الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث "نهى النبي أن يتزعفر الرجل.." إلى "دخل أبو بكر الصديق على امرأة من أحمس"
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب تحريم لبس الرجل ثوبًا مزعفرًا"، الثوب المزعفر هو المصبوغ بالزعفران، وهو النبت المعروف.

وهنا لم يذكر المعصفر، وقد أورد تحت هذا الباب حديثين، في الحديث الثاني جاء النهي عن المعصفر، فلو قيل في ترجمة الباب: "باب تحريم لبس الرجل ثوبًا مزعفرًا، أو معصفرًا"، والثوب المعصفر: هو المصبوغ بالنبت المعروف، وهو العصفر.

وهذا النبت لونه أصفر، يعرفه الناس اليوم، وليس هذا النبت من الطيب بخلاف الزعفران، والمقصود أن ذلك منهي عنه، وسيأتي بيان العلة في ذلك.

وألحق بعض أهل العلم فيه ما كان مصبوغًا ولو بغير الزعفران والعصفر، يعني: ما كان بهذه المثابة، بهذا اللون، وتكلموا على لبس الحمرة، يعني: الأحمر، المصبوغ بالدم، ونحو ذلك مما كانوا يفعلونه قديمًا.

أورد حيث أنس قال: "نهى النبي ﷺ أن يتزعفر الرجل"[1]. متفق عليه.

أن يتزعفر هذا يشمل التزعفر في البدن، ويشمل أيضًا التزعفر في اللباس، يصبغ ثيابه بالزعفران، وذلك -والله أعلم- أن هذا الفعل، وهذا الزي ليس للرجال، وإنما هو للنساء، فيكون الرجل بذلك قد أظهر زي النساء، فذلك لا يليق بالرجال وأهل المروءة، والشريعة جاءت لتحفظ على الناس كرامتهم ومروءتهم، والمروءة هي كمال الإنسانية.

وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: رأى النبي ﷺ عليّ ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟!، قلتُ: أغسلهما؟ قال: بل احرقهما[2].

وفي رواية قال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها[3]، رواه مسلم.

رأى على عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- ثوبين معصفرين، يعني: مصبوغين بهذا النبت المشار إليه، فقال: أمك أمرتك بهذا؟! يعني: أن هذا من شأن النساء، ومن زي النساء، ينكر عليه النبي ﷺ، يعني: كأن هذا من تدبير امرأة، أمك أمرتك بهذا؟!، قلتُ: -لما فهم الإنكار- أغسلهما؟ قال: بل احرقهما.

احرقهما، هذا الذي حمل النووي -رحمه الله- إلى القول: بأن ذلك للتحريم، وهو في العادة في مثل هذه القضايا يقول: كراهة كذا، كراهة كذا، لأمر ذكرته من قبل في مسألة النهي، ومدلوله.

فهنا قال: احرقهما فدل على التحريم، مع أنه يجوز أن يلبس هذا من قبل النساء، والشريعة جاءت بمنع تضييع الأموال، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن قوله ﷺ: بل احرقهما، هو على ظاهره، الإحراق بالنار، من أجل التعزير، التعزير تغليظًا في الردع، والزجر، أمره بذلك.

وبعضهم يقول: إن قوله: بل احرقهما، ليس المقصود الإحراق الحقيقي، وإنما المقصود، يعني: المبالغة في منعه من لبس ذلك، يعني أنه يتباعد عنه تمام المباعدة، قال: بل احرقهما، يعني: أبعده عنك، كما تقول لإنسان مثلا، يقول: أي ماذا أصنع بهذا الشيء، تقول: احرقه، المهم ألا تلبس هذا، ابتعد عنه.

وهنا العلة منصوصة: إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسها، فدل ذلك على أنه من قبيل التشبه بالكفار، بالنسبة للنساء يجوز لهن أن يلبسن ذلك المعصفر، وأيضًا المزعفر، قد نقل عليه الحافظ ابن عبد البر[4] الإجماع، أن ذلك جائز للنساء.

أما بالنسبة للرجال فقد اختلفوا فيه، فهذا المعصفر، الشافعي[5] -رحمه الله- لم يحمل ذلك على التحريم، بخلاف الإمام مالك[6]، وأحمد[7]، وقد قالوا: بالتحريم، وهذا الذي عليه كثير من الصحابة ، كعمر، وعثمان، وجماعة من السلف -رضي الله عنهم وأرضاهم-.

