الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث «سأل موسى ربه..»، «إني لأعلم آخر أهل النار خروجا..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب بيان ما أعد الله للمؤمنين في الجنة، أورد المصنف -رحمه الله- حديث المغيرة بن شعبة عن رسول الله ﷺ قال: سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهل الجنة الجنة يعني: هذا آخر من يدخل الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربي كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي، فيقول: لك ذلك، ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك، وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت ربي، قال: ربي فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتُ غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر[1]، رواه مسلم.

فهذا أعلى وأدنى أهل الجنة منزلة، وأما أدنى أهل الجنة منزلة، فكما سمعتم، مثل ما يكون لملك من ملوك الدنيا عشرة أضعاف، يعني: الإنسان لربما يغبط أهل الجِدة والمال والسعة في العطاء الدنيوي، يغبطهم على ما عندهم من ألوان النعيم، قصور وألوان المآكل والمشارب، وما إلى ذلك، ولم يبلغوا هذا المبلغ، ولم يصيروا إلى هذه الحال أن يكون له مثل ملك من ملوك الدنيا، فكيف بعشرة أمثاله؟! وينضاف إلى ذلك: له ما اشتهت نفسه، ولذت عينه، هذا آخر واحد، وأقل واحد في النعيم، له ما اشتهت نفسه، ولذت عينه، هذا النعيم بهذا المقدار، ألا يستحق أن تكون الآخرة والعاقبة نصب عيني المؤمن الذي استيقن هذا الخبر وأمثاله، كما قال الله عن أنبيائه الذين وصفهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ۝ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:45-46] فالآخرة نصب أعينهم، يشتغلون لها، ومن أجلها، ويقومون ويقعدون ويعملون، ومن أجلها يفكرون؛ فهي غايتهم وبغيتهم، وانظروا إلى تهافتنا على حطام الدنيا الضئيل القليل، فبعض الناس إذا أرادوا أن يعملوا مساهمة من المساهمات لربما يخفون ذلك على جمهور الناس، وإنما يذكرونه لبعض من يؤثرون ويحبون، والنتيجة ما هي؟ احتمال ربح، واحتمال خسارة، والربح ما هو؟ لربما الربح من أوله إلى آخره لا يتجاوز عشرة آلاف، عشرة، ولا قيمة تذاكر، فيذهب مع أسرته إلى مكة، ومع ذلك تجد التعامل الشديد، والحرص الشديد، والسؤال والإلحاح على هذه التوافه، وانظر إلى كد الناس وكدحهم لكثير من حالاتهم من أجل أشياء يسيرة، يعمل وينشط ويذهب في أول النهار، وفي آخر النهار، على ماذا؟ أحيانًا على شيء يسير، وقد لا يساوي هذه الجهود والتفكير والاهتمام والسعي والكدح، وهذه مثل ملك من ملوك الدنيا، بل جاء في بعض الروايات: أنه يُعطى مثل مُلْك الدنيا من أولها إلى آخرها، جاء ذلك مصرحًا في بعض الروايات الصحيحة، عشرة أضعاف، وليس ملِك فقط، عشرة ما في الدنيا، مُلك الدنيا من أولها إلى آخرها عشرة أضعاف، هذا لأقل واحد في الجنة، فاليقين يضعف -أيها الأحبة- في نفوسنا، فيقعدنا ذلك عن التشمير والعمل، وإذا أراد الواحد أن يتصدق يحسب ألف حساب، ولا يكون إقباله على التجارة مع الله، والمساهمة في عمل الآخرة، كإقباله على عمل الدنيا، مع أن الربح هناك مضمون، وهنا غير مضمون، وهناك الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وهنا لربما لا يبلغ في أحسن حالاته عشرة بالمائة، وليس عشرة أضعاف، هناك عشرة أضعاف، والحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف، فاليقين هو الذي يجعل الإنسان حينما تكون مساهمة تجارية يقبل ويحرص، ولربما يقترض من أجل أن يساهم، ولكن إذا جاء عمل الآخرة صدقة بمائة ريال، أو بألف، أو نحو ذلك، فيحسب ألف حساب لها، والزكاة الأسئلة الكثيرة، هل هذا يجب فيه زكاة؟ أو لا يجب فيه زكاة؟

