الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «وإذا حلفت على يمين..» إلى «لأن يلج أحدكم في يمينه..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

فهذا "باب ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها: أن يفعل ذلك المحلوف عليه، ثم يكفر عن يمينه" ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها يعني: أن ذلك لا يجب، ولكنه الأفضل في حقه؛ إذ أن المؤمن من فقهه أن يوازن بين الأشياء، وأن يعرف الفاضل من المفضول، فإن هذا لون من ألوان الهداية الداخلة تحت قوله -تبارك وتعالى- فيما نردده في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فمن الهداية إلى الصراط المستقيم: أن الأعمال في غاية التفاضل، فيوفق العبد بأن يعرف أفضل الأعمال، وأعلى المصلحتين، وخير الخيرين، وكذلك أيضًا أن يُوفق ويهدى بعد ذلك إلى سلوك مقتضى هذا العلم والمعرفة، فقد لا يوفق الإنسان إلى معرفة ذلك، وقد يعرف، ولكنه لا يمتثل، ولا يطبق، فهما هدايتان قبلهما وبعدهما هدايات، كل ذلك داخل في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

فهنا: "ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها: أن يفعل ذلك المحلوف عليه، ثم يكفر عن يمينه" يمكن أن يكون ذلك -كما سيأتي- بعد أن يحنث يخرج الكفارة، ويمكن أن يكون هذا قبل أن يحنث يعني: يكفر، ثم يفعل ما يريد، أي: ما حلف أنه لا يفعله، وظواهر الأدلة تدل على هذا وهذا، فكلاهما جائز، كما سنرى إن شاء الله.

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224] بمعنى: ألا تجعل اليمين حائلة دون فعل البر والصلة، والخير والإصلاح بين الناس، فيقول الإنسان: أنا حلفت ألا أصل فلانًا، وأنا حالف ألا أعطي فلانًا، وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا فيكون ذلك عذرًا لترك البر والمعروف بحجة: أنه حلف ألا يفعل، وإنما يكفر عن يمينه.

وذكر حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله ﷺ: وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فأتِ الذي هو خير، وكفر عن يمينك[1].

فقوله: فرأيت غيرها خيرًا منها هذا قد يحلف الإنسان على شيء لا يجوز أن يحلف عليه، كأن يحلف أن يقطع رحمه، أو ألا يصل الرحم، فهذا يجب عليه أن يصل الرحم، فالحنث هنا واجب، وقد يكون حلف على أمر الأفضل في خلافه، فهنا يستحب له أن يكفر عن يمينه.

قال: فأتِ الذي هو خير، وكفر عن يمينك هنا ذكر الكفارة بعد قوله: فأتِ الذي هو خير، وكفر لا يلزم أن المقصود هنا الترتيب؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، بمعنى: أنه لا يُؤخذ من هذا أن الكفارة من ظاهر الحديث تكون بعد الفعل، بعد أن يحنث، لا؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، يعني: يمكن أن يكون قبل، ويمكن أن يكون بعد، المقصود: أنه تلزمه الكفارة.

قال: "متفق عليه".

ثم ذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه لاحظوا هنا ذكر الكفارة أولاً، وليفعل الذي هو خير[2]، رواه مسلم.

فليكفر عن يمينه ظاهره يدل على أنه يجوز أن يقدم الكفارة، ثم يحنث بيمينه، أما أنه يحنث باليمين، ثم يخرج الكفارة، فهذا لا إشكال فيه، فكونه يخرج الكفارة بعدها هذا لا جدال فيه لا إشكال أنه جائز، لكن هل له أن يخرجها قبل؟

الجواب: نعم، وظاهر هذا الحديث يدل عليه: فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير وهذا الذي عليه الجمهور: أنه يجوز التقديم، خلافًا للأحناف، الذين يقولون: لا يجوز أن تقدم الكفارة على اليمين، وهذا الحديث يرد قولهم، وهم إنما استندوا -والله تعالى أعلم- إلى النظر؛ وذلك أن الحنث لم يقع، ومن ثم فإن مقتضاه لم يتعلق بذمة المكلف الذي هو الكفارة، لكن الحديث يدل على أنه يجوز أن يخرج قبل ذلك.

وبعضهم فرّق بين الصيام وغيره من خصال الكفارة، فكفارة اليمين -كما نعلم- عتق رقبة، أو إطعام عشرة، مساكين، أو كسوتهم، فهو مخير بين هذه الخصال الثلاث، فإن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام، ولا يجزئه الصيام إذا كان يستطيع واحدة من تلك الخصال الثلاث، يعني: بعض الناس يبادر فيصوم، فلا يصح إلا إذا كان عاجزًا عن واحدة من الثلاث، فبعض الفقهاء يقولون: إن الصيام لا يقدم.

والواقع: أنه لا فرق بين الصوم، وبين الإطعام، أو الكسوة، أو عتق الرقبة، لا إشكال في هذا.

وعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- لما حلفت عائشة -رضي الله عنها- في القصة المعروفة: ألا تكلمه، وهي خالته، وكان قد شفّع جماعة، ثم بعد ذلك دخل عليها.

