الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
حديث «بحسب امرئ من الشر..» إلى «من ذا الذي يتألى عليَّ..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب تحريم احتقار المسلمين.

وقد أورد المصنف -رحمه الله- حديث: أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم[1]، رواه مسلم.

وقد مضى الكلام على هذا الحديث، ومعناه: بحسبه من الشر، يعني: يكفيه من الشر، بحيث لا يحتاج إلى زيادة على تلك الحال، وما تلبس به من الشر، وما يسخط الله -تبارك وتعالى-، يعني: يكفيه من الشر ما فيه من احتقار أحد من المسلمين.

أن يحقر أخاه المسلم وهذا يدل على أن هذا الذنب عظيم وكبير، وأن ذلك قد يصل إلى كبائر الذنوب؛ لأن النبي ﷺ قال فيه: بحسب امرئ من الشر يعني: بالإجماع إلى زيادة.

أن يحقر أخاه المسلم وهذا كما سبق إنما يكون عادة ممن تلبس بأمور أخرى من المنكرات، كالذي يكون متكبرًا، فأنه يحقر الناس ويزدريهم، وينظر إليهم بشيء من الاستصغار.

ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: أن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس[2]، رواه مسلم.

فقوله ﷺ: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر يعني: أنه بحاجة إلى تطهير وتنقية، وهذا يدل على أن الكبر من كبائر الذنوب.

وقول الرجل: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة".

فقال: إن الله جميل، يحب الجمال يعني: هذا ليس من الكبر: أن يكون الإنسان بهيئة حسنة، إنما الكبر يتعلق بقلب هذا الإنسان، فيصدر عنه ما يكون أثرًا ونتيجة لهذا الكبر، هذا التعاظم الذي يكون في نفسه يُوْثر احتقار الآخرين، والنظر إليهم بشيء من الاستصغار.

سواء كان ذلك في نظر هؤلاء في نفسه، أو كان ذلك بما يصدر عنه من تصرفات، أو أقوال، أو النظر إليهم بطريقة معينة يزدريهم، أو يحتقرهم بذاك، كما قال الله : وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا[لقمان:18].

فمثل هذه التصرفات هي أثر ونتيجة لهذا التعاظم الذي يكون في قلب الإنسان -الله المستعان- فيصعر خده للناس، يعني: يميله، فلا ينظر إليهم بوجهه كبرًا وتيهًا، فهو ينظر إليهم، أو لا ينظر إليهم، وأن يعطيهم، ويدير وجهه عنهم، ولا ينظر إليهم، وإنما يعطيهم صفحة العنق، كالإبل التي أصيبت بالصعر، وهو ميل في أعناقها للكبر، والتيه، والله المستعان.

فهنا يحتقر الناس، أو يمشي في الأرض مرحًا، فهذه من آثار هذا التكبر، ويظهر ذلك في مشيته، وكلامه، ونظره للناس، وتعامله معهم، وفي مزاولاته المتنوعة.

قال هنا: الكبر بطر الحق ومعنى: بطر الحق، يعني: رده، وكثير ممن ردوا دعوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، إنما ذلك من قبل الكبر أو الحسد، فيتكبرون، وكانوا يقولون: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ۝ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان:41-42] فكانوا ينظرون إليه بشيء من الازدراء والاحتقار، ويقترحون على الله -تبارك وتعالى- أنه ينزل الوحي على بعض من يعظموهم، ويرون أنهم أجدر بذلك من الرؤساء، والكبراء وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ۝ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف:31-32] يعني: النبوة، فهذا كله راجع إلى الكبر، وتجد مثل هؤلاء لربما ينبزون من يحتقرونه بألقاب، أو بأمور يقللون من شأنه بها.

كأن يقولون مثلاً للنبي ﷺ: ابن أبي كبشة، كل ذلك تيهًا وكبرًا وتعاظمًا، وتعالي منهم، فعلى كل حال، كما قال الله : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].

كذا كان أعداء الرسل؛ وذلك أمر يتكرر أيضًا، ولكل قوم تابع.

فهنا قال: الكبر بطر الحق فالذي يرد الحق؛ لأنه جاء عن طريق من يستصغره، ومن يحتقره، ومن لا يراه أهلاً، ومن يره دونه في المرتبة، أو في العلم، أو في الألقاب العلمية، كما يقال، وما أشبه ذلك.