ثم ذكر حديث ابن مسعود مرفوعًا: إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها وهنا جاء مصرحًا؛ بأنه آخر من يخرج من النار وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة فهذا فيه زيادة: أنه آخر من يخرج من النار، وبطبيعة الحال إذا كان آخر من يدخل الجنة، فالأصل أنه آخر من خرج من النار، إلا أن يكون حبس، لكن هنا يدل على أنه كان الآخر في الخروج رجل يخرج من النار حبوًا لاحظ هذا الذي آخر من يخرج؟ ماذا عنده من الرصيد والعمل؟

فيقول الله له اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها لاحظ هذا مصرح به إنه مثل الدنيا، وفي بعض الروايات الصحيحة: من أولها إلى آخرها مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك؟ هذا آخر واحد: قال: "فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه" والنواجذ هي الأضراس الأخيرة، التي نسميها أضراس العقل، وقيل: هي ما بينها ما بين الأضراس الأخيرة والناب هذه، وقيل: أضراس الإنسان هي النواجذ، فكان النبي ﷺ يتبسم حتى تبدو نواجذه -عليه الصلاة والسلام- "فكان يقول: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة[2]، متفق عليه، هذا أقل واحد -أيها الأحبة-، وأما أصحاب المرتبة العالية أعلى أهل الجنة، هنا قال: قال الله -تبارك وتعالى- أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر[3]، يعني: هذا أمر لا يوصف، فحق لمن هداه الله وبصره وآمن بهذه النصوص أن يجد ويجتهد، وأن يكون أمره لله، وأن يسعى لعمارة آخرته، ولو كان ذلك بتخريب دنياه، أما أن يعمر الإنسان الدنيا، ويخرب الآخرة، فهذا لا يفعله عاقل.

وكذلك أيضًا المسألة ليست منحصرة في هذا فحسب، يعني: لو لم تكن جنة، وهذه المنازل العالية، ولو لم يكن إلا النجاة من النار لكفى، كما سمعتم في قول الله -تبارك وتعالى-: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] سرادق مثل سرادق الخيمة، لكن سرادق النار يختلف، الشمس والقمر تكوران وتلقيان في النار يعني الأرض برمتها في النار ليست بشيء، شيء صغير في النار، الأرض بكاملها، فالنار هائلة ضخمة، أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] شديد حره، تشوي الوجوه فقط لحره، حينما يهم للشراب، كما قال الله : نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:16] الشوى هذا مقدم الرأس، حتى قيل: إذا أراد أن يشرب سقطت فروة رأسه أو جلدة رأسه في الإناء من شدة حره، يشوي الوجوه شوي، بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] هذا شرابهم يشوى الوجه إذا أراد أن يشرب، وهو أيضًا يحرق أجوافهم، ويُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:20] وليس ذلك فقط، بل يضربون بالحديد، نسأل الله العافية وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:21] مقمعة حديدة لها رأس في منتهاها يضرب كلما رفعتهم النار، وهموا بالخروج قمعوا، فنزلوا فيها ثانية، عذاب مستمر، يعني نحن حينما نشاهد بعض المقاطع في منتهى الإجرام مما يفعل بإخواننا في سوريا أحيانًا الإنسان تلك الليلة لا ينام ويتألم، ولا يستطيع أن يأكل أو يشرب وتبقى تلك المشاهد تتراءى له، كيف بعذاب الله في الآخرة؟ هو شيء لا يمكن أن يقادر قدره، قل: لو لم يكن إلا النجاة من هذه النار لكان من الحقيق بكل أحد أن يجتهد في تخليص رقبته وفكاكها وعتقها من النار.

نسأل الله أن يعتق رقابنا ورقاب آبائنا وإخواننا المسلمين من النار، وأن يدخلنا الجنة، وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (189).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم (6571) ومسلم في الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً برقم (186).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (189).

مواد ذات صلة