الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا..»، «إذا سمعتم الطاعون بأرض..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب كراهة الخروج من بلد وقع فيها البلاء فرارًا منه، وكراهة القدوم عليه"، باب كراهة الخروج من بلد وقع فيها البلاء، ينبغي أن تحمل الكراهة هنا على كراهة التحريم؛ لأن النبي ﷺ نهى عن ذلك صراحة[1]، والأصل أن النهي للتحريم، الخروج من بلد وقع فيها البلاء، البلاء يعني: الوباء.

ولربما كان المؤلف -رحمه الله- يريد ما هو أوسع من ذلك، يعني: إذا وقع فيها بلاء من طاعون، أو وباء، أو وقع فيها بلاء من نوع آخر يكثر فيه الموت، يخرج منه الناس فرارًا منه، لكن الأحاديث التي ذكر تحته إنما هي في الطاعون، وسيأتي الكلام على المراد منه.

قال: "وكراهة القدوم عليه"، يعني: إذا كان الإنسان خارج هذا البلد فإنه لا يقدم عليه، ومثل هذا إنما يحمل على الوباء.

قال اللَّه تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].

وقال تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].

هاتان آياتان مناسبتان للجملتين في ترجمة هذا الباب، الجملة الأولى: كراهة الخروج من بلد وقع فيها البلاء، يفر من ماذا؟ من قدر الله -تبارك وتعالى-!

فهنا: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وبروج مشيدة يعني: في قلاع حصينة مطلية بالشيد، بالجص، ومحكمة البناء، يدرككم الموت، وأوضح من ذلك أيضًا: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة:8] هناك يدرككم الموت، هنا يلاقيكم.

وكذلك أيضا ما هو نص في هذا الباب أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، فهؤلاء كما في كتب التفسير أنهم خرجوا بسبب الوباء، أو الطاعون فرارًا من الموت، فقال الله لهم: موتوا، ثم أحياهم، وهذا شيء مشاهد.

فالناس يخرجون أحيانا من وباء وقع، أو بلاء، أو حروب طاحنة، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يدركهم الموت بحادث في الطريق، أو بغير ذلك مما وقع لهم بغير الحق.

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ.

والآية التي ذكرها وهي قوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] مناسبة للجملة الثانية، من هذه الترجمة، وهو قوله: "وكراهة القدوم عليه".

لماذا لا يقدم على هذا البلد الذي عم فيه الوباء؟

لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، يعني: أنه يتعرض للبلاء، يتعرض للهلاك، نعم هو ما يصيبه إلى ما كتبه الله له، ولكن ذلك أمر به الشارع، أو نهى عنه الشارع من أجل ما يتصل بالأسباب، وفعل الأسباب.

وفيما يتعلق بهذه الآية: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ إنما يحتج بظاهر اللفظ العام، وإلا فأصل الآية: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

كما فسره بعض أصحاب النبي ﷺ كأبي أيوب الأنصاري وهو أنهم لما أعز الله دينه وأعلا كلمته، فكر الأنصار أن يرجعوا إلى أرضهم، وأموالهم فيصلحوها؛ لأنهم أهملوها بسبب اشتغالهم بالجهاد، ونصرت الدين.

فكثر الداخلون في الإسلام، فأرادوا أن يرجعوا إلى أرضهم فيصلحوها، وإلى أموالهم وأيضًا ينموها، ويثمروها، فنزلت هذه الآية: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ففسرها بأن التهلكة هي ترك الجهاد في سبيل الله والاشتغال بالدنيا وحطامها الزائل.

وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يوضح ذلك، وهو أن جاء في الكلام على أولها وآخرها، وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

ابن عباس يقول: "إذا تركوا النفقة في الجهاد؛ غلب عليهم عدوهم فقهرهم، وأخذ ما بأيديهم من أموال، وقتل النفوس، وأدى بهم ذلك إلى الهلكة"[2].

فترك النفقة في سبيل الله في الجهاد في سبيل الله، من شأنه أن يقوى العدو فيتسلط عليهم، هذه هي الهلكة.

لكن يستدل بعموم الآية، عموم اللفظ على أن الإنسان لا يؤدي بنفسه إلى التهلكة بأي صورة كان، فيمكن يحتج على هذا الذي يدخن، فيقال: يا أخي الله يقول: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

هذا الإنسان الذي يسرع سرعة غير معقولة بالسيارة نقول له: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

هذا الإنسان الذي "يفحط" نقول: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فيكون هذا الاستدلال صحيحًا، لا إشكال فيه بهذا الاعتبار أخذ من ظاهر اللفظ وعمومه.

ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بِسَرْغٍ"، خرج إلى الشام، وذلك إبان الفتح الإسلامي لها، وسرغ: هذه قرية قريبة من تبوك على مشارف الشام.

"لقيه أمراء الأجناد"، أمراء الأجناد، يعني: كان عمر قسم بلاد الشام المفتوحة إلى أقسام:

فدمشق قسم، يعني: جند، وفلسطين جند، والأردن جند، وحمص جند، ونسرين جند، فهذه خمسة، وجعل عليهم هؤلاء القادة من أصحاب النبي ﷺ، كأبي عبيدة عامر بن الجراح، وعمرو بن العاص، وكذلك أيضًا خالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، وأمثال هؤلاء كل واحد جعله أميرًا على ناحية.

فأخبروه -أي: أبو عبيدة وأصحابه- أن الوباء قد وقع بالشام، يعني: هم خرجوا من الشام لاستقبال عمر بسرغ على مشارف الشام، خرجوا لاستقباله فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام.

والمقصود بالوباء هنا: الطاعون.

 قال ابن عباس: "فقال لي عمر: ادع لي المهاجرين الأولين"، الآن عمر يرد أن يستشير، يبدأ بمن بالاستشارة؟ يبدأ بمن هم أولى بذلك، وأحرى من أهل العقل، والدين، والصلاح، والفضل، والخير، والإيمان، والبر، والتقوى، هؤلاء هم الذين يستحقون القرب والاستشارة وأن يرجع إليهم.

ما رجع إلى كل الصحابة، قال: "ادعوا لي المهاجرين الأولين"، المهاجرون الأولون كما قال الله : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].

فالمهاجرون الأولون بعضهم يقول: هم الذين صلوا القبلتين، يعني: قبل تحويل القبلة، والقبلة حولت بعد هجرة النبي ﷺ بسبعة عشر شهرًا، في وقت مبكر.

يعني: إذا غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة في شهر رمضان السنة الثانية، يعني: في شهر رمضان من السنة الثانية، سنة وتسعة أشهر، فهذه سبعة عشر شهرًا، هؤلاء الذين كانوا قبل غزوة بدر.

وبعضهم يقول: إن المهاجرين الأولين هم الذين هاجروا قبل فتح مكة.

يقول: "فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام"، ما اتخذ رأيا يستبد به دونه، هذا مصير مشترك.

"فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه".

خرجت لهدف فأمضي فيما عزمت عليها، لا ترجع، يعني: غلبوا جانب التوكل على الله، وقالوا: أمضي لما خرجت له.

"وقال بعضهم: معك بقية الناس، وأصحاب رَسُول اللَّهِ ﷺ"، بقية الناس، كما قال الله: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].

فيقال: فلان من أولي البقية، فلان من البقية، يعني: أهل العقول الراجحات، والإيمان، والتقوى، والصلاح، هذا هم البقية، فقال له: معك صفوة من الناس، فلا تقدم بهم على هذا الوباء، ارجع بهم.

"ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني"، اختلفوا الآن، ما قال: لا أريد أن أخذ ما يوافق، ما أرغب فيه، لا.

"فقال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين، اختلفوا أيضا، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح".

مهاجرة الفتح، بعضهم يقول: الذين هاجروا قبيل الفتح.

وبعضهم يقول: من أسلم في فتح مكة، كأبي سفيان، وابنه معاوية، وعمرو بن العاص، وصفوان بن أمية، وأمثال هؤلاء من مشيخة الذين يقال لهم: مشيخة قريش.

"يقول: فدعوتهم، فلم يختلف عليه منهم رجلان"، اتفقوا، أجمعوا، قالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فهؤلاء اتفقوا وأولئك اختلفوا، وهذا لا يدل على أن هؤلاء أفضل، ولكن كان هذا رأيهم.

"فنادى عمر - في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه"، يعني: مرتحل، مصبح على ظهر، يعني: يركب، مصبح على ظهر المركب، الذي يسافر عليه، على ظهر البعير.

"إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه"، يعني: من الصباح سنرتحل، بعض العلماء فهم أنه يقصد التوجه إلى الشام، وهذا غير صحيح، وإنما يقصد الرجوع، إني مرتحل في الصباح فتهيئوا، فأصبحوا عليه.

