الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «من عُرض عليه ريحان..» إلى «إذا رأيتم المداحين..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب كراهة رد الريحان لغير عذر"، والريحان معروف، أطلق المؤلف -رحمه الله- هنا الكراهة كأنه يقصد بذلك كراهة التنزيه، والإمام البخاري -رحمه الله- قال في الصحيح: "باب هل يرد الطيب؟"[1]، ففهم منه بعض الشراح أن الإمام البخاري -رحمه الله- لم يحمل ذلك على التحريم.

وقال يوجد في الروايات ما يدل على أن ذلك لا يجب، ثم أن ذلك أيضًا يعني: الكراهة، أو التحريم محمول على أن ذلك يعني: الرد يكون لغير عذر، أما العذر فإنه لا بأس بالرد من أجله، والعذر مثل لو كان مريض يسبب له هذا النوع من الطيب شيء من الحساسية، أو نحو ذلك فله أن يعتذر، ويرد، أو يكون في ذلك مِنة، ولهذا قال بعض أهل العلم: أن ذكر الريحان هنا في هذا الحديث يصدق على غيره من أنواع الطيب فإنه لا يرد.

 قالوا: لكن لو كان ذلك من الأنواع التي لها قيمة مرتفعة، فإن ذلك قد يكون فيه مِنة فقد يرد، وهنا حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الريح[2]، رواه مسلم.

من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الريح ليس فيه كلفة في أخذه، وهو أيضا طيب، طيب الريحة، فيحصل فيه النفع من غير ضرر، ولا كلفة، ولا مشقة، لكن لو كان ذلك كما سبق يعني: هذا الريحان الذي لا يرد يكون على صورتين:

الصورة الأولى: أن يكون يعني إذا قلنا: إن ذلك يدخل في أنواع الطيب، إذا عطره طيبه فهذا لا إشكال فيه، هذا لا إشكال فيه، الأمر في ذلك يسير، ولا يرد إلا إذا كان لعذر كأن يكون هذا الإنسان يتضرر منه.

لكن لو أنه أعطاه على سبيل التمليك، أعطاه قارورة من الطيب، هذا الطيب إذا كان من الأنواع الغالية، قد تكون هذه القارورة الصغيرة التي قد لا تتجاوز نصف تونة، فقد تكون بثلاثة آلف ريال، أو أكثر، فمثل هذا تلحق فيه المِنة أحيانًا، حسب الشخص المهدي، وحسب الهدف.

هذا قاضي ويعطيه قارورة من الطيب يأخذها أولا يأخذها؟

لا، معلم، أو معلمة، موظف، أو موظفة يأتي أحد المراجعين أحد التلاميذ يعطي هذا الأستاذ، أو يعطي أو مدير المدرسة يعطيه قارورة من دهن العود أو الطيب الجيد الذي له شأن، فهذا لا، لا يأخذه، هذا له عذر؛ لأن هديا العمال غلول[3]، فهذا العمل الذي وكلا إليه يأخذ عليه أجرًا لا يكون سبيل إلى التوصل إلى مكاسب أخرى.

هذا غير موضوع الذمة، والميل إليه، وإصغاء القلب، يعني: له نوع شبه من الرشوة وذلك ممن مصلحته عنده، فهذا من الأعذار الذي يرد فيها، فوضع الطيب في اليد هذا أسهل؛ لأن الأطياب، أو العطور التي ليست لها قيمه ذات شأن يمكن أن يأخذها، لأنه لا تحصل بها المِنة، لأن الغالية تحصل بها مِنة.

ولهذا كانت الهبة متوقفة على قبول الموهوب، يعني: ليست كمال الميراث، مال الميراث بمجرد موت المورث ينتقل الملك جبريا إلى الوارث، شاء أم أبى فله بعد ذلك أن يتبرع به، أن يتصدق، يفعل ما شاء، لكنه دخل في ملكه.

أما الهبة فإنها لا تدخل في تملك الموهوب إلا إذا قبلها، يعني: متوقفة على القبول؛ لأنه قد يكون فيها مِنة، فيعتذر، قد يكون فيها شبه، قد يكون هذا العطر يتحرج منه مثلا: فيه كحول وهو يرى لا يجوز التعطر بالأطياب التي فيها كحول لسبب أو لآخر مثلا، فيرد ذلك لهذا السبب.