هذا كله من الكبر، سواء كان يرده مباشرة، أو يرده بطريقة أخرى، لا تكون صريحة، هذا منه؛ ولذلك تجد بعض الطلاب يتحرج أمام أستاذه حينما يخطئ خطأ واضحًا يلوح كالشمس.

فكل إنسان يخطئ، وكل إنسان يصيبه الذهول، والكمال لله ، ولا يحوي أحد جميع العلم، والإنسان يحفظ المسألة، فتجد هذا الإنسان يخطئ خطًا واضحًا مبينًا، فيتحرج به طلابه، كيف يستطيعون إيصال الصواب له؟ وكيف يستطيعون نصحه؟ فبعضهم يترك ذلك، وبعضهم يضطر لكتابة ورقة، ويضعها على سيارته، أو يضعها تحت باب مكتبه، أو نحو هذا؛ لأنهم يرون أنه لا يتقبل، ولربما جربوه قبل ذلك.

فإذا ذكروا له أن هذا غير صحيح، وإن هذا خطأ، وتلطفوا في بيان مسألة أخطأ فيها، أو في الدليل، أو نحو ذلك، فإنه لربما يصدر منه تصرفات عجيبة.

 يقول لهذا الطالب: تعال، أرني نفسك، وأريني صورتك، وتعال اقترب، واجلس هنا، واحمل كرسيك معك، ويتصرف تصرفات تدل على أنه إنسان غير سوي، نسأل الله العافية، فهذا كله من بطر الحق، والمؤمن يتواضع.

وقد ذكرتُ في بعض الدروس والمناسبات ما ذكره ابن حزم عن بعضهم: لما أخطئ في آية، فقيل له: إنها هكذا، فلم يقبل، وجاء له بالمصحف، وهو شيخ، فلم يقبل، ثم دخل إلى بيته، وأحضر المصحف، فجاء بها والحبر لم يجف، نسأل الله العافية، فغيرها لئلا يقال: أخطأ، فإذا كان هذا بهذه المثابة، وبعضهم إذا أخطأ في الآية، ونحو ذلك، قال: هذه في قراءة أخرى، كذب على الله، نسأل الله العافية.

ولربما يربى بعض الناس على هذا بأساليب التربية الحديثة في المدارس، والجامعات أنه من الحذق، والذكاء، والفطنة، والمهارات التربوية: أن الطالب إذا سألك سؤالاً لا تعرفه، فلا تقول: لا أدري، وإنما تقول: ابحث لنا هذه المسألة، أو تقول: هذا سؤال مهم ذكرني في آخر الدرس، فينسى الطالب ذلك، ويخرج الأستاذ، وينتهي من الإشكال، وإنما الصحيح أنه يقول: أنا أخطأت، وإذا سئل عن شيء لا يعرفه مباشرة بلا تردد، يقول: أنا ما أعرف، أنا سأراجع هذه المسألة، وأنا سأبحثها، ولا يقول له: ابحث أنت، يقر أولاً بالخطأ، فإن كان لا يجد وقتًا، أو يريد يدرب الطالب يقول: ما أعرف، ابحث لنا هذه المسألة.

ولا يقول: ابحث المسألة، لا، أول شيء يقول: أنا ما أعرف، ولازم يربي نفسه على هذا، ويربي الآخرين عليه، وهذا هو الصحيح، وللأسف أحيانًا في المقابلات حتى يقبل طالب في الكلية التربوية يسأل هذه الأسئلة: كيف يتصرف باعتبار أنه حاذق، أو ليس حاذق، وإن عنده مهارات تربوية، أو ليس عنده مهارات تربوية، لو سألك الطالب سؤالاً لا تعرف إجابته كيف تتصرف؟ أقول له: هذا السؤال مهم، ونؤجله إلى آخر الدرس، فينسى الطالب، وأخرج، ممتاز، مع أن هذا ليس بممتاز، وهذا جواب غلط، والله المستعان.

