الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
من أخبار السلف في باب الحث على التثبت
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء عن السلف فيما يتصل بالتثبت فيما يقوله ويحكيه أو يسمعه ما جاء عن ابن سيرين أنه كان يحدثه الرجل فلا يقبل عليه، ويقول: "ما أتهمك ولا الذي يحدثك، ولكن من بينكما أتهمه"[1]، يعني يتهم راو يتهم أحد الرواة الذين لا يعرفهم.

وجاء عن ابن عباس : "كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة"[2]، يعني قتل عثمان ووقع بين الناس الاختلاف المذموم، وبدأت رؤوس الأهواء والفرق تظهر عند ذلك صاروا يسألون عن الإسناد، وعن الرواة، ولا يقبلون إلا ممن عرفوا عنه التحري والتثبت، والصدق، والسلامة من القوادح في الرواية.

وقال ابن سيرين: "لقد أتى على الناس زمان وما يسأل عن إسناد الحديث، فلما وقعت الفتنة سئل عن إسناد الحديث فينظر ممن كان من أهل البدع ترك حديثه"[3].

والمقصود بأهل البدع إما أولئك الذين يستحلون الكذب أو بنوا دينهم على الكذب كالرافضة فإن حديثهم لا يقبل، أو كان داعية إلى البدعة، وإلا فإن الرواة كما هو معلوم وأصحاب الكتب المصنفة في الصحاح وغيرها رووا عن بعض من رمي ببدعة كالإرجاء، أو رووا عن بعض الخوارج، إلى غير ذلك ممن اتهم بالقدر، ونحو هذا ما لم يكن داعية إلى بدعته، أو يستحل الكذب.

وجاء عن الأعمش قال: "ما رأيت أحدًا أرد لحديث لم يسمعه من إبراهيم النخعي"[4]، يعني صار بحال بحيث لا يقبل إلا ما يعرف.

وقيل لسفيان الثوري: "يا أبا عبد الله إن الناس قد أكثروا في المهدي، فما تقول فيه؟ قال: إن مر على بابك فلا تكن فيه في شيء حتى يجتمع الناس عليه"[5]، وهذا أمر في غاية الأهمية أكثر الناس في المهدي ودعوى المهدية كانت قديمة، وقد تلقب بذلك بعض الخلفاء، وادعاه بعض أصحاب البدع، وغير هؤلاء أيضًا عبر التاريخ، ولا سيما في الأوقات التي يشعر الناس فيها بالشدة والضيق، والغربة، غربة الدين، وكثرة المنكرات والشر والفساد وما إلى ذلك، فهنا يكثر مثل هذه الدعوى، تكثر في تلك الأزمان، وقد يتلاعب بهم الشياطين، فلربما رأى الواحد منهم أو رؤي في الواحد من هؤلاء المدعين لربما رؤي فيه الرؤى الكثيرة، لربما بلغت مائة رؤيا من أناس لا يعرفونه فإذا رأوه قالوا: أنت الذي رأيناه في المنام أنك المهدي فلا يزال به ذلك حتى يقبل ويصدق، وقد لا يكون دعيا عند نفسه، وإنما صدق لكثرة تواطؤ هذه الرؤى فيلبس عليهم الشيطان، ثم بعد ذلك يوقعهم في أمر لا يمكنهم الخروج منه، فهذا أمر في غاية الخطورة.

واليوم لا زال هذه الأوهام ترد على كثير من الناس، ويزعم بعضهم أن المهدي موجود، أو أن المهدي حي، أو أن المهدي هو فلا بل ربما قيل إن المهدي في صلب فلان من الناس، وحصل هذا في صلب رجل يعني أنه لم يولد في صلب هذا الذي يمشي، وهذا من أبطل الباطل، ولكن المهدي كما جاء عن النبي ﷺ: يصلحه الله في ليلة[6]، فكيف يعرف مثل هذا؟! يقال: هذا هو المهدي قبل ذلك!.

وهذا الذي ذكره سفيان الثوري -رحمه الله- إمام من أئمة الهدى من أئمة العلم يقتدى بمثله "فإن مر على بابك فلا تكن فيه في شيء يعني لا تقبل ذلك ولا تصدق فضلا عن أن تتابع حتى يجتمع الناس عليه"، إذا رأيت الناس تجتمع عليه، وبويع بين الركن والمقام، وانقاد الناس له وأذعنوا فعلاً اجتمعوا عليه لا أن يبايعه حفنة من الناس من أصحابه لا أن يجتمع الناس عليه فعند ذلك يمكن، أما أن يغرر الإنسان بنفسه ويصدق كل دعي فهذا لا يكون المؤمن كذلك.

