، منها:

سوء الظن، فسوء الظن بالناس هو من أعظم أسباب البغضاء بين المسلمين، ومن ذلك أيضًا ما جاء النهي عنه من التنافس على الدنيا، وقد ذكر النبي ﷺ أن ذلك مما تخوفه على أمته فقال: ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم[2].

وكذلك أيضًا ما يحصل من المزاولات والممارسات المحرمة التي تورث البغضاء في النفوس، فقد قال النبي ﷺ: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما كتب الله لها[3]، إلى غير ذلك من الأمور التي تورث الشحناء في النفوس.

 وكذا النميمة، ونقل الكلام، فهي بمنزلة السحر، فنهي عن ذلك جميعًا؛ لأنها أمور محرمه في نفسها، كما أنها جالبة أيضًا لأمور مذمومة ومكروهة شرعًا، مثل: التباغض، فإذا أراد الإنسان أن يكون قلبه سليم لإخوانه المسلمين، وأن يتخلص من هذه الصفة المشينة، فعليه أن يتحقق من الأسباب الجالبة لذلك، وأن يتخلى عمّا يوقع البغضاء والشحناء في النفوس.

ولهذا كان النبي ﷺ كما سبق ينهى أصحابه أن يذكروا له أحدًا من أصحابه بشيء يكرهه، وعلل ذلك أنه يريد أن يخرج إليهم، وهو سليم الصدر للجميع، فقال: لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر[4]، لا يحمل في نفسه شيء على أحد، فهذا الإنسان الذي جعل أذنه وقلبه محل لتلقف ما يقال عن زيد وعمر وإخوانه وقرابته وجيرانه وأصحابه، وما إلى ذلك، كيف يكون القلب سليمًا لهم؟ وهذا الإنسان الذي يسيء الظن بكل تصرف يتصرفونه كيف يكون قلبه سليم لهم؟ إذا أرسلت له رسالة: قال الحسن البصري -رحمه الله-: كذا، وكذ، قال: ماذا يقصد؟ وإذا أهديته شريط عن الصدق، قال: ماذا يقصد؟ وإذا أهديته محاضرة عن الكذب، قال: ماذا يقصد؟ وإذا أهديته ثوبًا، قال: ماذا يقصد؟ وإذا أهديته طعام، قال: ماذا يقصد؟ فيحمل ذلك على أسوأ المحامل في أشياء تعجز العقول أحيانًا عن التوصل إليها وإدراكها على أي محمل؟ محمل بعيد، وما يخطر على البال، ولا يدور في الخيال.

إذا أعطيته هدية مثلاً شريط عن الصدق أو الكذب، قال: ماذا يقصد؟ هل رآني كذاب أو متهم عنده، اختار لي هذا الموضوع بالذات.

ولو أرسلت له رسالة: قال: فلان من السلف مثلاً: من عرّض نفسه للفتنه لم ينج منها، أو قال فلان: كذا، قال: ماذا يقصد؟ وهل رآني أتابع مواقع إباحية؟ ويبدأ يسأل زيد وعمرو؛ لماذا يرسل لي هذه الرسالة؟ وما علم أنها مرسلة لـ(100) شخص غيره، بضغطة واحدة، ويظن أنه من بين العالمين أرسلت له، وتضطر بين حين وآخر أن تحذف بعض الأسماء من المجموعات؛ لأنه يظن أنه اختير من بين العالم، وأرسلت له وحدة، لمعنى يتعلق به، فهذا سوء ظن بالناس.

فهذا كيف يكون قلبه سليمًا لإخوانه؟ لا يمكن هذا، فحينما يقول النبي ﷺ: لا تباغضوا فهذا نهي عن أسباب البغضاء؛ لأن قائلاً سيقول: البغض يقع في القلب، دون أن يريد الإنسان هذا. وقد يقول هذا الإنسان: هناك أشياء لائحة وظاهرة، توجد فيه صفات مذمومة، فبغضه لذلك، ونقول أيضًا: له صفات محمودة، فإذا نظرت إليها، فإن ذلك يزيل هذا البغض، قد لا تحبه، ولكنك لا تبغضه أيضًا ـ

فهنا: لا تباغضوا وهذا يدل على التحريم، فهذا أمر محرم.

