الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث "صلى بنا رسول الله الفجر.." إلى «من قتل وزغة في أول ضربة..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أبي زيد، عمرو بن أخطب الأنصاري قال: صلى بنا رسول الله ﷺ الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل، فصلى، ثم صعد المنبر حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس، فأخبرنا ما كان، وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا[1] رواه مسلم.

أبو زيد عمرو بن أخطب الأنصاري -رضي الله عنه وأرضاه- من الصحابة المعمرين، تجاوز عمره المائة، ولم يكن في رأسه ولا في لحيته شيب لما بلغ الثمانين، ثم بعد ذلك بعد أن جاوز المائة، لم يكن في رأسه ولحيته إلا شعرات من الشيب قليلة.

يقول: صلى بنا رسول الله ﷺ الفجر، وصعد المنبر، يعني: خطبهم النبي ﷺ من بعد صلاة الفجر إلى غروب الشمس، وليس هذا من قبيل الإكثار من الموعظة، والإطالة فيها، الأمر الذي يورث السآمة، فهذا مقام تعليم، ومقام التعليم غير مقام الموعظة، يعني نحن مثلاً في هذا التعليق على هذا الكتاب في كل يوم، لكن لو كانت موعظة لما كانت في كل يوم، كان ابن مسعود يتخول أصحابه، كان يعظهم يوم الخميس[2] ويذكر أن النبي ﷺ كان يتخول أصحابه بالموعظة خشية السآمة[3] فيفرق بين مقام التعليم، ومقام الوعظ، مقام الوعظ يقصد به إذكاء النفوس، وتحريك القلوب بالترغيب والترهيب، وما إلى ذلك من أجل أن تعمل وأن تنشط لطاعة ربها ومليكها ، أما مقام التعليم فإنه يحتاج إلى صبر وطول ملازمة، وما إلى ذلك مما هو معروف.

فهنا النبي ﷺ بقي هذا الوقت الطويل، من الفجر إلى المغرب، يذكر لهم ﷺ: ما كان، وما هو كائن؛ ما كان يعني: ذكر لهم أخبار الأمم السابقة، وما هو كائن يعني: إلى يوم القيامة من الحوادث والأمور العظام، حتى إنه جاء في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ ذكر لهم أمورًا من أحوال الولاة، وما إلى ذلك، والحوادث العظام الكبار، ولهذا أبو هريرة كان يقول: حفظت من رسول الله ﷺ جرابين: أما الأول: فبثثته في الناس، وأما الثاني: فلو حدثت به لقطع هذا[4] يعني عنقه، وظاهر من هذا أنه يقصد ما يتعلق بأخبار الأمراء من بني أمية، ونحو ذلك، ولهذا كان يدعو ألا يدرك سنة ستين[5].

فالشاهد: أن النبي ﷺ ذكر أشياء من هذا القبيل، فهنا خطبهم هذه الخطبة الطويلة، وذكر لهم ما كان، وما هو كائن، يعني الأمور الماضية، والأمور المستقبلة، يعني الغيب النسبي، وذكر لهم الغيب المستقبل، وكل ذلك بإعلام الله له، فالله لا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول، والنبي ﷺ لا يعلم الغيب، وهذا أمر مقطوع به، ولا يعلم الغيب إلا الله ، ولهذا بقي النبي ﷺ مدة طويلة تزيد عن الشهر في قصة الإفك، وهو لا يعلم حقيقة ما قيل، ويقول لعائشة -رضي الله عنها-: إن كنت ألممت بذنب فاستغفر الله، وتوبي[6] ويقول: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة[7].

يقول: وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي ﷺ: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه[8] رواه البخاري.

النذر أصله: أن يوجب المكلف على نفسه ما لم يجب عليه شرعًا، بقصد التقرب إلى الله، يعني أنه عبادة، والله قال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7] فأثنى عليهم بهذا العمل، وهو الوفاء بالنذر، ولهذا يقال: النذر مكروه، ولكن الوفاء به محبوب لله -تبارك وتعالى- وهذه مسألة يلغز بها.

