الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «قال رجل لأتصدقن بصدقة..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: قال رجل: لأتصدقن بصدقة وهذا الرجل من الأمم السابق ليس من هذه الأمة فأوحي إلى النبي ﷺ بذلك- فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق يعني من حيث لا يشعر فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق الناس دخلوا في الصباح، وهم يتحدثون، وكأن هذا الرجل تصدق على هذا السارق، ربما يكون ليلاً لإخفاء هذه الصدقة فأصبح الناس يتحدثون تصدق على سارق بمعنى أن هذا السارق لا يستحق أن يتصدق عليه في نظرهم فقال: اللهم لك الحمد يعني كأنه لم تبلغ هذه الصدقة ما في نفسه فقال: اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة يعني أخرى فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فأوتي فقيل له أوتي قيل: في المنام، وقد جاء في ذلك رواية فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أتاه الله[1] رواه البخاري بلفظه، ومسلم بمعناه.

هذا الحديث تضمن معنى في غاية الأهمية، وهو أن هذه الصدقة، وقعت في نظر الناس، على من ليس بأهل لها، وهم على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: وهم أولئك أصحاب الجنايات، الذين يعتدون على الأموال.

والقسم الثاني: أصحاب الجنايات تلك الجنايات، التي تتعلق بالحياء والشرف.

 الأول: الحامل له الطمع، وإنما يكون الغلبة فيه بالنفس الغضبية.

والثاني: الحامل عليه الشهوة.

وأما الثالث: فوقعت الصدقة على غني، بمعنى: أنه ليس بحاجة إليها، فهذه الصدقة تحدث الناس فيها بما تحدثوا، من حيث إنها في نظرهم لم تصادف المحل القابل.

فجاءه في المنام من يقول له: أما صدقتك على سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته إلى آخر ما ذكر.

فهذه الصدقة هي على نية المتصدق، بلغت، نعم الإنسان يحتاج أن يتحرى، ولكن نيته تبلغ، ويؤجر على هذا العمل، كما لو وقع في يد من يستحق، بصرف النظر عن هؤلاء الثلاثة، بمعنى لو أن أحدًا من الناس أخرج مالاً ليبنى له مسجد، أو يحفر له بئر، أو تبنى دار أيتام، أو نحو ذلك، فصار هذا المال إلى من لا يحسنون القيام عليه، أو لا يؤتمنون على هذا المال، فضيعوه، وأخذوه لحظوظ نفوسهم، هل ذهبت صدقته، انتهى؟

الجواب: لا، هذه الصدقة بلغت، ولا يضيع ذلك عند الله -تبارك وتعالى- قد يأتيه إنسان، ويقول: عندي مشروع، عندي مسجد، عندي معهد، عندي مدرسة، عندي دار تحفيظ، عندي دار أيتام، عندي إغاثة لمنكوبين، فيعطيه مالاً، فيأخذ هذا المال لنفسه، فمثل هذا لا تضيع صدقته، فاللائق أنه إذا علم بذلك ألا يحزن، ألا يحزن؛ لأنه يؤجر على هذا العمل الذي كان وراءه نية صالحة، فالإنسان يؤجر على نيته فضلاً عن العمل الذي يعقب النية، والله لا يضيع من أجره شيئًا، لا قليلاً ولا كثيرًا، هذا من حيث العموم.

في هذه الأمثلة الثلاثة في هذا الحديث: أما صدقتك على سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته.