قد يعتقد أن هذا من مكسب حرام مثلاً، فيتورع منه، أو عنده مصلحة معينة، أو كالقرض الذي جر نفعًا، البنك الذي عنده الحساب أعطاه قارورة من الطيب هل له أن يأخذها؟

الجواب: لا؛ لأنه بمنزلة المقرض للبنك، بل هو مقرض للبنك، فلا يأخذ منه جراء ذلك مثل هذه الهدايا من البنك، إلا ما جرت به العادة للجميع، مثل: التقويم، ونحو ذلك مما لا شأن له، يعطى لك الناس.

هنا قال: وعن أنس بن مالك ، أن النبي ﷺ كان لا يرد الطيب[4]. رواه البخاري.

وهذا يتضح مما سبق، وهذا من أدبه ﷺ، وكان -عليه الصلاة والسلام- يحب الطيب، وكانت رائحته ﷺ أطيب الرائحة[5].

ثم قال: "باب كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه، وجوازه لمن أُمن ذلك في حقه"، "باب كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه"، المدح في الوجه ينقسم من حيث الحكم، تارة يكون حرامًا كمدح الظالم، وذلك يزين له ما هو فيه من الظلم، والمدح بالنفاق، والملق، والتزلف، وما أشبه ذلك بالباطل، والكذب، والزور، فهذا لا يجوز، حرام.

وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مستحبًا، وقد يكون مباحًا، فالشاهد أنه يختلف، وذلك أن هذا المدح يمكن أن يضبط، وأن يقيد، الأصل أن المدح لا يطلب، فإن كان لمن لا يستحق فهذا لا يجوز في الأصل، إلا إن كان ذلك لمصلحة راجحة، ولا يقول إلا حقًا.

لمصلحة راجحة مثل ماذا؟ لو أنه يأمره وينهاه عن المنكر، أو ينتظر منه أن يقوم بذلك هو، لمن تحت ولايته، فيثني عليه بما فيه، ويقول: أنت من أسرة كريمة، أسرة شريفة، أنت من القبيلة الفلانية، أو العشيرة الفلانية، وأنت من قوم أهل غيره، أو أبوك فلان، أو جدك فلان، إن له أب أو جد من أهل الصلاح أو الغيرة.

أو يذكر بعض الأفعال الجميلة التي صدرت منه، يقول: أنت لك مآثر، لك أشياء جيدة، فعلت كذا، فعلت كذا، فعلت كذا، مما هو حق، ليكون مقدمة لأمره ونهيه فيقول له مثلاً: لا تفعل هذا، لا تأمر بهذا، ينبغي أن تنهى من تحت يدك عن كذا، فهذا لا إشكال فيه أن يقدم بمقدمة تكون أدعى للقبول، فهذا لا بأس.

وكذلك لو أن هذا الإنسان يمدح في مقام من يقتضي المدح مثل: النبي ﷺ ماذا قال في الأنصار؟ لما وقع في نفوسهم ما وقع عام الفتح، وأعطى أبى سفيان مائة من الإبل، وأعطى معاوية مائة من الإبل، والعباس بن مرداس مائة من الإبل، وعيينة بن حصن مائة من الإبل، وصفوان بن أمية مائة، وهكذا.

 فوقع في نفوس بعضهم، فجمعهم النبي ﷺ، منفردين، وتكلم معهم بكلام تعرفونه، ثم أمرهم أن يجيبوه، فأثنى عليهم بما هم أهله[6]، وكذلك أثنى على أبي بكر بما هو أهله، وأنه ما نفعه مال كمال أبي بكر[7]، وذكر فيه من الأوصاف الجميلة ما هو أهل له -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.

وهكذا قال ذلك في جمع من أصحابه، وابن عباس لما دخل على عائشة -رضي الله عنها- وهي في سياق الموت، فجلس يذكرها، يذكر مآثر لها؛ من أجل تغليب جانب الرجاء، فيذكرها أنها أحب أزواج النبي ﷺ إليه[8]، وأنه مات ورأسه -عليه الصلاة والسلام- بين سحرها ونحرها[9]، إلى آخره.

فذكر مآثرها، كذلك أيضًا عبد الله بن عمرو بن العاص لما دخل على أبيه في سياق الموت، فأدار وجهه للجدار، وكان في حال من الحزن، والخوف، فذكره بإسلامه، وبيعته للنبي ﷺ[10]، وما إلى ذلك.

فهذه يحتاج إليها أحيانًا عند إنسان لربما حصل له شيء من القنوط، أو حصل له شيء من الخوف عند الموت فيرجى، أو يكون هذا يقال لإنسان لربما أصيب بشيء من الإحباط، وتحركت وتزعزعت ثقته بنفسه بسبب فعل بعض من لا يحسن صحبته، ممن يثبطه من زملائه أو غير هؤلاء.

