الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «إنه ليغان على قلبي..» إلى "كنا نعد لرسول الله في المجلس.."
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب الاستغفار" أورد المصنف -رحمه الله-: حديث أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة[1] رواه البخاري.

فهذا النبي ﷺ يستغفر أكثر من سبعين مرة، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فغيره ينبغي أن يكثر من الاستغفار، وأن يخاف ذنوبه.

ويفسر قوله ﷺ: والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة الحديث الذي قبله، وقد مضى الكلام عليه، وهو قوله: وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة[2]؛ وذلك أن الإنسان -كما سبق- يكون بين ذنوب يحتاج إلى الاستغفار منها، وبين تقصير في القيام بوظائف العبودية، والنهوض بشكر الله -تبارك وتعالى- على نعمه الظاهرة والباطنة، وكذا التقصير أيضًا في القيام بالعبادات التي نتعبد بها، من صلاة، وصيام، وحج، وما إلى ذلك.

ولهذا كما سيأتي: "إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا"[3]، فإن ذلك إنما يكون لما يقع من الإنسان من تقصير، وضعف، وغفلة أثناء العبادة، فكيف بمواقعة معصية الله -تبارك وتعالى- وتعدي حدوده.

ثم ذكر حديثًا آخر لأبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم[4]، رواه مسلم.

هذا الحديث ينبغي أن يفهم على وجهه، فليس المقصود بذلك الإغراء بالمعاصي، فيحتج به على معصية الله -تبارك وتعالى-، ويقول: أنا أذنب وأعصي؛ لأن النبي ﷺ يقول: لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون وإنما هذا الحديث سيق لبيان هذا المعنى الذي يتصل ويرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، وهو أنه يحب الاستغفار والتوبة، وتظهر وتتجلى في ذلك بعض معاني أسمائه الحسنى: كالغفور، والتواب، والرحيم، والستير، وما إلى ذلك من المعاني.

فهنا: لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم فالذنوب لا بد أن تقع من الإنسان، ولكن ليس معنى ذلك أن يقصد مواقعة الذنب، وأن يجترئ على ربه -تبارك وتعالى-، فإن ذلك قد يكون سببًا لهلاكه، وقد لا يوفق للتوبة، وقد يحال بينه وبينها، وقد يختم له بهذا العمل، وقد يجذبه ذلك إلى مواقعة أمور فوق ذلك، فإن المعصية تدعو أختها.

وعلى كل حال هنا: لجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى؛ فيغفر لهم فهذا هو المعنى الذي يرجع إلى الله ، وتتجلى فيه بعض معاني أسمائه الحسنى، وكثير من الناس يفهم مثل هذه النصوص الواردة في الكتاب أو السنة، أو ما ورد عن بعض السلف فهمًا سلبيًا، بمعنى أنه يفهمها على غير مراد قائلها، ومن تكلم بها، فيكون ذلك سببًا إما لجراءة على الله ، أو لقنوط أحيانًا إذا كان المعنى يتصل بأعمال عظيمة يعملها بعض السلف، أو شدة الخوف من الله -تبارك وتعالى-، أو نحو ذلك، فيقول: أين نحن من هؤلاء؟ إذن لا فائدة من العمل، وهذا خطأ إنما يحدوه ذلك ويحفزه على مزيد من الإقبال على الله -تبارك وتعالى-، وكثرة الاستغفار والتوبة، مع رجاء ما عند الله.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا نعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم[5].

هذا في المجلس الواحد، يعدون له ﷺ مائة مرة: رب اغفر لي وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم وهذا يفسر قوله ﷺ: إني لأستغفر الله، وأتوب إليه بأي صيغة يقول ذلك هذا الاستغفار والتوبة؟

يقول: رب اغفر لي وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم فهذه من الصيغ الشرعية الواردة.

ولو أن الإنسان قال: أستغفر الله، وأتوب إليه لعد ذلك من الاستغفار، ولو أنه قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، أو قال ما سيأتي من سيد الاستغفار، فإن ذلك أكمل.