يعني ربما يكون الحامل له على السرقة ما هو؟ الحاجة، فإذا أعطيته كف عن السرقة، إذا كان الحامل له رغبة في المال، فحصل له هذا المال، فيمتنع عن السرقة، وأما الزانية، فقد يكون الحامل لها على هذا الزنا هو الرغبة في المال، ولهذا كما سمعتم في قول الله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31] لأن العرب كانوا يقتلون البنت خشية الفقر الإملاق، لئلا تفتقر، فتضطر إلى أن تبيع عرضها، فتزني، فيقتلونها، وهي صغيرة، ولهذا بعده مباشرة قال: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]

نهاهم عن قتل الأولاد بسبب الفقر، الذي قد يحمل على بيع العرض، والفقر كما هو معلوم قد يفعل الأفاعيل، فقد تباع الأعراض بسبب الحاجة، والفقر، لما ترى صغيرها ليس عنده شيء، يتضور من الجوع، ليس عنده حليب، ليس عنده دواء، وهو مريض، ولهذا وجد، نسأل الله أن يكشف ما بهم من ضر، في مشارق الأرض ومغاربها، على سبيل المثال العراق، بعض النساء كانت تحدث عن مأساتها، لما قتل أبوهم، ومن يرعاهم، وينفق عليهم، صارت هذه المرأة تبيع ما في الدار، فباعت الفرن، باعت الثلاجة، آخر شيء بدأت تبيع الأبواب، بدأت تبيع النوافذ من أجل علاج هذا الطفل، أو هؤلاء الأطفال إذا مرضوا حتى بقوا في البيت ليس فيه شيء، وهؤلاء الذين يتحدثون بهذا يتحدثون عن مشاهدة مصورة، ثم بعد ذلك ما الذي يبقى؟

ما يبقى إلا العرض، فهي لا تحتمل أن ترى هذا الصغير في درجة حرارة كبيرة جدًا، ويصارع الموت، وهي لا تستطيع أن تفعل له شيئًا، والآن في أحوال مؤلمة لإخواننا في سوريا، وفي المخيمات لا يعلمها إلا الله فنسأل الله أن يلطف بهم، وأن ينصرهم، وأن يهلك عدوهم، وأن يغنيهم من فضله.

فالشاهد: أن هذه المرأة لعلها أن تستعف عن زناها، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33] فالبغاء هو: الزنا بمقابل، بأجرة، فالمرأة البغي هي: التي تزني بأجرة طلبًا للمال، فهذا المال الذي وقع لها قبيل الصدقة لعله يعفها عن الزنا.

وأما الغني فلعله أن يعتبر يعني هو ما جرب يوضع في يده دراهم، على سبيل الصدقة، فهذا الفعل، وهذا الحدث يحرك في نفسه أشياء كثيرة، يشعر أنه في مقام الآخذ أن يده صارت بالمرتبة الدنيا، والمعطي صاحب اليد العليا، فعند ذلك تتحرك نفسه، ويشعر بحاجة هؤلاء، وبضعفهم، وبمذلتهم، وهوانهم، فيحنو عليهم، ويتلطف بهم، ولا يقسو على هؤلاء، ولا ينهرهم، ويواسيهم بماله.

ولهذا فإن ما يعطى لهؤلاء الفقراء، حتى ولو كان يكذب بأوراق مزورة عنده، أنه عنده مرض، أو عنده أطفال معاقين، أو غير ذلك، أعطه شيئًا، فهذا الأجر لا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- فإن كان فقيرًا فقد صادفت المحل اللائق، وإن كان كاذبًا فإنما فعل ذلك بسبب الطمع، أو الحاجة، قد يكون هو محتاج لكن ليس كما قال، فيكون هذا العطاء له، وهذه الصدقة عليه، هي تكفه عن هذه الحيل، والممارسات التي لا تليق، وأمره إلى الله هو الذي سيحاسبه، نعم أنت في الزكاة تتحقق، وتتوثق؛ لأن أمر الزكاة ليس بالشيء السهل، والله تولى قسمتها بنفسه، ولكن في الصدقة الأمر واسع، فإذا وقعت لغني، فلا إشكال.

وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- يرى أن يعطى جميع السائلين هؤلاء، تحققت منه، أو لم تتحقق، غلب على ظنك، أو لم يغلب على ظنك، تصدق عليه، فإن كان فقيرًا فقد وقعت في محل، وإن كان غير فقير فإن أجرك لا يضيع عند الله ولهذا كان يعطي، ويأتونه الناس بأوراقهم، ونحو ذلك، ويقول لمن وكله بهذا: يكتب له، أعطهم، ولربما بعضهم زور الرقم، إذا قال: أعطيه مائتين ريـال، وضع عليها أصفار، ثم يذهب، ويأخذ، فإذا كشف الأمر، وقيل: لم يكن من العادة أن يكتب مثلاً لواحد بعشرين ألف، والشيخ كتب له مثلاً مائتين ريـال، أو ألفين ريـال، وتبين أنه زور في الكتابة، فيقول: أعطوه ما فعل هذا إلا وهو محتاج، وبهذا صار إمامًا، هذه من أحد الأسباب، سعة قلب هذا الرجل، ما قال: هاتوه هذا محتال، هذا كذاب، ما يستحق، لا يعطى، إنما يقول: دعوه، يعني يعلمون قبل أن يعطى أن هذا زور، يقول: أعطوه ما فعل هذا إلا وهو محتاج، ثم بعد حين بعد سنين طويلة يتوب الرجل، ويبقى هذا الموقف يلاحقه، ويتأثر به، ثم يرجع، ويقول: أنا فعلت هذا الشي، قالوا: نحن علمنا بذلك، ولكن الشيخ قال: أعطوه ما فعل هذا إلا وهو محتاج، هذه القلوب الكبيرة، التي يصير بها الإنسان إمامًا، ولهذا فإن الكثيرين لربما ينتسبون إليه، ويثنون عليه، ويحبونه، ولكنهم في الواقع ليسوا على الحال التي كانت عليها، فالقلوب تضيق بإخوانهم المسلمين الأخيار فضلاً عن غيرهم.

فعلى كل حال، هذا معنى في غاية الأهمية، ومن ثم فإن الإنسان لا يتأسف كثيرًا إذا عرف أن فلانًا لربما خدعه، نعم، وأخذ منه، ومن غيره، وهو يقول: أنا ما كلمت أحدًا سواك، وأنا ما عندي جار، وأنا عندي أولاد فقراء ما عندهم شيء، وأنا ما أعرف غيرك، وأنا ما أستطيع أن أتحدث مع أحد، ثم بعد ذلك تكتشف أنه كلم فلانًا، وأعطاه، وكلم فلانًا وأعطاه، وكلم فلانًا وأعطاه، هي ما تضيع عند الله -تبارك وتعالى- لا تأسف، ولا تندم، فالله يتقبلها إذا كانت بصدق، ونية، وإخلاص، ومن كسب طيبًا، يتقبلها، وينميها، فهي باقية هذه الصدقة محفوظة تريد ما عند الله.

ولهذا الآية التي ذكرتها في بعض المناسبات في عدد من المناسبات: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:272] هذه في غاية الأهمية، ذكرت ثلاثة أشياء، انظروا التي قبلها في سورة البقرة: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] كثير من المفسرين يقول: هذه في أن البعض لربما يقولون: أن هؤلاء لا يستحقون الصدقة، لسوء حالهم، ولبعدهم عن ربهم -تبارك وتعالى- ليسوا بأهل صلاح واستقامة، فالله قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] الهداية إلى الله وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:272] تقدم لنفسك وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272] أنت تريد ما عند الله، ما شأنك، وهؤلاء وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].

ثلاثة أشياء: لأنفسكم تريدون ما عند الله يأتيكم الأجر وافيًا، فإذا ضمنت هذه الأشياء الثلاثة، لا شأن لك بهؤلاء الناس، نعم هناك أولويات، لكن لا تظن أن هذا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- يقدم الأصلح لا إشكال هو أولى، يقدم الأحوج، ولكن إذا وقع لإنسان تلبيس، أو نحو ذلك، فوقعت في يد من لا يتخيره ابتداءً فإنه لا يبتئس، فهذه الأمور الثلاثة حاصلة، ومتحققة، فهذا ينبغي أن يكون قاعدة، وأصلاً، ومنطلقًا، في الصدقة في سبيل الله -تبارك وتعالى- أما الزكاة فيتحرى فيها ما لا يتحرى في غيرها.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم، برقم (1421) ومسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).

مواد ذات صلة