فهنا إذا نظرت إلى المجموعات الثلاث، تجد أن المهاجرين الأولين انقسموا، وأن الأنصار انقسموا، وان الفئة الثالثة، من مشيخة قريش اتفقوا، فإذا جمعت مجموع الذين قالوا: نرجع من المجموعة الأولى والثانية والثالثة بمجموعها تجد أنه أكثر من الذين قالوا: نمضي، فأخذ بهذا الرأي وعزم على الرجوع بعد الاستشارة.

وهذا في فضل الاستشارة، عمر محدث، والنبي ﷺ ذكر أن في الأمم قبلنا محدثين، وقال: إن يكن في أمتي فعمر[3]، إن يكن يعني محدث، يعني: كأنه ملهم، وقال عنه النبي ﷺ: ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا آخر[4].

شافك في طريق، هرب من طريق آخر، لا يستطيع أن يرى عمر ، الشيطان، وفيه وردت الفضائل المعروفة، ومع ذلك يستشير أصحاب النبي ﷺ، ولا يتخذ قرارًا ينفرد به في هذه القضية المصيرية.

 فقال أبو عبيدة بن الجراح ، وهو من كبار هؤلاء وهو أمين هذه الأمة، وهذا يدل على السبب الذي جعل نصف المجموعة الأولى، أو طائفة من الأولين، ومن الأنصار يقولون: نمضي؛ لأنهم غلبوا جانب التوكل على الله، وفهموا كما فهم أبو عبيدة ، وأبو عبيدة من خيار أصحاب الني ﷺ: لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح[5].

فقال له أبو عبيدة : "أفرارًا من قدر اللَّه؟!" فهذا المأخذ عنده يعني: لماذا نرجع؟

المكتوب حاصل، والفرار لن يقدم ولن يؤخر، عرفوا من التربية القرآنية، والتربية النبوية، تربية النبي ﷺ لهم، بأن الموت الذي يفرون منه فإنهم ملاقيهم، نهاية البقرة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243].

"أفرارًا من قدر الله؟!"، يعني: لا يغني الفرار، فقال عمر : "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!" يعني: أنها تستكثر من أبي عبيدة، كيف تقول هذا؟! ألست تعلم، يعني كأنه يقول: أن ذلك من قبيل اتخاذ السبب، وأن ذلك لا ينافي التوكل، والإيمان بالقدر.

وكان عمر يكره خلافه؛ نقول قال: "نعم نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه"، هذا الفهم الصحيح في باب القدر، واتخاذ الأسباب، يعلم أنه حينما يتخذ السبب أن ذلك لن ينجيه من قدر الله ، ولكن كما قال: "نفر من قدر الله إلى قدر الله".

هذا الإنسان حينما يمرض، ويذهب إلى الطبيب ويأخذ الدواء، هو يفر من قدر الله إلى قدر الله، هذا الإنسان الذي يجوع أو يعطش، ثم يشرب لدفع العطش، أو يأكل، يفر من قدر الله الذي هو الجوع والعطش، إلى قدر الله الذي هو الأكل والشرب.

فلا إشكال في هذا، الإنسان إذا جاءه السيل لا بد أن يتخذ الأسباب في التباعد منه، ما يجلس أمام السيل حتى يأتي ويجرفه، ثم يقول: نحن نسلم لقدر الله إطلاقًا، وإذا رأى الحية أبعد عنها، وإذا رأى الحفرة مال عنها، إذا لماذا لا يسقط في الحفرة وعلى الحية؟

نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب له مثلاً يقرب له هذا المعنى، وهذا فائدة عظيمة من فوائد ضرب الأمثال، سواء في القرآن أو في السنة، أو في كلام الصحابة .

قال: "أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت واديًا له عدوتان"، يعني: له ناحيتان، "إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر اللَّه، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر اللَّه؟!".

كذلك هذا الإنسان الذي يذهب ويبحث عن الخصب، من أجل سوم هذه الدواب، ورعيها لهذا النبات، فهو من قدر الله، من الأرض الجدبة، إلى الأرض الخصبة.

في هذه الأثناء، في هذا الحوار جاء عبد الرحمن بن عوف ، كان معهم، وكان متغيبًا في بعض حاجته، ما سمع هذا الحوار ولا الاستشارة، ولا سؤال عمر، ولا علم بمجيء هؤلاء بالخبر، أن الوباء قد وقع، فجاء وعرف من خلال الحوار أن هناك وباء واقع.