والحاصل: أنه أخبرها أنه أعتق عشر رقاب في يمينها، وهي يمين واحدة، لكن لتعظيم هذا، فأعتق قبل الحنث يريد منها: ألا تبقى على هذا اليمين بمقاطعته، وترك مكالمته[3].

فقوله: فليكفر عن يمينه؛ وليفعل الذي هو خير يمكن أن يُؤخذ من هذا مسألة تتعلق بالصيام والكفارة من عجز عن الصيام في رمضان عجزًا كليًا، فكان حقه الإطعام، يطعم عن كل يمين مسكينًا، فله ثلاث حالات: إما أن يخرج الكفارة في أول الشهر عن الشهر كاملاً، وإما أن يخرج عن كل يوم بيومه، وإما أن يخرج عن الشهر في آخره، كما كان أنس يفعل، يجمع المساكين في آخر الشهر ثلاثين مسكين مثلاً ويطعمهم.

الصورة الثانية: عن كل يوم بيومه.

والثالثة: في آخر الشهر، فلا إشكال في صحتها.

ولكن الذي اختلفوا فيه هو الصورة الأولى: هل له أن يقدم ذلك في أول الشهر، باعتبار أن ذلك ما تعلق بذمته، فيكون قد عجله وقدمه قبل أوانه، هل له ذلك؟

بعض الفقهاء يقولون: لا، ليس له أن يفعله في أول الشهر، والأقرب -والله أعلم- أنه يجوز له ذلك، لا إشكال في هذا، ولا دليل على المنع، وكفارة اليمين تدل عليه، ولكن إذا أراد المكلف أن يحتاط خروجًا من الخلاف، فإنه يخرج عن كل يوم بيومه، أو في آخر الشهر.

والحديث قبل الأخير: حديث أبي موسى أن النبي ﷺ قال: إني -والله إن شاء الله- لا أحلف على يمين، ثم أرى خيرًا منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير[4]، متفق عليه.

هذا تعليم من النبي ﷺ لأمته إني والله إن شاء الله وهذا الاستثناء إذا كان في اليمين، فإن الإنسان لا يحنث، لا تجب عليه الكفارة إذا حنث.

قال: لا أحلف على يمين، ثم أرى خيرًا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير كما حلف النبي ﷺ، ألا يحمل الأشعريين في بعض مغازيه، ثم حملهم -عليه الصلاة والسلام-.

وأبو بكر لما حلف ألا يصل مسطحًا في قصة الإفك، وكان مسطح أحد الذين قذفوا عائشة -رضي الله عنها-، وكان قريبًا لأبي بكر من جهة الخؤلة، وكان فقيرًا من فقراء المهاجرين، ومن أهل بدر، فكان أبو بكر هو الذي ينفق عليه، فقذف عرضه وعرض النبي ﷺ، فحلف أبو بكر ألا يصله، يعني: لا يعطيه، فأنزل الله: وَلَا يَأْتَلِ [النور:22] يعني: من الحلف من الألية، وهي الحلف لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ [البقرة:226] يعني: يحلفون وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22] أُولُو الْفَضْلِ هم أهل المراتب العالية في الدين وَالسَّعَةِ في العطاء والغنى أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] فقال أبو بكر : "بل والله، إني أحب أن يغفر الله لي"[5]، فكفر عن يمينه، وأعاد له ما كان من الصلة.

الحديث الأخير في الباب:

وهو حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لأن يلج أحدكم في يمينه في أهله آثمًا له عند الله تعالى من أن يعطي كفارته التي فرض الله عليه[6].  

فقوله: لأن يلج يعني: يتمادى في يمينه التي حلف فيها، ولا يكفر، فهذا آثم -يعني: أكثر إثمًا- من أن يعطي كفارته التي فرض الله عليه يعني: بعض الناس يتحرج، ويقول: أنا حالف، طيب أخرج كفارة اليمين؟ قال: لا اليمين صعبة، واليمين شديد، وأنا حلفت، ولا أريد أن أخرم هذه اليمين، ولا أحنث فيها، فيقال: الاستمرار بهذا الذي حلفت عليه، وفيه ضرر، وفيه نقص في البر أو العمل الصالح، أو الصلة، وما إلى ذلك هذا أشد، وآثم وأكثر إثمًا، من أن الإنسان يرجع عن يمين حلفها، وبعض الناس يتمسك باليمين، ويحتج بها، ويصر، ولا يقبل نصح الناصحين، ويقول: اليمين سائد، يعني: شديد وصعب، فمثل هذا الحديث يكفي في الرد عليه، والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده برقم (6722) ومسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير. وفي كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها برقم (1652).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير برقم (1650).
  3. أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب مناقب قريش برقم (3505).
  4. أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين برقم (3133) ومسلم في كتاب الإيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها برقم (1649).
  5. أخرجه البخاري في كتاب المغازي برقم (4141) ومسلم في التوبة، باب في حديث الافك وقبول الله توبة القاذف برقم (2770).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور (6625) ومسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الإصرار على اليمين برقم (1655).

مواد ذات صلة