ولا تحاسدوا والحسد أيضًا قد يقول الإنسان: يقع في القلب دون أن يريد الإنسان تتحرك نوازع في النفس، ودواعي الحسد، إذا رأى أحد في نعمة، أو سمع عن حالاً مرضية، أو فلاح ونجاح حصل لزيد أو عمرو، فتبدأ تتحرك النفس، فهل هذا يؤاخذ عليها؟

الجواب: لا يؤاخذ على هذا الذي في النفس، لكن يؤاخذ على الآثار.

 فهنا قوله: لا تحاسدوا يتوجه إلى الأثر، بناء على القاعدة: إذا توجه الخطاب إلى المكلف في أمر غير مقدور له، فإنه ينصرف إلى سببه أو إلى أثره.

فلذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يخفيه، واللئيم يبديه[5].

وهناك أمور تعالج هذه القضية، أو تخفف غلوائها على الأقل في النفس، فإنه يبقى هذا في عذاب، فهذا إنعام من الله، فلا تكون معترض على قدره، كما سبق.

 ثم انظر إلى أمور أخرى: إلى ما أعطاك الله ، وما حباك، وهي أمور كثيرة تفوت الحصر، فإذا أراد الإنسان أن يعرفها دائمًا ينظر إلى من هم دونه، فإذا رأيتَ مريضًا، فانظر إلى حالك وتعرف، وإذا رأيت من هو أفقر منك فانظر إلى حالك، وتعرف، وهكذا في كل شأن.

ثم قال: ولا تدابروا هذه نتيجة للتباغض والتحاسد، فيعرض عنه، ويوليه دبره، يعني: يدير ظهره إليه، يعني: تقاطع هي هيئة وحالة تشير إلى التقاطع، يعني: ما يلقيه ويسلم عليه، ويرحب به، لا هذا يدير ظهره، وهذا يدير ظهره، فلا يكون أهل الإيمان بهذه المثابة.

ثم قال: ولا تقاطعوا فهذا تصريح بالنهي عن القطيعة، وهذه القطيعة المقصود بها هنا لا تقاطعوا يعني: لحظوظ النفس، ولأمور الدنيا، أما التقاطع الذي يكون لله وفي لله، فهذا الهجر، فهذا الإشكال فيه، إما على الدوام، وإما أن يكون ذلك لوقت محدد، إذا كان لله، فيهجر العاصي حتى يتوب مثلاً، ويهجر حتى ينزجر، وقد يهجر على الدوام إذا كان ذلك ممن لا يسلم من شره، ولا يؤمن من غوائله، إلا بالهجر.

فالهجر يكون لعلتين اثنتين:

إما لردع المهجور وتأديبه، فهذا كالدواء يوضع حيث نفع، فإذا كان المهجور يزداد غيًّا بالهجر وإعراضًا، وسوء وانحراف وضلالة، فهذا لا يهجر إذا كان لا يرتدع بالهجر، أو كان قد لا يزداد غيًّا، لكنه لا يبالي بك أصلاً -بهذا الهاجر-، ولا يكترث بهذا الهجر.

 فالهجر هو علاج ودواء، فتارة ينفع الهجر، وتارة ينفع غيره، وأما إذا كان لمصلحة الهاجر، ففي هذه الحالة فإنه يمكن أن يهجر ولو كان المهجور لا ينتفع، لكنه هو لا يسلم منه، كإنسان سيئ بلسانه، وبذيء، وبتصرفاته يوصل الشر والمنكر والأذى بجميع صوره وأشكاله، فهذا الابن أو الولد يأتي إليه ولربما يغريه بالفاحشة، ويغريه بأمور، ويغريه بأشياء فاتنة من الصور والمواقع، فما الحل معه؟ يهجر لا لينزجر، لكن ليُسلم من شره، يقال: اهجره على الدوام، إذا رأيته في طريق اسلك طريقًا آخر، هذا لا إشكال فيه، هذا لمصلحة الهاجر، فهذا كله هجر شرعي، يبقى الهجر لحظ النفس، فذلك شأن آخر، حدده الشارع كما في آخر هذا الحديث.

