الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث " إنا ندخل على سلاطيننا.."، «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب تحريم الرياء أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن ناسًا قالوا له: إنا ندخل على سلاطيننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول الله ﷺ[1] رواه البخاري.

قولهم: إنا ندخل على سلاطيننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، يعني إذا دخلنا قلنا قولاً يرضيهم ويعجبهم من الثناء والإطراء والمديح، وما إلى ذلك، وإذا خرجوا تكلموا بغير هذا من الذم والعيب، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول الله ﷺ يعني أن هذا من النفاق العملي، وهو داخل في الباب الذي مضى الكلام عليه في ذي الوجهين، فذو الوجهين هو الذي يلقى هؤلاء بوجه، ويلقى هؤلاء بوجه.

ثم ذكر حديث جندب بن عبدالله بن سفيان قال: قال النبي ﷺ: من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به[2] متفق عليه، ورواه مسلم أيضًا من رواية ابن عباس -رضي الله عنهما-.

قوله ﷺ: من سمع سمع الله به التسميع من السمع، ولهذا فإن السمعة التي هي قرينة الرياء تتصل بحاسة السمع، بمعنى أنه عمل ولم يراه الناس، ولا اطلعوا عليه، فيتحدث عنه، أو يكتب، أو يوصل إليهم خبره بأي طريق كان، يقول: عملت كذا، وعملت كذا، فهم ما شاهدوه، وما رأوه، فليس من الرياء، ولكنه يتعلق بحاسة السمع، يسمعهم من أجل يمدحوه، أن يثنوا عليه، وما شابه ذلك.

من سمع سمع الله به سمع الله به ما معناه، هنا النووي -رحمه الله- فسره بقوله: أظهر عمله للناس رياء[3] فالله يسمع به أي يفضحه يوم القيامة، سمع أي أظهر عمله، سمع الله به يعني فضحه يوم القيامة، وبعض أهل العلم يقولون: سمع الله به بمعنى أن الله يحقق له مقصوده، فيبلغ ذلك الناس، ويتسامعون به، فيكون هذا هو حظه من هذا العمل، ليس له جزاء، ولا نصيب عند الله -تبارك وتعالى- وإنما لكل امرئ ما نوى، وهذا الذي ذكره النووي -رحمه الله- أولى، وأقرب، وأرجح، وفيه من الردع ما هو أبلغ من القول الآخر، يعني من الناس من يتمنى أن يصل ذلك إلى الأسماع، وهو يريد هذا أصلا، ولا يريد ما عند الله فيكون ذلك لربما حافزًا له على مزيد من التسميع، أما أن يكون ذلك بمعنى الفضيحة يوم القيامة فهذا أبلغ.

وهكذا في قوله: ومن يرائي يرائي الله به يقول النووي: أي من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم راءى الله به أي أظهر سريرته على رؤوس الخلائق[4]، ومن أهل العلم من يقول: راءى الله به يعني أن الله يفضحه، ويهتك ستره يوم القيامة، وهذا المعنى الأول الذي ذكره النووي أقرب -والله أعلم- أظهر سريرته عل رؤوس الخلائق، فيفضحه بذلك، والناس يعرفون هذا، ويطلعون عليه، وإن لم يطلعوا على ما في داخل قلبه، ولكن الناس يدركون، يعرفون يفرقون بين الصادق والكاذب، والمخلص من غيره.

فهذا الإنسان الذي يرائي، ويحاول أن يطلع الناس على العمل، ويسمع بأعماله من أجل أن يذكروه، ويمدحوه هو لا يزداد من الله إلا بعدًا، ولا يزداد في قلوب الخلق إلا بغضًا، وهذه سنة الله في هذا الخلق، فالقلوب لا يمكن أن تقبله، ولا أن تقبل عليه، بل تشنأه، وترفضه، وتنفر منه غاية النفور.

ومن أهل العلم من يفسر ذلك بالعقوبة التي تحصل له، فيفتضح، ويكون ذلك ظاهرًا للناس، وعلى كل حال ما ذكره النووي -رحمه الله- قريب، أي أن الله يظهر سريرته على رؤوس الخلائق، فالناس يعرفون مهما بذل، ومهما أنفق، ومهما عمل فإن الناس يعرفون أن ذلك ليس كما ينبغي، أنه ليس لله -تبارك وتعالى-.

وقد ذكرت في بعض المناسبات قول ابن الجوزي -رحمه الله- الإخلاص مسك مصون في مسك القلب ينبئ ريحه على حامله، العمل صورة، والإخلاص روحه، إذا لم تخلص، فلا تتعب، لو قطعت سائر المنازل -يعني في الحج- لم تكن حاجًا إلا ببلوغ الموقف -يعني الحج عرفة- وكذلك الأعمال، الإخلاص هو ركنها الأساس[5].

ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة[6] يعني ريحها، رواه أبو داود بإسناد صحيح، والأحاديث في الباب كثيرة مشهورة.