"فقال: إن عندي من هذا علمًا"، هذا العلم الذي يعتمد عليه فيوثق به، ويسلم له، "سمعت رَسُول اللَّهِ ﷺ يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه، فحمد اللَّه تعالى عمر وانصرف[6]، رجع يعني.

حمد الله أنه وفق لهذا العلم، وكان قد بنا على اجتهاد سابق، واستشارة، فإذا جاء نهر الله، بطل نهر العقل، جاء العلم الصحيح، والخبر الأكيد، فقوى جانب الرجوع هنا.

فهذا النص الآن: إذا سمعتم به بأرض، الذي هو الوباء، فلا تقدموا عليه إذا كنتم في الخارج، لماذا لا تقدموا عليه؟

من باب فعل السبب، لا يعرض الإنسان نفسه للتلف.

وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه بهذا القيد، فرارا منه، إذا لا نخرج فرارًا، كما قال الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] فالفرار لن ينجي من القدر، هذا الذي يقوله أهل العلم في هذا المقام.

وبعض المعاصرين يقول: لا هذا في الأدواء من أجل ألا يخرجوا فينتشر الوباء في أماكن أخرى، فهذا حجر صحي، فيكون الوباء محصورًا في مكان معين.

فالداخل لا يخرج، والخارج لا يدخل، هذا من جهة النظر صحيح، لكنه هل هو المراد بالحديث؟

ظاهر هذا الحديث لا، لأنه قال: فلا تخرجوا فرارًا منه مفهوم المخالفة أنه إن خرجوا ليس بفرار، خرجوا لحاجة، لتجارة، خرجوا لطلب علم، خرجوا لعمرة، خرجوا لحج، أن هذا لا إشكال فيه، وهذا ظاهر الحديث، وهكذا الذي فهمه أهل العلم.

لكن الحديث الذي بعده، وهو حديث أسامة بن زيد ، عن النبي ﷺ قال: إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها[7]، متفق عليه.

هنا ما قال: فلا تخرجوا منها فرارًا، لا تخرجوا مطلقًا، فلوا بقينا مع هذا الحديث فقط، فهنا يكون محل الاجتهاد، لماذا لا نخرج؟

ربما يكون من أجل الحجر الصحي، لكن الأصل أن المطلق يحمل على المقيد، والعام على الخاص.

هنا قال: فلا تخرجوا فرارًا منه، هنا قيد بالفرار، والثاني: فلا تخرجوا منها بإطلاق، لا فرارًا ولا غير فرار، لأي غرض من الأغراض، فإذا حملنا المطلق هذا، فلا تخرجوا منها، على المقيد، فلا تخرجوا فرارًا منه.

فنقول إذا: إن كان الخروج لغير الفرار فلا بأس به، خرج حاج، خرج معتمر، خرج في تجارة، خرج لصلة الرحم هذا لا إشكال فيه، لكن لا يخرج فرارًا، إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها.

هذا الطاعون بعض العلماء يقول: هو كل وباء عام، أو على الأقل يدخل في حكمه الأوبئة العامة، يعني: التي يحصل بها موت كثير، تحت أي مسمى كان مثل: الكوليرا، كانت تنتشر ويموت خلق كثير، وعندنا في نجد حصلت أمراض مات فيها خلق كثير قبل نحو سبعين سنة، أو أكثر.

يسمونه سنة الرحمة، أو نحو ذلك، يموت، وحصلت هذه الطواعين، في بلاد الشام، وفي العراق، وفي العراق يذكر ابن كثير في بعض السنوات حوادثها أن الباب يغلق على أهله، ما في ناس يدفنوه، يغلقون الأبواب.

يقول: "فلا ترى إلا أسواقا فارغة، وطرقًا لا يمر بها إلا الواحد بعد الواحد، وأنتن الهواء من الجيف"[8]، الناس في بيوتهم ما في أحد يدفن موتى، فهذه الطواعين، حتى الطواعين التي وقعت في أوربا واجتاحتها في القرن الماضي، سنة: 1347هـ، وسنة: 1352هـ، تقريبًا.

هذه الطواعين وقعت في أوربا كان يموت أربعة من كل خمسة يصابون، إذا بدأ فيه المرض خلال خمسة إلى ستة، إلى سبعة أيام يموت، وهذه الطواعين أنواع، بعضهم يقول: هذه نوع تنقله القوارض الفئران ذات اللون الأسود، أو عن طريق البراغيث يصاب الإنسان بهذا الداء.