يقول: (وكونوا عباد الله إخوانًا) وقد يقول الناس: نحن لم نتباغض ولم نتحاسد ولم نتدابر ولم نتقاطع، لكن كل واحد في حاله، يقال: لا، ما يكفي، فذلك أمور منهي عنها المقصود منها التخلية، بقيت التحلية، كونوا عباد الله إخوانًا تكون الأخوة الإيمانية قائمة بينكم، وهذه الإخوة الإيمانية قائمة على المحبة والموالاة والنصرة، وأن يحب لأخيه كما يحبه لنفسه، فبعض الناس قد يقول: أنا لا أبغض، ولا أتدابر، ولا أتقاطع، ولا شيء، لكن له باب، ولي بابي، جار لصيق بجاره، ولا يعرف عنه شيئًا أبدًا، وهكذا الحي، فكل إنسان مشغول بنفسه وحاله، ولا يعرف عن جيرانه قليلاً ولا كثيرًا، ولا يزورهم ولا يتعاهدهم، يمرضون ويمتون، ولا يعلم عنهم، يكون آخر من يعلم إذا ماتوا، فهذا لا يجوز.

(وكونوا عباد الله إخوانًا) هذه الأخوة لا بد من تحقيقها؛ ولها أسباب تتحقق بها، ومن أقربها السلام، والنبي ﷺ قال: لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم[6]، لا تؤمنوا حتى تحابوا فدل على أن المحبة بين أهل الإيمان من الكمال الواجب في الإيمان، يعني: من الأمور الواجبة التي إذا فقدت فإن ذلك يكون سببًا للحساب والعقاب والمؤاخذة، ما تبرئ الذمة، يعني: ليست من الكمالات المستحبة، فإذا كانوا يتباغضون فذلك نقص من الإيمان الواجب، فما جاء فيه النفي من هذا القبيل، فإنه ينزل على معانٍ هذا واحد منها: نفي الكمال الواجب.

قال: (ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) هنا أيضًا الهجر لحظ النفس، وليس الهجر الذي يكون لله، وفي الله، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده؛ لأن النفس مع دواعي الغضب، وردود الأفعال القوية، قد يحصل لها شيء من الثوران، وشيء من الأمور التي قد يصعب على العبد أن يتجاوزها لأول وهلة.

والله لا يكلف الناس بما لا يطيقون، ولم يكلفنا ربنا عنتًا، لكن فورة الغضب والحنق، هذه حينما تكون أجمع ما تكون في لحظات الغضب، هي تصل إلى القمة، ثم بعد ذلك تبدأ في النزول، وهذه سنة الله في هذا الخلق، حتى الحزن والهم، كل هذه الأشياء تصل إلى الذروة، ثم بعد ذلك تبدأ بالنزول شيئًا فشيئًا، ومدى ذلك في مجاري العادات: ثلاث أيام، فترجع النفس إلى حال من السكون والهدوء الذي لا يشوش الغضب فيه على الفكر والنظر، والحكم على الأشياء.

فتكون تصرفاته موزونة؛ ولذلك نصيحة دائمة سواء كان مع الزوجة، أو مع الموظفين، أو مع الطلاب، أو مع الجيران، أو مع الناس، أو مع كل أحد، لا تتصرف لحظات الغضب الذي يكون في شدته وقمته، فإن العقل يكون مشوشًا؛ ولهذا نهى النبي ﷺ أن يحكم القاضي بين اثنين وهو غضبان؛ والعلة في ذلك أن الذهن لا يكون حاضرًا، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: بأن الإنسان في حالة الفرح الشديد والغضب الشديد لا تكون أحكامه على وجه من الاتزان.

ولهذا ابن القيم -رحمه الله- يرى أن الأشياء التي يتصرفها من الهبات والعطايا والمنح وما إلى ذلك، في حالات الفرح الشديد، أو في حالات الخوف الشديد، أو في حالات الغضب الشديد، ينبغي ألا نأخذ بها؛ لأن فيها ما فيها؛ لماذا؟ لأن عقله لم يكن في حال من الاتزان.