فهنا: من نذر أن يطيع الله، فليطعه بمعنى أنه لا يترك ذلك إذا كان يقدر عليه، وكثير من الناس في حال الشدة، أو نحو ذلك، يجعل على نفسه، يلزم نفسه، يوجب عليها ما لم يوجب عليه الشارع، فيقول: علي نذر إن حصل كذا، إن شفيت من هذا المرض لأتصدقن بكذا، لأصومن كذا، فإذا حصل بدأ يسأل يقول: هل من كفارة؟ هل من مخرج؟

من نذر أن يطيع الله، فليطعه فإذا كان قادرًا عليه فإنه يجب عليه الوفاء بالنذر ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه لو نذر الإنسان أن ينفق هذا المال في جهة محرمة، أنه ينفق هذا المال في سفر محرم، أو على قوم يتعاطونه تعاطيًا محرمًا، فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك، لو نذر أن يجعل هذا المال على قبر فلان، أو هذا الطعام لقبر فلان، أو هذه السرج لقبر فلان، فهذا كله لا يجوز الوفاء به، على خلاف بين أهل العلم: هل فيه كفارة، أو ليس فيه كفارة؟

لكن بالاتفاق لا يجوز الوفاء بنذر المعصية؛ لأن المقصود بالنذر هو التقرب إلى الله .

ثم ذكر حديث أُم شَريك -رضي الله عنها-: أن رسول الله ﷺ أمرها بقتل الأوزاغ، وقال: كان ينفخ على إبراهيم[9] متفق عليه.

أمرها بقتل الأوزاغ، الوزغ: معروف دويبة معروفة، التي يقال لها: سام أبرص، يعني هذا اسم مركب مثل: بعلبك، وحضرموت، يقال: سام أبرص، وتقال: الأوزاغ للكبار منها، فهذه هي بغيضة بالفطرة، يعني يكرهها، ويشمئز منها المؤمن بالفطرة، قال: كان ينفخ على إبراهيم.

لاحظ هنا ينفخ على إبراهيم لما أوقدت النار، فكان ينفخ من أجل أن تزيد اضطرامًا، واشتعالاً، مع أن نفخه ضعيف، لا يؤثر، ولكن النفوس الشريرة تبذل ما يستطاع، ولو كان تافهًا، في سبيل تكثير الشر، ومحاربة الفضيلة، والخير، والأخيار، والصالحين، ولو كان جهد العاجز، فهذا الوزغ على ضعفه وعجزه ينفخ على النار ليزيدها اضطرامًا، مع أنه يعلم أن نفخه لا يغني شيئًا، ولكن هكذا الأشرار يبذلون كل مستطاع، ولو كان من قبيل جهد العاجز.

فحري بأهل الفضل والخير والدين الذين يريدون ما عند الله -تبارك وتعالى- ألا يتقال الواحد منهم جهدًا في سبيل نصر دين الله وتكثير المعروف، وتقليل الشر، ولا يقول أحد: أنا ما عندي إمكانيات أنا ما عندي علم، أنا ليس لي كلمة مسموعة، أنا ليس عندي أموال كثيرة، يمكن أن يدخل الجنة بعمل يسير، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وعاب على المنافقين، الذين كانوا ينتقدون، ويعيبون، ويسخرون من أهل الإيمان، الذين يتصدقون بالقليل: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79].

فهذا إذا جاء بصدقة قليلة، قالوا: الله غني عنه وعن صدقته، ماذا تغني هذه الصدقة؟ هو قد يدخل الجنة بتمرة، والصدقة لا شك أنها من جهد المقل، يكون لها من الأثر ما هو أبلغ وأعظم، وقد تقع بمنزلة عند الله -تبارك وتعالى- لا تبلغها تلك النفقة العظيمة، التي قد لا يوجد معها من النية، والصدق، وإرادة ما عند الله، ونصر دينه، والإحسان إلى عباده -كما هو معلوم-.

