السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[95] من قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} الآية 219 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآية 220
تاريخ النشر: ١٦ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 3895
مرات الإستماع: 2518

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:219-220].

روى الإمام أحمد عن أبي ميسرة عن عمر أنه قال: لما أنزل تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية التي في البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، فدُعي عمر فقُرئتْ عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43]، فكان منادي رسول الله ﷺ إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران، فدُعي عمر فقُرئتْ عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة فدُعي عمر فقرئتْ عليه فلما بلغ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] قال عمر: انتهينا انتهينا" [1]. هكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي 

وقال علي بن المديني: هذا الإسناد صالح صحيح، وصححه الترمذي، وسيأتي هذا الحديث أيضاً مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضاً عند قوله في سورة المائدة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] الآيات.

فقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -: إنه كل ما خامر العقل، كما سيأتي بيانه في سورة المائدة، وكذا الميسر وهو القمار.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد ﷺ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الخمر: إنه كل ما خامر العقل، أراد غطاه، والخمر من خمر الشيء بمعنى غطاه، والتخمير التغطية، سميت بذلك لأنها تغطي العقل فيزول بسببها، ويحصل الإسكار.

وتأتي الخمر بمعنى المخالطة، ما خامر العقل أي: خالطه، أو من التخمير وهو ضد الفطير، تقول: تركته حتى خمر فهو خمير، والمعنى تركته حتى أدرك، تقول: تركت العجين حتى تخمّر، أو خمر.

وتقول في الرأي هذا رأي خمير، أي ليس بفطير، بمعني أنه قد قلب من جميع الوجوه، وحصل فيه أناة حتى نضج، فيمكن أن تكون بهذا الاعتبار؛ لأنها تركت حتى تغيرت، والفواكه التي يصنع منها الخمر تترك حتى تتخمر، فيلقي بالزبد ثم بعد ذلك تكون مسكرة.

والمشهور الأول وهو أنها سميت خمراً؛ لأنها تغطي العقل، ولا تعارض مع المعنى الآخر؛ لأن المراد أنها تخالط العقل فإذا صارت المخالطة فإن العقل لا يكون في حالة سوية، والله تعالى أعلم.

قوله سبحانه: وَالْمَيْسِرِ الميسر: من يسر ييسر وهو القِمار الذي كان يتعاطاه العرب قديماً قبل الإسلام، ويدخل فيه القداح والأزلام إلى غير ذلك من هذه الأمور التي يتخاطر الناس فيها، سواء كانت من قبيل اللهو كالشطرنج والنرد، والكعاب التي يلعب بها الصبيان، فهذا كما يسميه الإمام مالك -رحمه الله: ميسر اللهو. 

أو الذي يتخاطر الناس فيها بمقابل، فيقامر الرجل على فرسه، أو جمله، أو بيته، أو أرضه، أو ماله، وقد يصل الحال ببعضهم أن يقامر على امرأته، إذا لم يبق له شيء من أجل أن يسترجع ما فات، ويلحق باللهو الباطل لعب الورق، والكيرم، والفريرة، وألعاب تشبه المنيبولي، وأخرى تشبه النرد لكنها كما يقال: بطريقة إسلامية، وهي محل نظر وتأمل، فتعتبر من اللهو الذي يشغل الناس عن ذكر الله ، وعن الصلاة، ومدعاة للعداوة والبغضاء بين المسلمين، ولا تخرج الأمة منه بكبير طائل، ولا بفائدة، أو قوة في بنائها وجهادها وحضارتها، بل هي سبب في صرف صاحبها عن المطالب العالية، ويدخل فيه كثير من الألعاب الإلكترونية اليوم، والله تعالى أعلم.

وصورة القمار والقداح والأزلام المعروفة عند العرب أنهم يأتون بأقداح معدودة بعدد، في كل واحد منها مكتوب سهم، وفيها ما ليس فيه شيء، ويتقامرون على لحم جزور مثلاً، ثم يأتي صاحب القداح بكيس ويلتحف بثوب، فيدخل يده في الكيس، ثم يخرج لكل واحد سهمه ونصيبه فيأخذه طواعية أو كرها، وكان لكل قدح من هذه القداح اسم عند العرب.

وقوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها، وكذا بيعها والانتفاع بثمنها.

عد الإمام الشاطبي -رحمه الله- جملة من فوائد الخمر، لكنها ضئيلة بالنسبة لمفاسدها ومنها:

أنها تشجع الجبان لذلك كانت العرب تشربها في الحروب، فإذا شربها أحدهم ربط على رأسه خرقة حمراء فلا يكاد يقف في وجهه أحد.

يقول أحدهم:

ونشربها فتتركنا ملوكاً وأُسْداً ما يُنَهْنِهُنا اللقاءُ
ومنها: أن البخيل إذا شربها صار جواداً كريماً، ولحمزة بن عبد المطلب قصة مشهورة في هذا مع شارف علي بن أبي طالب يحكيها عليٌّ فيقول: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي ﷺ أعطاني مما أفاء الله عليه الخمس يومئذ، ..أردت أن أبتني به بفاطمة عليها السلام، ...فخرجت لسوق بني قينقاع فلما رجعت، إذا أنا بشارفي قد أجبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت المنظر قلت: من فعل هذا؟

قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت، في شرب من الأنصار عنده قينة وأصحابه، فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشرف النواء، فوثب حمزة إلى السيف وصنع ما رأيت!