وهذا المخزومي نهض مع محمد بن عبد الله بن حسن وظنه المهدي، قال الذهبي: "ثم إنه ندم فيما بعد وقال: لا غرني أحد بعده"[7]، لكن هذا بقي على قيد الحياة لكن هناك أناس قتلوا وهم يظنون أنه هذا هو المهدي.

ويقول ابن معين: "ما أعلم أحدا قدم علينا من أهل خراسان كان أفضل من ابن شقيق، وكانوا كتبوا في أمره كتابا أنه يرى الإرجاء، فقلنا له: فقال: لا أجعلكم في حل"[8]، يعني كأنه يقول: لماذا لم تتحروا في ذلك، أو لماذا لم تعلموا بذلك؟

هذا الباب كما سبق في التعليق على الأحاديث الواردة فيه يدعو إلى التحري والتثبت فيما يقوله الإنسان ويصدقه ويقبله، أو فيما يكتبه، وينشره سواء كان ذلك في كلام يقوله للناس في المجالس، لا تتكلم إلا بشيء تستطيع أن تثبته، وضع نفسك أمام القضاء بطرق الإثبات المعروفة، هل تستطيع أن تثبت هذا الكلام بهذه التفاصيل التي يتلقفها الناس عبر بعض الوسائل؟

فإذا كان الإنسان لا يستطيع فلماذا يطلق لسانه، هذا خلاف مقتضى العقل، ثم إن كنت تستطيع أن تثبت هذا هل من المصلحة أن يقال ذلك أو لا؟

ثم إن كان من المصلحة هل كان لك فيه نية صحيحة أو لا؟!

ثم إن كان لك فيه نية صحيحة فهذا مدخل فهل تعرف طريق الخروج منه؟!

يعني من الناس من قد يؤذى على هذا ثم لا يعرف الخروج لا يعرف كيف المخرج فينكسر، والله لم يتعبده بهذا، فكثير من الناس يطلق لسانه دون أن يُعمل عقله، ودون أن يقيده بضوابط الشرع، وهذا نقص في العقل والإدراك وليس من حسن النظر في شيء، ولا من التدبير، والإنسان يتذكر دائما قول الله : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].

 وهكذا في الرسائل التي ينشرها الإنسان، ثم يستبين له أنه حديث ضعيف، حديث مكذوب، أن هذا من الأشياء المأخوذة عن بعض أهل البدع، وإذا أرسلت إلى هؤلاء أحيانًا رسالة تقول: هذا باطل لا يجوز نشره، قال: أنا أرسلت إلى كثيرين، وهم نشروا إلى كثيرين، فأنا ماذا أفعل، أنا عندي مجموعة، أرسلت ذلك لهم، نقول: أرسل للجميع، وليرسلوا للجميع، إلخ، أن هذا باطل، وأن هذا كذب، ولا يجوز أن تتحرى.

وبعض الناس قد يسأل ولا يجد من يجيبه هل هذا حق أم باطل ثم بعد ذلك ينشر؛ لأنه قد تكون الرسالة التي جاءته مذيلة انشر تؤجر، انشر على أكبر قدر، ولا تحبسها في صندوق الوارد، هذا غير صحيح سواء كان ذلك فيما يتصل بالدين فيكون الإنسان كاذبًا على الله ، أو كان مما يتعلق بأمور أخرى حتى الأشياء الطبية أحيانًا، أو الأمور التي قد تكون غير صحيحة، يعني دواء غير صحيح معلومة غير صحيحة، أحيانًا قضايا تجارية، أحيانًا عن سلع عن مواد استهلاكية عن أشياء يقولون: هذه تضر، أو هذه تفيد في كذا، أو هذه علاج لكذا، أو نحو ذلك، ولكنه غير صحيح، فيكون ذلك كذبًا على القدر أحيانًا، ويكون ذلك أيضًا لربما مضرة على النفوس والأبدان، وقد يكون ذلك مضرة في المجتمعات، وقد يكون هذا مضرة على بعض الناس في أرزاقهم وأموالهم وتجاراتهم، إلى غير هذا من الأشياء.

فاللائق بالمؤمن أن يتحرى، وأن يتثبت، لا يتكلم إلا فيما يتحقق منه، وما لا يتحقق منه يمسك، والله أعلم.

وصلى الله على محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/611).
  2. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/279).
  3. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/279)، وسير أعلام النبلاء (4/613).
  4. سير أعلام النبلاء (4/528).
  5. انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/31)، وسير أعلام النبلاء (7/253).
  6. أخرجه ابن ماجه، أبواب الفتن، باب خروج المهدي، برقم (4085)، وأحمد في المسند، برقم (645)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6735).
  7. سير أعلام النبلاء (7/329).
  8. سير أعلام النبلاء (10/350).

مواد ذات صلة