فهذه الصيغ تتفاوت من حيث الكمال، فإذا قال الإنسان: أستغفر الله، فإن ذلك يعد من الاستغفار، وأبلغ من ذلك أن يقول: رب اغفر لي وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم وأبلغ من ذلك أن يقول سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك...[6]، الحديث، فهذه مراتب، وكلما جاء المكلف بلفظ أكمل كان ذلك أوفى وأفضل وأعظم.

وقول ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كنا نعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب عليّ" مع أن النبي ﷺ مشغول بقلبه ولسانه وجوارحه بطاعة الله ، وذلك يستغرق عليه الأوقات، ومع ذلك يكثر من هذا.

فينبغي للعبد أن يكثر من ذلك، وإذا جلس يشتغل بهذه الأمور، ويكثر من الاستغفار، لا أن يشتغل بالقيل والقال، والوقيعة في أعراض الناس، واللغو الذي لا يجدي عنه شيئًا، فمجالسنا مليئة باللغو، وأحسن الأحوال أننا نشتغل بكلام مباح، لا طائل تحته، وتملأ به المجالس، ولكن لو أن الإنسان أشغل نفسه، أشغل لسانه بمثل هذا: رب اغفر لي وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم لا سيما أيضًا في أوقات الانتظار، التي ربما يجلس الإنسان فيها الساعة وأكثر من ذلك، ولو كان الإنسان يحسب الأوقات التي تمضي عليه وهو في الطريق، لوجد أنه يمضي عليه وقت طويل وهو يمشي، وهو في السيارة، وهكذا.

وسابقًا كان الإنسان يحسب وينظر في الدقائق والساعات، أو مجموع الدقائق في فاتورة الهاتف، فيجد مجموع ذلك في الشهر يبلغ شيئًا كثيرًا، يعني: مع أنه مقتصد ومقل من الاشتغال بالهاتف والاتصال، ومع ذلك يجتمع عليه في نهاية الشهر هذا المجموع الكبير من الدقائق، فكيف بأولئك الذين يتكلمون كثيرًا، ويكون ذلك ديدنًا لهم، أعني الحديث في الهاتف.

فإذا حسب الإنسان مثل هذه الدقائق وجد أنها قد اجتمع عليه منها شيء كثير، فكيف الآن في اشتغال الناس بهذه الوسائط في الواتس أب، وفي التويتر، وما إلى ذلك، الصغير والكبير، والرجل والمرأة، أول ما يستيقظ الصباح يفتح الجهاز، ويبدأ يقرأ هذه الرسائل والمحادثات، وإذا أراد أن ينام، وفيما بين ذلك، ولربما حتى في المسجد، وأشغل ذلك كثيرًا عن قراءة القرآن، وذكر الله، والعمل الصالح، وعن الأعمال المجدية حتى في الدنيا مما ينفعه ويرفعه؛ ولذلك أقول: إذا كانت المكالمات الهاتفية في السابق -كما ذكرت- تبلغ مقدارًا كبيرًا في نهاية الشهر، فلو حُسبت الآن الأوقات -لا أقول الدقائق- الآن نتحدث بالساعات الطوال عبر التوتير، وعبر الواتس أب، ونحو ذلك، فكم يبلغ هذا في نهاية الشهر؟ وكم يبلغ من الساعات؟ سنجد أن النتائج مفجعة، وأن الساعات التي نمضيها لربما كانت أكثر ساعات اليوم، وغالبًا ما يكون ذلك بالاشتغال بالمفضول، وبحديث لا فائدة فيه، هذا إذا لم يكن من قبيل الاشتغال بالأمور الضارة.