فيقول: أنت متفوق، أنت قدمت كذا، أنت حصلت على كذا، أنت كان من شأنك كذا، أنت حفظت كذا، يكفي أنك حفظت القرآن، يكفي، يكفي، من أجل أن يرفع همته، فلا يلتف إلى هؤلاء المثبطين مثلاً، المخذلين الذين يكسرون همته، يورثونه شيئًا من عدم الثقة بالنفس والإحباط، وهكذا في مقامات الحاجة.

إنسان يحث على الخير، يشجع على الخير فينبغي أن يكون المدح لعلة، لغرض صحيح، لا يكون المدح لمجرد المدح، أما إذا كان بكلام لا يحل، ولا يحق، كلام هو كذب، ولا حقيقة له، يمدحه بما ليس فيه فهذا حرام.

وأما إذا كان بأشياء هي حق لكن على سبيل التملق، والتزلف، فمثل هذا أيضًا لا يجمل، ولا يحسن، ولا يليق، وهكذا إذا كان المدح قد يبالغ فيه، أو يكثر منه أكثر من قدر الحاجة بأمور حقيقية أحيانًا لكن يخشى على الإنسان أن يتأثر فهو ضعيف القلب.

وكل إنسان يتأثر من المدح، فيجلس يمدح هذا، ويمدح إما بحضرة الناس، أو يمدحه في وجهه في غيبتهم، ويطريه ويثني عليه، فهذا كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري قال: سمع النبي ﷺ رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة، -يطريه، يعني: يبالغ في مدحه-، فقال: أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل[11]، يعني: شك الروي، أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل، متفق عليه.

أو قطعتم ظهر الرجل، يعني: قضيتم عليه، فمثل هذا -نسأل الله العافية-، يؤثر في قلب الإنسان فيورثه ألوانا من الأدواء؛ من العجب وغيره.

ثم ذكر حديث أبي بكرة أن رجلاً ذكر عند النبي ﷺ فأثنى عليه رجل خيرًا، فقال النبي ﷺ: ويحك! قطعت عنق صاحبك، قطع العنق: قتل، فهذا من الناحية المعنوية يعني: كأنك أجهزة عليه.

يقول مرارًا يعني: يكرر، إن كان أحدكم مادحًا لا محالة، يعني: الأصل عدم المدح، كان أحدكم مادحًا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، يعني: كان لا يعتقد هذا فهذا لا يجوز، وحسيبه اللَّه ولا يزكى على اللَّه أحد[12]، متفق عليه.

يقول: أنا أحسبه، أظنه، ما لنا إلا الظاهر.

يقول: وحسيبه اللَّه يعني: الله الذي يتولى حسابه، ولا أزكي، يقول: ولا يزكى على اللَّه أحد يعني: لا أقول: إن هذا تقي، لا أقول: إن الإنسان مؤمن حقًّا، وتقي حقًّا، وصالح حقًّا، ومحقق للإيمان، والتقوى كما ينبغي، لا، لا أزكى على اللَّه أحد.

إنما نحكم بحسب الظاهر، فإذا احتاج الإنسان أن يكتب له تزكية، أو نحو ذلك، يقول: أعرف عنه محافظته للصلاة، أعرف عنه أنه مثلاً صاحب خلق حسن، أنه حريص على العلم، أنه حريص على مجالس العلم، ونحو ذلك، أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على اللَّه أحدًا، هكذا يقول.

أما أن يوغل في ذلك فيقول: فلان من الأتقياء، الأنقياء، الصالحين، الأبرار، لا يحق له أن يتكلم بهذا؛ لأن الله هو المطلع على قلوبهم، كيف لو قال: فلان من أهل الجنة، فلان يحاكي الصحابة مثلا، بإيمانه، وعمله، وتقواه، وصلاحه، ونحو ذلك هذه مبالغة في الثناء.

والمشكلة أن كثير من الناس إذا أحب بالغ في الإطراء، ولربما ركب لهذا المحبوب من الأوصاف مالا يرتضيه هذا المقول فيه إن كان عاقلاً، فضلاً عن أن يكون تقيًا، فينسب إليه أوصافًا في التقوى، والديانة، والورع، والإيمان، والخوف من الله أحيانًا ليست حقيقة، يعني: جاء بها، اختلقها.