وآخرون يقولون: بأن ذلك ليس للتحريم، وإنما حملوه على كراهة التنزيه، وكأن ابن جرير[8] -رحمه الله- يميل إلى هذا، حاولوا أن يجمعوا بين النصوص، فقالوا: ما ورد من النهي يوجد له ما يصرفه فيحمل ذلك على الكراهة.

وممن نقل عنه بأن ذلك ليس بمحرم على الرجال أنس بن مالك[9] ، ومنقول عن ابن عمر[10] معنى الحديث فيه إن صح النقل عنه.

كذلك أيضًا هو منقول عن جماعة من التابعيين كابن سيرين[11]، وغيره، ومذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- في منصوصه.

ثم ذكر النهي عن صمت يوم إلى الليل، صمت يوم إلى الليل، هو لماذا يصمت؟ يعني: أن يصمت قصدًا من أجل التعبد لله بذلك، يعني: لو صمت من أجل أنه ليس عنده أحد يتحدث معه، أو لأنه مريض، أو لأنه كئيب، أو نحو هذا فليس عليه حرج.

والنبي ﷺ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت[12]، ولكن هنا الصمت كان يتعبد به في الجاهلية في النسك، يعني: إذا كان الواحد منهم في النسك يتعبد لله بالصمت.

وفي شرائع من قبلنا كما هو معلوم: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم:26] فهذا كان تعبد به، وهذا نذر، والأصل النذر فيما يتقرب به إلى الله .

وشرع من قبلنا إذا وجد في شرعنا ما يخالفه فإنه لا يكون شرعًا لنا قطعًا، على كلا القولين في المسألة.

فهنا: النهي عن صمت يوم إلى الليل، يعني: تعبدًا وتقربًا إلى الله يظن أن هذا عبادة، سواء في النسك أو في غير النسك.

عن عليّ قال: حفظت عن رَسُول اللَّهِ ﷺ: لا يُتْمَ بعد احتلام،...، وقد مضى الكلام على هذا، وأن اليتم يرتفع بعد الاحتلام سواء في حق البنت، أو الابن، وإذا لم يحصل الاحتلام، فإذا بلغ، أتم خمس عشرة سنة فإنه يكون قد جاوز اليتم، قال: ولا صُمَاتَ يوم إلى الليل[13]، رواه أبو داود بإسناد حسن.

صمات: هذا مصدر، يعني: صمت.

يقول الخطابي في تفسير هذا الحديث: "وكان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات"[14]، يعني: من متعبدهم في نسكهم الصمت، "فنهو في الإسلام عن ذلك، وأمروا بالذكر، والحديث بالخير".

وعن قيس بن أبي حازم قال: "دخل أبو بكر الصديق على امرأة من أحمس يقال لها: زينب فرآها لا تتكلم. فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حَجَّتْ مُصْمِتَة، على طريقة الجاهلية، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية! فتكلمت"[15]. رواه البخاري.

هذا يبين أن هذا العمل على وجه التعبد، سواء كان في النسك أنه من عمل الجاهلية، أو كان في غيره، أن يتقرب إلى الله بالصمت مطلقًا، فهذا كان في الأولين، في بعض الشرائع السابقة، ولكنه في هذه الشريعة لا يحل، ونهينا عن التشبه بهم، والله تعالى أعلم.

  1. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب النهي عن التزعفر للرجال، برقم (5846)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزعفر للرجال، برقم (2101).
  2. أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، برقم (2077).
  3. أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، برقم (2077).
  4. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (16/123).
  5. انظر: الأم للشافعي (2/161)، والمجموع شرح المهذب (4/450).
  6. انظر: الاستذكار (1/434)، و(8/302)، والتهذيب في اختصار المدونة (1/496)، والبيان والتحصيل (17/75)، ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل (3/148).
  7. المغني لابن قدامة (8/157)، وكشاف القناع عن متن الإقناع (1/284).
  8. انظر: الأم للشافعي (2/161).
  9. انظر: البيان والتحصيل (17/75)، وكشاف القناع عن متن الإقناع (1/284).
  10. انظر: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 152)، والفروع وتصحيح الفروع (2/77)، والبيان والتحصيل (17/75).
  11. انظر: البيان والتحصيل (17/75)، والاستذكار (8/300).
  12. أخرجه البخاري بأرقام متعددة، منها في كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، برقم (6018)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان، برقم (47).
  13. أخرجه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم، برقم (2873)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7609).
  14. معالم السنن (4/87).
  15. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، برقم (3834).

مواد ذات صلة