وهذا الداء يتنوع له صور، وأشكال، يعني: منها ما يكون -نسأل الله العافية- عبر الغدد اللمفاوية، العقد اللمفاوية، وقد جاء في حديث من هذه الأحاديث عن النبي ﷺ أنه يكون غدة في الآباط والمراق، كغدة البعير[9]، يعني: العقد اللمفاوية هذه تنتفخ بقوة، وتكون مؤلمة جدًا في المراق.

فالمراق مثل هذه الأماكن أعلا الفخذ، والإبطين، ونحو ذلك في هذه الأماكن، يخرج فيها مثل هذا، فهذا في العقد اللمفاوية لمواضع المناعة، حواجز المناعة.

وهناك أشياء تكون -نسأل الله العافية-، يعني: في الدم، بحيث أنه يظهر على الجلد بقع داكنة، هذه البقع هي عبارة مثل الانفجارات، داخل الجلد، تحت الجلد يعني، فتتحول إلى بقع أشبه بالنمش، أو نحو ذلك.

هي عبارة عن دم منفجر تحت الجلد، وقد يتطور الأمر ويزداد فيحصل نزيف لهذا الإنسان، وهناك صور أخرى، يعني: يكون صداع شديد، حرارة مرتفعة، غثيان، يحصل آلام في الأطراف، ثم بعد ذلك ينهار هذا الإنسان، ويموت خلال سبعة أيام.

هذا بالنسبة للطاعون، يعني: الأوبئة العامة هذه داخلة في الحكم أيًا كان اسمها، لكن هل يقال مثلاً، طبعًا النبي ﷺ، أخبر أن هذا الطاعون شهادة، وأخبر عن سببه، يعني الأطباء يقولون: إن من أسبابه مثلا هذه القوارض، وهم غير متأكدين في سبب الطاعون أيضا تمامًا بأنواعه كلها.

يعني: يذكرون تخمينات وأشياء، وتعليلات ربما تكون هي، لكن ما هو السبب الحقيقي، النبي ﷺ أخبر أنه من وخز أعداءنا الجن[10]، وأخبر أنه كان يبعث عذابًا على الأمم، وأنه إلى هذه الأمة شهادة.

إذا هذا له سبب غير مدرك بالنسبة إلى الأطباء، وهو وخز الجن، وهذه الأمور غير المدركة قد تقع، يقع بها مثل هذا، تقع فيها أشياء أخرى، قد يسقط الجنين أحيانا لهذا السبب في بطن أمه، وخز هؤلاء الجن.

نخس الشياطين هؤلاء، كذلك أيضًا له ملابسات أخرى، هل السرطان من الطاعون مثلا؟ الجواب لا؛ لأنه ليس بوباء، وإن كانت أسبابه أيضًا علميًّا غير مدركة تمامًا، يعني: ما هو السبب الحقيقي، لكن هناك أشياء تؤثر، يقولونها في المطعومات، والإشعاعات، والتلوث، أمور من هذا القبيل ربما.

لكن لا يبعد أيضًا أن يكون هناك أسباب أخرى مثل: العين، فإنه قد تؤدي إلى السرطان، مثل: الجن، والشياطين، والسحر، وما أشبه ذلك، قد تؤدي، ولذلك بعضهم قد يمرض بهذا المرض ويرقى ويتكلم فيه شيطان، ويخبر أنه إنما وقع له ذلك بسبب عمل سحر وقع له، وأنه لا يستطيع أن يخرج منه إلى آخره.

ويخبر أن هذا الذي وقع هذا الورم هو بسبب كذا، فأحيانًا قد يكون بسبب سحر، قد يكون بسبب العين، قد يكون بسبب الجن، قد يكون بسبب أمور أخرى مدركة طبيًّا، والله تعالى أعلم.

كل هذا يقع، ولا تعارض، ولا منافاة، والعلم عند الله -تبارك وتعالى-، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. يأتي تخريجه في موضعه.
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/314).
  3. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي -رضي الله عنه-، برقم (3689).
  4. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3294)، وبرقم (3683)، كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي -رضي الله عنه-، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب من فضائل عمر -رضي الله تعالى عنه-، برقم (2396).
  5. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، برقم (4380)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-، برقم (2419).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، برقم (5729)، ومسلم، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، برقم (2219).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، برقم (5728)، ومسلم، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، برقم (2218).
  8. البداية والنهاية ط الفكر (12/71).
  9. أخرجه أحمد في المسند، برقم (13195)، وقالم محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3948).
  10. أخرجه أحمد في المسند، برقم (19528)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (7226)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (6/70)، برقم (1637).

مواد ذات صلة