والمشكلة أن بعض هؤلاء يبالغون، ويكتبون في منتديات، ونحو ذلك، فيحرك نفوسًا أخرى، فيتسلطون على هذا الذي يكون من أهل العلم، وأهل الصلاح والخير، فيقعون فيه، والسبب هو هذا المبالغ في المدح، ويكون كما قال النبي ﷺ: لعن الله من لعن والديه[13].

فقالوا: أيلعن الرجل والديه؟ فقال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب، فالمتسبب نزل منزلة المباشر، هو الذي تسبب بهذا الشتم، فبالغ في مدحه، فبعض النفوس ما تحتمل إذا رأوا أحد يثنى عليه، ويمدح، ونحو ذلك، تتحرك بعض النفوس، وتبدوا بصور غير مرضية، ثم يصدر منها من التصرفات، والأقوال ما لا يحمد، والموفق من وفقه الله .

فهذا يحصل به من هذه الأضرار، وكثير من الناس يمدحون ويطرون إذا أحبوا، فإذا أبغضوا تحول ذلك إلى مبالغة في الذم، وينسب إلى الإنسان أشياء يبرأ إلى الله منها، وهذا كله خلاف العقل، وهو خلاف أيضا الدين والتقوى ومراقبة الله -تبارك وتعالى-.

فالإنسان إذا أحب يعتدل في محبته، وفي ثنائه، وإطرائه، وإذا أبغض ينبغي أن يعتدل في بغضه، وفي كلامه أيضًا على من لا يحب، وما أجمل أن يحفظ الإنسان لسانه.

يقول: وعن همّام بن الحارث وعن أبي هريرة، وعن همام ابن الحارث عن المقداد -: "أن رجلاً جعل يمدح عثمان فعمد المقداد فجثا على ركبتيه"، جثا على ركبتيه يعني: نزل على ركبتيه كالمستوفز، "فجعل يحثو في وجهه الحصباء"، وجه المادح.

فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رَسُول اللَّهِ ﷺ قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب[14]، رواه مسلم.

يقول: فهذه الأحاديث في النهي، وجاء في الإباحة أحاديث كثيرة صحيحة.

احثوا في وجوههم التراب، فهم منه المقداد وبعض أهل العلم أن على ظاهره، وأنه ما حثا تراب، حثا الحصباء، وبعضهم يقول: أن مراد به فاحثوا في وجوههم التراب، يعني: لا تعطوهم شيئًا، يعني: جرت العادة أن هذا يأتي عند الخليفة، أو الأمير يمدح من أجل أن ينال شيئا من الدنيا، فلا تعطيه شيئًا.

فاحثوا في وجوههم التراب يعني: لا تعطيه، لكن هذا خلاف الظاهر، وأبعد منه قول من قال: احثوا في وجوههم التراب يعني: تذكروا أصل الخلقة، وذكروا به أنها من تراب، فلا يتعالى الإنسان، ولا يعجب بنفسه، ولا يترفع.

فالعاقل هو الذي لا يغتر بمدح الناس، وثنائهم، فالإنسان من أنفع الأشياء أن يعرف الإنسان نفسه، وأن يعرف ربه.

فإذا عرف نفسه لم يتجاوز حده، وإذا عرف ربه عظمه حق التعظيم، وعبده على الوجه اللائق.

يقول النووي -رحمه الله-: قال العلماء: وطريق الجمع بين الأحاديث، يعني: ما ورد فيه المدح والنهي هنا أن يقال: إن كان الممدوح عنده كمال إيمان، ويقين، ورياضة نفس، ومعرفة تامة، بحيث لا يفتتن، يعني: إذا أمنا عليه الفتنة، ولا يغتر بذلك، ولا تلعب به نفسه، فليس بحرام ولا مكروه، وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور كره مدحه في وجهه كراهة شديدة، وعلى هذا التفصيل تنزل الأحاديث المختلفة في ذلك.

ومما جاء في الإباحة قوله ﷺ لأبي بكر : أرجو أن تكون منهم[15]: أي من الذين يدعون من جميع أبواب الجنة لدخولها.

وفي الحديث الآخر: لست منهم[16]: أي: لست من الذين يسبلون أزرهم خيلاء.

وقال ﷺ لعمر : ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك[17].

والأحاديث في الإباحة كثيرة، وقد ذكرت جملة من أطرافها في كتاب الأذكار".

هذا وجه في الجمع، لكن هذا الوجه -والله تعالى أعلم-، قد يصدق على بعض الصور، وبعض الأحاديث، أو بعض الحالات، ولكن هنا يبقي أشياء أخرى، يعني: قول النبي ﷺ هكذا بإطلاق: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب.