فأقول: مثل هذه الدويبة لم تترك هذا الجهد الضعيف، فينبغي على أهل الإيمان ألا يألوا الواحد منهم جهدًا في بذل كل مستطاع: اتقوا النار ولو بشق تمرة[10] هذا هو الشعار الذي ينبغي أن يرفعه المؤمن، وأن يكون دائمًا ذلك ديدنه في العمل، فلو بذل هذا قليل، وهذا قليل، وهذا قليل، لكثر المعروف والخير، ألا ترون أن الأودية يكثر ماؤها وتفيض، إنما يكون ذلك بقطرات قليلة تجتمع هنا قطرة، وهنا قطرة، وهنا قطرة، ثم بعد ذلك يجتمع، فيجترف ما بطريقه، فلا يبقي ولا يذر هذا السيل.

ولذلك أقول: إذا تضافرت الجهود في تكثير الخير، وتقليل الشر، اضمحل الباطل وتلاشى، وانقمع أهله، لكن حينما تبقى التواكل، والجميع يقول فلان وفلان، ويبقى الذين ينكرون، ويحتسبون، ويبذلون، ونحو ذلك، أفراد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة في المجتمع، والباقي يتواكلون، ويتكاسلون، أنا جهدي ضعيف، أنا جهدي قليل، أنت تستطيع أن تبذل القليل، وهذا يبذل القليل، ثم بعد ذلك يكون كثيرًا كالجبل، فهذه عبرة من أعجب العبر.

ثم انظروا أيضًا هذه الرابطة الإيمانية، تقتل هذه الأوزاغ مع أنها دويبة لا تعقل؛ لأنها كانت تنفخ على إبراهيم، فنحن نبغضها ديانة، ولا يمكن أن تقبل النفوس على مثل هذا النوع من المخلوقات، أو الحشرات، سواءً كانت هذه الأوزاغ الحقيقية، أو الأوزاغ البشرية، التي تنفخ على دين إبراهيم، وعلى ملة إبراهيم عبر أفواه، أو أقلام مأفونة مأجورة، فكل هذا من هذا الفصيل، فنحن نبغضهم، ونسأل الله أن يكفي المسلمين شرورهم.

فهذه الدويبة تقتل بأمر رسول الله ﷺ وأولئك الدواب يحتسب عليهم، فينكر عليهم، ويزجرون عن هذا، ويناصحون، ولا يبقى هؤلاء يفسدون في المجتمع دون حسيب ولا رقيب، ينفثون سمومهم، ويشككون في الثوابت -والله المستعان-.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة -سيأتي بيان هذا- ومن قتلها في الضربة الثانية، فله كذا وكذا حسنة دون الأولى وإن قتلها في الضربة الثالثة، فله كذا وكذا حسنة[11].

إذًا المراتب ثلاث في قتلها، يعني هو لم يأمر بقتلها فحسب، بل المبادرة بالتعجيل عليها، وإزهاق نفسها، والقضاء عليها، ولم يكن إعدامها مقصودًا قصدًا أوّليًا، وغائيًا، وإنما المقصود أيضًا: أن ذلك يكون على مراتب المسارعة بالتعجيل عليها.

وفي رواية: من قتل وزغًا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة مائة وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك[12] رواه مسلم.

في الأولى مائة حسنة، هذا يدل على أنه عمل عظيم، مع أن هذه الدابة لا شأن لها، فيما يبدو للناس بظاهر من الرأي، ولكن الشرع دلنا على معنى آخر، ولذلك فإن أهل الإيمان يكون بينهم من الرابطة الإيمانية، والولاء، والمحبة، والنصرة، ولو كان في مقابل بهيمة، أو دابة، أو نحو ذلك، والله المستعان، على كل حال يكفي هذا القدر.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يكون إلى قيام الساعة، برقم (2892).
  2. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة، برقم (70).
  3. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة، برقم (70) ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الاقتصاد في الموعظة، برقم (2821).
  4. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب حفظ العلم، برقم (120).
  5. أخرجه السيوطي في الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير، برقم (5411) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير، برقم (6461).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661) ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (1218).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة، برقم (6696).
  9. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، برقم (3359).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1417)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1016).
  11. أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب استحباب قتل الوزغ، برقم (2240).
  12. أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب استحباب قتل الوزغ، برقم (2240).

مواد ذات صلة