من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله العلوم الشرعية، علم القرآن، علم السنة، التوحيد الفقه، وما شابه ذلك من العلوم الشريفة الشرعية، فهذه لا يصلح أن يراد بها سوى وجه الله -تبارك وتعالى- فإن أراد بها أمرًا مباحًا، فينبغي أن يكون ذلك على سبيل التبع، لا بالقصد الأول، بمعنى أن هذا الإنسان يريد أن يتخرج، فيكون له شهادة يعمل بها لينفع الأمة، لينفع الناس، من أجل أن يبلغ دين الله من أجل أن يعلم في الجامعات، في المدارس، وما أشبه هذا، فيكون ذلك بهذه النية، فهذه نية صالحة.

كذلك أيضًا هذا الشيء الذي يطلبه لربما أن يكون له ما يكفيه من حاجته في الدنيا؛ لئلا يحتاج، ويضطر إلى الناس، فيكون ذلك على سبيل التبع، يعني يريد ما عند الله وهناك أمور تحصل تبعًا بهذه الدراسة التي يدرسها مثلاً في كلية الشريعة، ونحو هذا، فإنه يتخرج، ويعطى هذه الشهادة، ثم يذهب، ويعمل، لكن أن يدرس من أجل أن يحصل هذه الشهادة ليقتات، ليصيب به عرضًا من الدنيا، فهذا الذي فيه الوعيد لم يجد عرف الجنة يوم القيامة، يعني ريح الجنة، وريح الجنة كما جاء في بعض الأحاديث أنه يوجد من مسيرة مائة عام[7] تصور مسيرة مائة سنة توجد ريحها، فمعنى هذا أن هذا الإنسان يكون أبعد ما يكون عن دخول الجنة حتى يمحص، وينقى، ويطهر.

فالأمر ليس بالسهل، مع أن القضية سهلة من حيث النظر الذي يكون لهذه القضية، بمعنى أن الإنسان هذا يجلس في مقعد، وهذا بجواره، هو نفس العمل، لكن هذا يريد ما عند الله، وهذا يريد عرضًا من الدنيا، هذا يهبط، وهذا يرتفع، فما عليه إلا أن يصحح نيته، وهذا يرفعه، ولا يضره، وينفعه، ولكنها النفس تأبى على صاحبها أحيانًا إلا أن تجذبه إلى الأرض، ويترك ما فيه نفعه وصلاحه، ورفعته الحقيقية، فهي النية، وإذا كانت هذه النية صالحة انتفع بالعلم، واستنار قلبه، وصار اشتغاله بهذا العلم على الوجه الصحيح غالبًا، ويبارك له في ذلك، والله المستعان.

أما العلوم الأخرى، العلوم الدنيوية البحتة، هذا إنسان متخصص في الجغرافيا، أو في الرياضيات، أو في الهندسة، أو في الزراعة، أو نحو ذلك ليصيب عرضًا من الدنيا، فهذا لا إشكال فيه، فإن أراد أن يرتقي فإنه يقصد بهذه العلوم نفع المسلمين، وإغناء المسلمين عن أعدائهم، وما أشبه ذلك، فهذا يؤجر على هذا، ويكون قصده شريفًا، لكن لا حرج عليه إذا أراد الدنيا فقط.

ومن الناس -كما سبق في بعض المناسبات- من يكون نظره أعوج، ينظر لهذه القضايا بنظر سلبي، يقول: ما دام القضية بهذا الشكل أنا لماذا أدرس العلوم الشرعية؟ فالعافية والسلامة لا يعدلها شيء، فيعرض عما ينفعه، ولا يتعلم العلم الشرعي، وهذه أيضًا حفرة أخرى، وإنما الصحيح هو أن يقبل على العلم الشرعي، وأن يتعلم، وأن ينتفع، ثم هو يصحح نيته كذلك، هذا هو المطلوب، وهذا هو الطريق الصحيح -والله تعالى أعلم- وإلا لترك الإنسان كثيرًا من الأعمال الصالحة، فقد يترك الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ لئلا يرائي بزعمه، وقد يترك كثيرًا من الأعمال لربما لا يكرر الحج، والعمرة يقول: حتى لا أرائي، ما لي وما للرياء؛ حج واعتمر وأصلح نيتك، صل مع الجماعة وأصلح نيتك.

وهكذا في كثير من الدعوة إلى الله والأعمال، النفع المتعدي، وما أشبه ذلك، يتركها ويقول: السلامة لا يعدلها شيء، ويبقى دائمًا في الحضيض، فيكون محرومًا، والله أعلم.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب ما يكره من ثناء السلطان، وإذا خرج قال غير ذلك، برقم (7178).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة، برقم (6499)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم (2986).
  3. انظر: رياض الصالحين، للنووي (458).
  4. انظر: رياض الصالحين، للنووي (458).
  5. انظر: اللطائف، لابن الجوزي (10).
  6. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى، برقم (3664)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (227).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب إثم من قتل ذميا بغير جرم، برقم (6914).

مواد ذات صلة