الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث «الميت يعذب في قبره..» إلى " أغمي على عبد الله بن رواحة.."
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

"باب تحريم النياحة على الميت، ولطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعر وحلقه، والدعاء بالويل والثبور"، النياحة على الميت النياحة تكون بالقول والفعل، وذكر الميت هنا إنما هو للإيضاح وإلا فإن النياحة لا تكون إلا على الميت أصلاً، فلو قيل: باب تحريم النياحة لحصل المقصود، فالنياحة لا تكون على غير الميت، لكنه من باب زيادة الإيضاح كما يقال: كتب بيده، وقال بلسانه، صفة كاشفة.

وهذه النياحة تكون بالقول والفعل، بالقول كرفع الصوت بالبكاء، رفع الصوت، وليس بدمع العين، وكذلك أيضًا تكون بما يقوله الإنسان كأن تقول المرأة: واجبلاه، أو تقول عن هذا الميت: ميتم الأطفال، ومرمل النساء، وما إلى ذلك، يعني يصفونه بالشجاعة، فهذا كله من النياحة، وذكر مآثر الميت عند بكائه، ونحو ذلك، مثل هذه العبارات هذا داخل في النياحة.

وتكون بالفعل كشق الجيب، والجيب هو الموضع الذي يكون فيه دخول الرأس من الثوب، ويكون بلطم الخدود وبخمشها، ويكون بنتف الشعر أو بحلقه، ويكون بغير ذلك من الأفعال التي تنبئ عن التسخط على قدر الله -تبارك وتعالى-، فهذا كله لا يجوز، وهو من الكبائر، نتف الشعر، حلق الشعر، الدعاء بالويل والثبور، يا ويلي، تصيح بأعلى صوتها: يا ويلي، وا ثبوراه؛ يدعو على نفسه أو تدعو على نفسها بالثبور، فهذا كله لا يجوز، وهو مما يضاعف على الإنسان الألم والمصيبة، ويضاعف ذلك على من معه، ويهيج النفوس للبكاء، ويعمق فيها الحزن، فذلك من أعمال الجاهلية، وقد ذكر النبي ﷺ من أخلاق الجاهلية وأعمال الجاهلية التي لا تدعها هذه الأمة ذكر منها: النياحة على الميت، الفخر بالأحساب، والطعن بالأنساب، والنياحة على الميت[1].

ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب قال: قال النبي ﷺ: الميت يعذب في قبره بما نِيحَ عليه[2]، متفق عليه، وفي رواية: يعذب في قبره ما نيح عليه[3].

فرق بين اللفظتين: بما نيح عليه، يعني بسبب ما نيح عليه، بسبب النياحة.

والرواية الثانية: يعذب في قبره ما نيح عليه، يعني مدة النياحة عليه يعذب في قبره، يعذب في قبره هذا تكلم أهل العلم كثيرًا في معناه؛ لأنهم استشكلوا ذلك مع قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، فكيف يتحمل هذا الميت عقوبة بسبب فعل غيره؟! وهو بكاء الأحياء عليه فمن هذا الوجه وقع الإشكال؛ فبعض أهل العلم كعائشة -رضي الله عنها- قالت: إن هذا قاله النبي ﷺ في مناسبة معينة، يهودي مات أهله يبكون عليه وينوحون فذكر أنهم يبكون عليه، وأنه يعذب في قبره، إنه ليعذب في قبره، وإنهم يبكون عليه[4]، ورد عدد من الأحاديث في ذلك فقالت: هذا يعذب بسبب كفره لا بسبب النياحة فذكر حاله في القبر وذكر حالهم في الدنيا يقول: هم يبكون وهو يعذب لكنه لا يعذب بسببهم ولا بسبب بكائهم إنما يعذب بسبب كفره بالله -تبارك وتعالى-، فالنبي ﷺ كان يصف الحال فقط لا ذكر السبب والمسبب هذا قول لعائشة -رضي الله عنها-.

والجمهور من أهل العلم يقولون: إن ذلك محمول على ما إذا كان أوصى كما يقول الشاعر الجاهلي في بيته المشهور:

إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي على الجيب يا ابنة معبد[5]

يوصيها إذا مات أن تنوح عليه وأن تبكي عليه، فكانوا يوصون بهذا، ويرون أن هذا من أداء حق الميت، أعني أهل الجاهلية، وكانوا يستأجرون النائحة بالمال، فكان عندهم نساء للأجرة مثل التي تستأجر للأفراح تضرب بالدف وتزغرد وما إلى ذلك وتردد الأهازيج، وما إلى هذا من الغناء الذي تلقيه على مسامعهم، كذلك كانوا لربما يستأجرون امرأة تنوح، فترفع الصوت -نسأل الله العافية- بالبكاء على الميت، ولهذا في الأمثال المعروفة: النائحة المستأجرة ليست كالثكلى، يعني النائحة المستأجرة هي تتكلف البكاء وتتصنع لكن ليس في قلبها ألم وحزن؛ لأن هذا الميت لا يمت لها بصلة، وليست كالثكلى التي فقدت ولدها.