وغمط الناس وهذا هو الشاهد أيضًا، واحتقارهم ينظر إليهم بازدراء لسبب أو لآخر، إما أنهم بعينه جهال، وهو العالم الذي لا نظير له، وإما أن هؤلاء ينتسبون إلى نسب وحسب دونه في نظره هو، وما علم أن الميزان هو التقوى، أو ينتسبون إلى إقليم، أو مدينة، أو بلدة، أو قرية، أو إلى ناحية، أو قطر من الأقطار، يزدري أهلها، ويحتقرهم، فهو يرى أن الناس ليسوا من جنس البشر، وإنما هم من سلالة أخرى، غير سلالة آدم .

فمثل هذا كله من الكبر، وهذا قد يصدر، ويخرج بفلتات اللسان، وقد يخرج في حالات الغضب، فتخرج الأشياء التي تنبئ عن ضعف في التربية، ورواسب في الجاهلية في نفوس بعضنا، والله المستعان.

ثم ذكر الحديث الأخير في هذا الباب، وهو حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله : من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له، وأحبطت عملك[3].

فقوله: يتألى علي يعني: يحلف علي، والشاهد في هذا: هو هذا الرجل لما قال: والله لن يغفر الله لفلان، قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان هذا التصرف وهذه المقولة التي صدرت من هذا الإنسان والله لا يغفر لفلان تدل على أن هذا الإنسان قد اعتقد في نفسه الصلاح والاستقامة، ثم بناء على ذلك قد حقق النجاة، وأن هؤلاء الناس من الهلكى، ومن ثم صار بمنزلة يحكم بها عليهم.

فلان الله لا يغفر له، لا على سبيل الدعاء، وإنما على سبيل الخبر، لا يغفر الله له، فصار حاكمًا، وهذا يقع فيه بعض الناس أحيانًا، قد يندفع أو يكون من باب الغيرة، أو نحو ذلك.

فيتكلم على الناس بهذه الطريقة، كأنه جالس على باب الجنة، وضمن النجاة لنفسه، وفلان هالك، وفلان لا يرجع إلى الحق أبدًا، حتى يرجع اللبن في الضرع، وفلان كذا، وفلان كذا، وفلان كذا.

هذا لا يجوز، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، فقد ينحرف هذا القائل، ويبتلى بما قال، ويتوب الله على ذاك، والله - يقول-: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:7] لا يعجزه شيء، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابعه.

أيضًا لربما يمارس هذا أحيانًا بعض الوعاظ؛ ولهذا لا يحسن بالواعظ، أو بالخطيب، أو نحو ذلك، أن يتكلم بطريق، أو بأسلوب فوقية: ألستم تفعلون كذا؟ وألستم تفعلون كذا؟ وألستم تقعون في كذا؟ وكأنه بمنجاة من هذا كله، هو لم يوقع شيء من ذلك، فيتكلم عنهم، فيتكلم بأسلوب الآخرين، فيزعج الأسماع، فيقول: أنتم تعصون الله ، ثم تطلبون بعد ذلك، أنتم تتقلبون في نعمة، وتعصونه، وأنتم تمنعون زكاة أموالكم، فيمنع القطر من السماء، فيتكلم يقول: نحن مقصرون، ونحن نخاف من بأس الله ، ونحن نخاف من عذابه، وما شابه ذلك، هذا هو اللائق.

ولعلي ذكرتُ في مناسبة من المناسبات قول ذلك الواعظ الذي كان يعظهم في المسجد، فيقوب: يا جماعة، المسألة فيها جنة ونار، لا بكرة يجني أحد يقول لي: كيري وميري، يعني: إنسان يقول مثل هذا الكلام، ومعنى هذا الكلام: لا يأتي أحد يوم القيامة وهو يقول لي يعتذر: كيري وميري، يعني: يحاول أن يعتذر، ويقدم أعذار، وما أشبه ذلك، المسألة جد من الآن استعدوا لها، هو لن يأتيك أحد، اسع في خلاصك، وابحث عن فكاك رقبتك، فهذا كأنه ضامن النجاة، والله المستعان.

فمثل هذه العبارة تدل على خلفية معينة، فهكذا أحيانًا حينما نعظ الناس نقع في مثل هذه الأمور بطريقة، أو بأخرى، فإنما اللائق نتحدث أننا معهم، وأننا من يعصمنا من بأس الله ، ومن عذابه إذا جاءنا ووقع بنا، والله المستعان، والله أعلم.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله برقم (2564).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه برقم (91).
  3. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى برقم (2621).

مواد ذات صلة