ما قال: في الحالة التي يخشى فيها على الممدوح، أو لا يخشى فيها على الممدوح؛ فهذا يمدح عثمان ، وعثمان ليس من من يضعف أمام المدح ، ومع ذلك قام المقداد يحثوا في وجه هذا المادح.

فدل هذا على أن المدح ليس بمطلوب لذاته، وإنما حيث وجدت المصلحة، وأمنت المفسدة، أو ترجحت المصلحة، فلا بأس به، وإلا فيترك.

وإن احتاج إليه فيكون بقصد، لا يكون بمبالغة، وإذا رأيتم المداحين صيغة مبالغة مداح، على وزن فعال، صيغة مبالغة، فهذه صيغة المبالغة، قد يكون لكثرة ما يمدح يتكرر هذا فهذا يحتاج فعلاً أن يحثا في وجهه التراب، أو لمبالغته في المدح في المقام الواحد.

يعني: يستفيض في المدح والإطراء، فهذا أيضًا لا يحسن، ولا يجمل، ولا يليق، فالحديث ليس فيه تفصيل.

وجمع مع الأحاديث الأخرى يقال: حيث وجدت المصلحة، وأمنت المفسدة فلا بأس، فيكون المدح على سبيل التحفيز.

يكون للبناء، يكون لدفع عوارض فاسدة، كما يتسلل إلى النفوس شيء من القنوط، شيء من اليأس، شيء من الإحباط، فيحتاج الإنسان إلى تحفيز، ولذلك الناس الآن يتكلمون في الجوانب التربوية عن التحفيز في المدارس، والمجامع، التعليم والتربية، وما إلى ذلك.

هذا المدح لا إشكال فيه، لكن يكون باعتدال، ويكون أيضًا حيث تترجح مصلحته، وتؤمن مفسدته، فلا إشكال في هذا، والنبي ﷺ ذكر لبعض لأصحابه ما سبق.

فهذا لا إشكال أن يقال لهذا الطالب الذي حفظ، الذي أتقن في الحفظ، يقال: ما شاء الله، هذا جيد، أحسنت، بارك الله فيك، إلى الأمام، ندفعه، استمر على هذا، واصل في هذا الحفظ، واصل في هذا الإتقان، جاءنا هذا الولد الآن، فصار عنده همة لحضور الدروس، ما شاء الله، فنشجعه ممكن نعطيه هدية، نقول: بارك الله فيك، أنت صاحب همة عالية، أنت صاحب صبر، همتك تسمو إلى هذه المعالي، لا إشكال في هذا.

أما المدح الذي لا يكون بحق، أو من غير حاجة، ولا موجب، ولا يكون للبناء، فمثل هذا قد يكون ضرره أعظم من نفعه، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. لم أجد هذا التبويب، وإنما وجدت: "باب من لم يرد الطيب" صحيح البخاري (7/164).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب وكراهة رد الريحان والطيب، برقم (2253).
  3. أخرجه أحمد في المسند، برقم (23601)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف، إسماعيل بن عياش -وهو حمصي- صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، وروايته هنا عن يحيى بن سعيد الأنصاري وهو حجازي، وبذلك ضعفه الهيثمي في "مجمع الزوائد""، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7021).
  4. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب من لم يرد الطيب، برقم (5929).
  5. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3561)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولين مسه والتبرك بمسحه، برقم (2330).
  6. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، برقم (4330)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، برقم (1061).
  7. أخرجه ابن ماجه، باب في فضائل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، برقم (94)، وأحمد في المسند، برقم (7446)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (8056)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2718).
  8. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]، برقم (4753)
  9. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر -رضي الله عنهما-، برقم (1389)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب في فضل عائشة -رضي الله عنها-، برقم (2443).
  10. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (4/541).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب ما يكره من الإطناب في المدح، وليقل ما يعلم، برقم (2663)، وبرقم (6060)، كتاب الأدب، باب ما يكره من التمادح، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح، إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح، برقم (3001).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلا كفاه، برقم (2662)، وبرقم (6061)، كتاب الأدب، باب ما يكره من التمادح، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح، إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح، برقم (3000).
  13. أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، برقم (1978).
  14. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح، إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح، برقم (3002).
  15. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، برقم (1897)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة، وأعمال البر، برقم (1027).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أثنى على أخيه بما يعلم، برقم (6062).
  17. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3294)، وبرقم (3683)، كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي -رضي الله عنه-، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل عمر -رضي الله تعالى عنه-، برقم (2396).

مواد ذات صلة