فقد يكون في غمرة الفرح، فيقول للآخر: خذ مفتاح سيارتي، وخذ كذا، وبعد يومين يجد نفسه من غير سيارة، فيقول: أنا كيف تصرفت هكذا، والله ما أدري، ويبدأ يندم، فابن القيم يرى أن من الورع أنه لا يُؤخذ من الإنسان شيئًا، وهو في هذا الحال، حتى الطلاق والعتق في حال الغضب الذي يكون كما وُصف بإغلاق، يعني: العقل وصل إلى حال لا يستطيع فيها أن يعي ما قال، فهذا لا يقع فيه الطلاق، فهذه الدرجة العليا من الغضب، تليها الدرجة الثانية وهو الغضب الشديد، لكن يعقل ما قال، فهذه محل نظر هل يقع فيها الطلاق أو لا؟ فبعضهم يوقعه، وبعضهم لا يوقعه، الذين لا يوقعونه يقولون: الذهن مشوش، وليس في وضع طبيعي.

ويبقي الغضب في الدرجة الثالثة: الغضب العادي، الذي لا يشوش الذهن، فهذه يقع الطلاق فيه بالاتفاق، فعندنا مرتبة عالية، لا يقع فيها الطلاق قطعًا، ومرتبة أدنى يقع فيها الطلاق، وتبقى المرتبة الوسط محل نظر؛ لماذا؟ لأن الذهن لا يكون في حال من الوعي التام، ليس بكامل قواه العقلية؛ ولهذا أمر النبي ﷺ أن يتوضأ، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان قائمًا يجلس، وإذا كان جالس يضطجع؛ من أجل أن الدم يضغط بقوة، وتكثر ضربات القلب، وتزداد وتتضاعف، فيكون عند الإنسان إقبال على البطش أو الإسراع والجري والإقدام، ونحو ذلك.

فالله ركب الإنسان بهذا التركيب، فإذا كان مع أخيه المسلم ينبغي أنه يجلس إذا كان غضبان، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتوضأ؛ لأنه جمرة يلقيها الشيطان في قلبه، فيناسبها الماء، فيتوضأ، ولو اغتسل فذلك أبلغ من الوضوء، ثم بعد ذلك لا يتصرف.

وأحيانًا الإنسان يكون غضبانًا لما يسمع شيئًا، أو يتصل به أحد ويقول: فلان فعل كذا، فيبدأ يجهز الكلام الذي سيقوله، وسيتصل به، وينتظر متى يصل البيت، لكن لو أنه تريث، أو اتصل وما رد ذاك، أو نحو ذلك، فبعدها بيوم أو يومين، يقول: الحمد لله أنني ما كلمته فيتراجع، ويدرك أن الكلام الذي كان سيقوله ما كان له داعي، وأنه لا يليق، ولا يصلح، ولا يحسن، وأن الأمر دون ذلك، ويمكن أن تحل هذه القضايا بطريق أرفق وأحسن من هذا الطيش الذي يتمالك البعض.

فهنا على كل حال النفس تحتاج إلى مجاهدة، فرخص الشارع ثلاثة أيام في الهجر؛ لماذا؟ لأن النفس تسكن بهذا، ومن هنا شاع أن العزاء ثلاثة أيام، مع أنه لا أصل لذلك في الشرع، لا دليل على أن العزاء ثلاثة أيام، وبعدها ينتهي.

لكن كأن هؤلاء أخذوه من أن المصيبة تبقى حارة ثلاثة أيام، فيعزى ليسكن ويسلى عن المصيبة، فإذا مضت ثلاث، فإنه يسلو عادة، فلا يُذكر بمصيبته من جديد، والصحيح: أن هذا يختلف ويفصل فيه، فإذا كانت المصيبة حارة وحاضرة حتى بعد أسبوع، أو نحو ذلك.

والإنسان في حال من الانكسار والحزن، وما أشبه ذلك، فإنه يحتاج إلى تعزية، فيعزى، ولا يتقيد بثلاثة أيام؛ لأنه لا دليل على ذلك، لا من الكتاب، ولا من السنة، فلا يتقيد العزاء بثلاث، هذا هو الحديث الأول.