وهذا أصبح -للأسف- عادة، وأدمن عليه كثير من الناس، وصار لدى الكثيرين بمنزلة الطعام والشراب والنفس، لا يستغني عنه، فهو يقلبه آناء الليل، وأطراف النهار، والعجيب أن الساعات تمضي وهو لا يشعر، يعني: كان الناس لربما كثير من الفارغين يشعرون بالملل والسآمة في السابق، ولا يدري كيف يقضي الأوقات؟ فتارة يضطجع، وتارة يجلس، وتارة يتأفف، وتارة يمشي بلا اهتداء، وتارة يجول بسيارته، أما الآن فجاءهم ما يشغلهم في ليلهم ونهارهم، ولو أعطي كعمر نوح لاستغرقه ذلك، وما استطاع أن يحصي، إذًا ما هو الحل؟ تضيع الأعمار، سواء فيما يتصل بعمل الآخرة، أو ما يتصل بعمل الدنيا، كل هذا قد أشغل عنه هذه الوسائط والوسائل والأجهزة التي قضت على أوقاتنا.

فالعاقل ينبغي أن ينظر ويتبصر فيما مضى خلال سنة كاملة مثلاً، ما هي المكاسب التي حصّلها من هذا الاشتغال الطويل في يومه وليلته؟

سيجد أن النتائج الحقيقية والمكاسب والفوائد: ضحلة، حتى الفوائد والأشياء النافعة، التي ترسل فيها بعض التذكير ونحو ذلك؛ لما صار ذلك على طريقة الإغراق من كثرتها، بحيث تنهال، ويكثر الناس من إرسالها، ونحو ذلك، أصبح ذلك سببًا للزهد فيها، فإن الأشياء التي تأتي بسهولة لا تقف في ذهن الإنسان، ولا يتوقف عندها متأملاً متبصرًا، ومن ثم فإنها تعبر وتذهب أدراج الرياح.

ونحن قبل هذه الوسائط، كان إذا مرت فائدة في ثنايا الكتب، والإنسان يقرأ، يقيدها، ويهتم بها، ويحتفظ بها، ولربما الجيد منا من عمل له برنامجًا يدخل فيه الفوائد، ويبوبها على موضوعات، وهو في غاية العناية بها، والآن أصبحت كالمطر، فمثل هذا لاشك أنه يُزهِّد بها، غير الفائدة التي في السابق كان يقتنصها في بطون المراجع والكتب، وفي أثناء القراءة، لربما يقرأ مئات الصفحات، ويدون فائدة واحدة من هذه النوادر، والآن تأتي بكثرة يتداولها الناس، فصارت مبذولة، وكثير من الناس كما قال ابن قتيبة -رحمه الله-: "يزهدون في المبذول" الشيء المبذول يزهدون فيه، "ويبحثون عن الشيء النادر أو المعدوم" ومثل هذا يُفوت على الناس كثيرًا.

وعلى كل حال أقول هذا عبرة -أيها الأحبة- في المجلس الواحد يقول: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة، للنبي ﷺ، وهو قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، إذن نحن ماذا نقول؟ وكم عدد الاستغفار الذي نقوله في المجلس الواحد؟

على الأقل هذا الذي يشتغل بهذه الأجهزة، ويقضي أوقاتًا طويلة فيها، لو أنه أشغل لسانه بالذكر أثناء ذلك لكان أحسن حالاً، من أن يجمع الغفلة من أطرافها، والله المستعان.

وأما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، الذي ذكره هنا، من قول النبي ﷺ، أو ما يروى عنه: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا...[7] إلى آخره.

فهذا الحديث ضعيف، لكن لا بأس أعلق عليه غدًا، حتى لا أطيل عليكم اليوم.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة برقم (6307).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه برقم (2702).
  3. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم (591).
  4. أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة برقم (2749).
  5. أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب الاستغفار برقم (3814) وأبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار برقم (1516) والترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من مجلسه برقم (3434) وصححه الألباني.
  6. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار برقم (6306).
  7. أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار برقم (1518) وابن ماجه في كتاب الأدب، باب الاستغفار برقم (3819) والنسائي في السنن الكبرى في كتاب عمل اليوم والليلة، ثواب ذلك برقم (10217) وضعفه الألباني.

مواد ذات صلة