 فالمقصود أن من أهل العلم وهو قول الجمهور واختاره الحافظ ابن عبد البر[6] -رحمه الله-، والقاضي عياض[7] من المالكية، قالوا: بأن ذلك يكون فيمن أوصى فيكون هذا من عمله، فيعذب بسبب هذه الوصية السيئة، فيكون فعلهم هذا تنفيذًا لوصيتهم.

وقال آخرون: إن ذلك فيمن أوصى، أو فيمن علم أن ذلك من عادتهم أنهم ينوحون فلم ينههم، وهذا له وجه، ولا شك أن من أوصى داخل في هذا.

وقال آخرون: إن ذلك فيمن أوصى، أو علم أنه من عادتهم فلم ينههم، أو أنه لم يوصهم بالنياحة مطلقًا فرط وتساهل فناحوا عليه كان المفروض أنه يقول: إذا مت لا ينح أحد.

وبعضهم يقول: إن المقصود بالتعذيب هنا ليس التعذيب الذي يكون من عذاب الله ، وإنما التعذيب بمعنى الألم أنه يشعر بهم وهم يبكون عليه بعد موته فيتألم لما يرى بهم من الحزن والبكاء كما يتألم الحي إذا رأى أهله في مثل هذه الحال، فهو يعذب حينما يراهم بحال من الحزن والبؤس والبكاء، هذا قاله بعض أهل العلم، فيكون العذاب هنا ليس من تعذيب الله للعبد لا على هذا القول هذا بعض ما قيل الميت يعذب.

لكن ظاهر الحديث هنا العموم، فالميت يعذب في قبره بما نيح عليه، والباء هنا تدل على السببية، أو ما نيح عليه، فهذا يبعد معه قول عائشة -رضي الله عنها- أن ذلك في يهودي قال فيه النبي ﷺ: إنه ليعذب وإنهم ليبكون عليه، فهذا الحديث عام، ولا يختص بهذا اليهودي.

وقوله ﷺ: الميت يعذب في قبره بما نيح عليه، يدل على أن ذلك مطلقًا سواء أوصى أو لم يوصِ لكن إن كان ذلك قد أوصى ألا يُبكى عليه وبكوا عليه فيعذب؟ هذا الذي فيه الإشكال كونه أوصى ألا يكون نياحة فناحوا فهذا لا ذنب له، أوصاهم ألا ينوحوا فهل مثل هذا يعذب؟

الظاهر أن مثل هذا لا يعذب إلا أن يكون التعذيب المقصود به كما قال الآخرون بأنه الألم الذي يجده بسبب بكاء هؤلاء وحزن هؤلاء عليه.

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية[8]، متفق عليه.

ليس منا يعني ليس على طريقتنا، ليس على هدينا.

من ضرب الخدود، لطم الخد في المصيبة، وشق الجيوب، وكذلك شق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية، دعا بدعوة الجاهلية يحتمل أنه يكون المقصود: يا جبلاه، يا سنداه، يا كذا من العبارات التي كانوا يقولونها.

ويحتمل أن يكون المراد دعا بدعوى الجاهلية أن يكون هذا خارج من موضوع النياحة، مثل: العصبيات القبيلة، كما قال النبي ﷺ لما قال رجل: يا معشر المهاجرين، وقال الآخر: يا معشر الأنصار، فقال النبي ﷺ: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم[9]، فيكون قوله ﷺ: ليس منا، ذكر أمرين ليس منا يعني فعل هذه النياحة، أو فعل شيئًا آخر لا يتعلق بالموت والميت والبكاء، وإنما هو: دعا بدعوى الجاهلية.

قال: وعن أبي بردة قال: وجع أبو موسى، أبو بردة هذا هو ابن أبي موسى الأشعري من التابعين، قال: "وجع أبو موسى، -يعني مرض-، فغشي عليه، -أغمي عليه-، ورأس في حجر امرأة من أهله، -هذه المرأة هي زوجته صفية كان في حجرها-، فأقبلت تصيح برنة"، يعني لما أغمي عليه ظنت أنه قد مات.

"برنة" يعني بصوت مرتفع.

"فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا بريء مِمَّن برئ منه رسول الله ﷺ، إن رسول الله ﷺ برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة"[10]، متفق عليه.

فأنكر في هذه اللحظات الحرجة في حال من الضعف والمرض والإغماء وينكر على أقرب الناس إليه، فالاحتساب والإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من خصائص هذه الأمة، قال: "إن رسول الله ﷺ برئ من الصالقة"، والصالقة هي التي ترفع صوتها بالنياحة والندب.

والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، نسأل الله العافية.

والشاقة هي التي تشق الثوب، أو تشق جيبها.

ثم ذكر حديث المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة[11]، متفق عليه.