الحديث الثاني:

هو حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس أشرف أيام الأسبوع فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا[7]، ولاحظوا صارت المغفرة في كل اثنين وخميس، وهذا من لطف الله ، فإذا كان الإنسان صائمًا رفعت أعماله، وهو صائم فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم[8].

قال: فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا وهذا محمله عند أهل العلم على ما دون الكبائر.

إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء الله المستعان، صارت هذه عائق عن المغفرة، وحائل دون المغفرة شحناء يعني: عداوة فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا رواه مسلم.

وفي رواية له: تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين[9]، وذكر الحديث: أنظروا هذين حتى يصطلحا يعني: ممكن الإنسان يبقى في هذه الشحناء سنة، فالناس يغفر لهم في كل اثنين وخميس، وهذا معلق سنة كاملة، لا يغفر.

فحينما يصطلح الإنسان مع أخيه، ونحو ذلك، هو يحسن إلى نفسه؛ ولهذا فإن الطريق كما قال ابن القيم -رحمه الله-: هو قهر هذه النفس، والتغلب عليها.

هذه النفس هي التي تقف دائمًا، فلا يقبل الاعتذار أحيانًا، ويقف فلا يقبل أن يعتذر، يقف فلا يعفو حتى لا يقال: ضعيف، بل يقف حتى عن اللطف والبر والإكرام، بعض الناس حتى تكنية الآخرين، قد لا يكني إخوانه، فيقول: ما اعتدت على هذا، يعني: معتاد على الجفاء! بعض الناس تقف نفسه، يسمع كلام جيد على البر إلى آخره، ولا يستطع أن يقبّل رأس أمه، أو رأس أبيه، يقول: ما تعودنا على هذا في البيت، لو قبلتهم شيء غريب.

نقول: نعم معتاد على الجفاء، فيستغرب منك الإحسان والبر واللطف، لكن الذي عرف عنه اللطف والبر لو نسي يومًا استغربوا؛ لماذا ما قبَّل رأس أمه أو رأس أبيه؟

فليكن -أيها الأحبة-: شأننا أن يستغرب منا خلاف البر واللطف والمعروف، عود نفسك، ماذا تخسر؟ كني الصغار، إذا ما لهم كنى ضع لهم كنى، كنه الصغير، أو صغر أسماءهم: يا أنيس، يا عمير، تضع له كنية، أو صغر اسمه، أو نحو ذلك، وما تخسر شيء إطلاقًا، ولكنك تحسن إليهم، وتدخل السرور إلى أنفسهم، وتكسب محبتهم؛ لماذا إذا دخلت تكون سبب للانشراح والراحة والفرح والسرور لدي الآخرين، وإذا فقدوك فقدوا شيئًا له شأن، وله قيمة وبال.

أما إذا جئت كل واحد ساكت، وكل واحد ماسك زاوية، وجالسون؛ وهؤلاء الصغار كل واحد خائف لأنك دخلت عليهم، هذا لا يلق أبدًا.

فهذه النفس تحتاج إلى مجاهدة، وكثير من الناس يقول: ما أستطيع، وما تعودت على هذا، فهي النفس، لا بد من قهرها، وقهرها هو الطريق إلى المعالي، وإلا فالنفس تشد حتى إلى الراحة والاسترخاء، وهي النفس الأمارة بالسوء، التي تدعو إلى المعصية، والله المستعان.

سؤال: يقول: التعليق على قوله تعالى: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] كيف يكون ذلك؟ مع القاعدة.

وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] سبق أن ذكرتُ هذا، وقلت: إن الإنسان لا يملك خاتمته، ولكن من عاش على شيء مات عليه، فيكون الإنسان يعمل بطاعة الله ، ويجتهد في ذلك، ويخلص عمله لربه -تبارك وتعالى-، فيموت على ما عاش عليه، وهذا شيء مشاهد.

وذكرتُ بعض الأمثلة، في بعض المناسبات في ذلك، فالذين يعيشون على الطاعة والإيمان والتوحيد، تجدهم عند الموت يلهجون بهذا.

بل وجد أناس، وأنا رأيت بعض هؤلاء، وبعضهم حدثني من كان في المستشفى، ممن أثق بهم وبنقلهم، ورأيت بعض الناس وهو في حال من الغيبوبة، وهو يحرك شفتيه، ويحرك أصبعه.

وأما الذي حُدثتُ عنهم، وهم صنوف من الناس، حدثني بعض من في المستشفى، من لا أتهمهم أبدًا، كانوا مرافقين لبعض المرضى، بعض كبار السن كان مؤذن سنين طويلة جدًا، وهو في غيبوبة، فاقد الوعي ويؤذن أحسن ما يكون، كأنما هو في أيام شبابه.

وآخر كان عنده إبل، وكان يحب الغناء والأشياء، وهو رجل من البادية، فكان كبير في السن، وغائب عن الوعي، في غيبوبة أيضًا، في نفس المستشفى، فكان يردد أشياء من هذا الغناء الذي كان يقوله أيام قوته وعافيته، وأعرف المستشفى، وأعرف من حدثني مباشرة وليس ممن يبالغون، يغني وهو في غيبوبة بالأغاني التي كان يرددها:

(نبغي نسير على أم محمود، نبغي نشوف الهوالاتي، أم العيون دواويرها سود، مثل دواوير ساعاتي) ومن هذه الخرابيط، يتغزل بعيونها، وهو في غيبوبة، والله المستعان.

أما الذي يتحدث عن الإبل، وكذا عند موته، قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: الإبل من الحمض، والحمض من الإبل، والحمض نوع من النبات، ترعاه الإبل، وتهش له، وتؤثره على غيره، ويطيب بها لحمها، وألبانها.

فهذا الحمض له معني عندهم، فيقولوا له: قل: لا إله إلا الله، هذا ما أدرك المزايل، كيف لو أدركها؟ يقول: الإبل من الحمض، والحمض من الإبل، هذه لا إله إلا الله، وغير هذا.

وكنتُ ذكرتُ قديمًا: الذي أعجب بجارية، جاءت تبحث عن حمام منجاب في بغداد، الذي يغتسلون فيه الناس قديمًا، فجاءت وبابه يشبه باب حمام منجاب، قالت: أين حمام منجاب؟ قال: هذا، فدخلت، فإذا هو بيت هذا الرجل، فكانت ذكية، فقالت: يحسن ما يطيب معه المقام وهو خمر، فقال: الساعة، فخرج يأتي لها بشيء من خمر، فخرجت فأصيب بعقله، كان يقول:

يا رب قائلة يوما وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجابِ[10]

نسأل الله العافية.

والذي كان متعلق بفتى، نسأل الله العافية، فلما قالوا له: قل: لا إله إلى الله، قال:

أسلم يا راحة العليل رفقًا على الهائم النحيلِ
وصلك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليلِ[11]

هذا بدلاً من: لا إله إلا الله، فمن عاش على شيء مات عليه.

ولذلك بعض الشباب يسأل فيقول: الصلاة تقام، وأنا أريد أكبر، وألاحظ أنني أنشد، هذا النشيد الذي زي الأغاني؟ سموه نشيدًا؛ ليُقبل، زينه الشيطان لهم، يقول: أريد أكبر تكبيرة الإحرام، وأكتشف أني أنشد، طيب هذا إذا جاءه الموت، ما يخشى أنه إذا قيل: قل: لا إله إلا الله، يقول: شيئًا من هذا الكلام، نسأل الله العافية والهداية للجميع، والله أعلم.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر برقم (6065) ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر برقم (2559).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب برقم (3158) ومسلم في أوائل كتاب الزهد والرقائق برقم (2961).
  3. أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح برقم (1408).
  4. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس برقم (4860) والترمذي ت شاكر في أبواب المناقب، باب في فضل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- برقم (3896) وقال الألباني: "ضعيف الإسناد لكن الشطر الثاني منه في القسمة صحيح".
  5. أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 21).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سببًا لحصولها برقم (54).
  7. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر برقم (2565).
  8. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس برقم (747) وصححه الألباني.
  9. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر برقم (2565).
  10. تاريخ دمشق لابن عساكر (74/ 70).
  11. طوق الحمامة لابن حزم (ص: 318) ونهاية الأرب في فنون الأدب (2/ 194).

مواد ذات صلة