من نيح عليه هذا ظاهره العموم، أوصى أو لم يوصِ، من نيح عليه سواء كان النائح هم أهله، أو نائحة مستأجرة فإنه يعذب، والفاء تدل على التعليل بما نيح عليه، والباء للسببية، بما نيح عليه، لكنه قال هنا: يوم القيامة، فهذا يدل على ضعف القول الأخير الذي ذكرته، وهو أنه يعذب بمعنى يتألم لما يرى من حزنهم وبكائهم عليه، لا أن الله يعذبه بسبب نياحتهم، فصار عندنا قول عائشة -رضي الله عنها- أن ذلك في يهودي، أن ذلك لا يساعد عليه ظواهر هذه الأحاديث العامة.

والقول بأنه يتألم لما يرى من حزنهم وبكائهم أن هذا ضعيف؛ لأنه قال: يوم القيامة، هناك قال: في القبر، وهنا قال: يوم القيامة، ولا منافاة فهو يعذب في القبر ويعذب في القيامة، بما نيح عليه، مع أن يوم القيامة لا ينوح عليه أحد أصلاً، ما في نياحة، يوم القيامة لا أحد ينوح على أحد، هو مات وهم ماتوا بعده من زمن بعيد، وانتهوا فلا نياحة لكن يبقى أنه يعذب مع قوله: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18] فالقول بأن ذلك فيمن علم من عادتهم فلم ينههم، لم يوص بذلك، لم يوص أن ما أوصاهم ألا ينوحوا هذا قول له وجه، أما من أوصاهم بالنياحة فهذا لا إشكال فيه أنه يعذب، ما لم يغفر الله له.

وبقي في الباب أحاديث يبين بعضها بعضًا، ولكن سأذكر بعضًا مما يتوقف عليه الفهم؛ لئلا ينقطع المراد، فحديث أم عطية -رضي الله عنها- وهي نُسيبة، ويقال أيضًا: نَسيبة بالفتح والضم: قالت: "أخذ علينا رسول الله ﷺ عند البيعة ألا ننوح"[12]، متفق عليه.

وقد فسر بسورة الممتحنة في البيعة التي تؤخذ على النساء، والامتحان الذي يكون للنساء ولا يعصينك في معروف، فقيل: هو النياحة، والآية أعم من ذلك لكن من الصحابة فمن بعدهم من فسره بالنياحة، وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] فيدخل فيه النياحة، ولهذا تقول: "فما منا إلا، -يعني وقع لها ذلك-، إلا فلانة"، يعني ما صبرن لما وقعت المصيبة.

وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: "أغمي على عبد الله بن رواحة، وعبد الله بن رواحة هو خال النعمان بن بشير، والنعمان بن بشير من صغار الصحابة، أغمي على عبد الله بن رواحة يقول: فجعلت أخته تبكي، أخته عمرة تبكي وتقول: واجبلاه، واكذا، واكذا، تعدد عليه، فقال حين أفاق: "ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي: أنت كذلك؟!"[13]، رواه البخاري.

مع أنه ما مات فيكون هذا -والله أعلم- من الأمور التي تكون خارقة للعادة؛ لأن الإنسان لا يعاين الحقائق إلا بعد ما تفارق الروح الجسد، وكون الإنسان مغمى عليه لا يزال في أحكام الدنيا، هو أفاق، وأخبرهم: "ما قلتِ شيئًا" يعني إذا قالت: واجبلاه أنت جبل فعلاً أنت سندها، وهكذا كل ما تقول عنه من عبارات: "أنت كذلك"، فقد يكون هذا أيضًا مفسرًا للتعذيب، هل أنت كذلك؟! يكون تبكيتًا، والهمزة للإنكار، أأنت كذلك؟! هل أنت كذلك؟!

فيقول: لست كذلك، فهذا يفسر التعذيب، وهل يظن بعبد الله بن رواحة أنه يوصيهم أن ينوحوا عليه؟!

أبدًا، وكذلك فهنا يقال له مثل هذا فقد يكون هذا تعذيب، أو نوع من التعذيب، أو هو التعذيب، الله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه أحمد في المسند، برقم (7908)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وبرقم (10809)، وقال محققوه: "حديث صحيح".
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، برقم (1292)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، برقم (927).
  3. أخرجه البزار في مسنده، برقم (146)، والروياني في مسنده، برقم (834)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (156)، وقال محققه (حسين سليم أسد): "رجاله رجال الصحيح".
  4. أخرجه أحمد في المسند، برقم (24637)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين".
  5. انظر: مسند الشافعي (ترتيب السندي) (1/201)، وشرح السنة للبغوي (5/443).
  6. انظر: الاستذكار (3/72).
  7. انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/371).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ليس منا من ضرب الخدود، برقم (1297)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، برقم (103).
  9. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [المنافقون:6]، برقم (4905)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، برقم (2584).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة، برقم (1296)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، برقم (104).
  11. أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، برقم (933).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك، برقم (1306)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، برقم (936).
  13. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشأم، برقم (4267).

مواد ذات صلة