قال علي: فانطلقت حتى أدخل على النبي ﷺ وعنده زيد بن حارثة، وعرف النبي ﷺ الذي لقيت فقال: ما لك؟ قلت: يا رسول الله ﷺ، ما رأيت كاليوم، عدا حمزة على ناقتي... فطفق النبي ﷺ يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمِل محمرة عينه، فنظر حمزة إلى النبي ﷺ، ثم صعد النظر فنظر إلى ركبته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف النبي ﷺ أنه ثمِل، فنكص رسول الله ﷺ على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه"[2]

الشاهد من الحادثة أن شرب الخمر تشجع الجبان، وتجعل البخيل كريماً، ولا يفهم من القصة أن حمزة كان بخيلاً، بل هو من أكرم الناس وأفضلهم وأجلهم وأعلاهم، وما شرب الخمر إلا لأنها لم تكن حرمت حينها، فالمقصود أن البخيل وغير البخيل يجود بماله وبغير ماله في حالة تعاطيه لها، ولهذا يقول بعضهم:

وإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
ويقصد بالشطر الأول أنه في حال السكر ربُّ القصر الذي يجلس فيه الملك يأكل، بل وفوق الملك، وإذا صحا فإنه راعي إبل وغنم يرجع إلى حاله الطبيعية.

فهذه بعض فوائد الخمر، ولكنها فوائد ضئيلة إذا ما قوبلت بالمفاسد الكبيرة من شربها، والعبرة إنما هي بما غلب ولذا قال أحدهم في الخمر:

رأيت الخمر صالحة وفيها خصالاً تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحا ولا أشفى بها أبداً سقيما
ولا أعطي بها ثمناً حياتي ولا أدعوا لها أبداً نديما
ولا يوجد على ظهر الدنيا مفسدة خالصة كما يقول الأصوليون، وبالمقابل لا يوجد فيها مصلحة خالصة، إنما هي مشوبة بين هذا وذاك.

أما اللذات الخالصة فمحلها الجنة، والمفاسد الخالصة فمحلها النار، فإذا نظر الإنسان إلى الأشياء المحرمة وجد أنها تشتمل على بعض الأشياء التي فيها مصلحة لكن هذه المصلحة قليلة بالنسبة للمفسدة الكبيرة، وإذا نظر إلى الأشياء المباحة وجد فيها مفسدة، لكنها قليلة بالنسبة للمنفعة كما أخبر النبي ﷺ عن البقر بقوله: ألبانها شفاء، وسمنها دواء، ولحومها داء [3].

وأما مرضى القلوب من المنافقين فتجدهم يتعلقون بمصلحة مرجوحة في بعض مسائل الدين تتوافق مع أهوائهم، ويتغاضون عن المفاسد الكبيرة المترتبة علي الإقدام على هذه المسألة، ولذا الصواب القول: إنه ليس كل شيء يحصل فيه منفعة للإنسان يفهم منه الإباحة والجواز، والله أعلم.

وما كان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة؛ لتعلقها بالعقل والدين.

فالميسر يكسب من ورائه المقامر المال من غير تعب، فيحصل له بسببه فرح وسرور وهذه مصلحة لكنها لا توازي المضرة والمفسدة؛ وهي كونه أخذ ماله بغير حق، فتترجح حينها المفسدة وتغلب، ولا يكون للمقامر حق في أخذ المال بالمقامرة؛ للمفسدة الراجحة، والله أعلم.

ولهذا قال الله تعالى: وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا [سورة البقرة:219].

كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- يقول: إثمهما يعني: إثم ما ينتج عنهما، ويعلل ذلك بأن هذه الآية نزلت قبل التحريم، وأن سياقها إنما يفهم منه الإخبار فقط، فلا يلحق شاربها الإثم بمجرد شربها؛ بل باعتبار ما ينتج عن تعاطيها من ظلم الآخرين بلسانه وبيده، أو فعل ما لا يليق مما يوقعه في الحرج.

والإثم يطلق على معنيين: العمل الذي ينتج عنه المؤاخذة والتبعة، تقول: من فعل كذا فهو آثم، ومنه أُطلق على الكذب إثم، والزنا إثم.....الخ

وكثر إطلاقه على الخمر من بين الذنوب؛ لكثرة ما فيها من المفاسد والقبائح، والعرب كانت تسميها بالإثم كما قال أحدهم:

شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تفعل بالعقول
 وبعض العلماء يقول: إن أول آية نزلت في الخمر هي قوله سبحانه في سورة النحل: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [سورة النحل:67]، قالوا: السَّكَر هو المسكر، ثم نزلت هذه الآية فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
لكن المشهور أن آية البقرة هي أول ما نزل في المدينة، وأما آية النحل فليس المقصود بالسَّكَر الخمر على الأرجح، إنما هو ما شرب من عصير هذه الثمار المسمى: "النبيذ"، فإنهم يلقون الرطب في الإناء ويتركونه يوماً وليلة أو نحو هذا، مما يورث هذا الشراب مذاقاً حلواً، فالآية إنما جاءت في مقام الامتنان، ويستحيل أن الله يمتن علي عباده بالخمر، وهي كثيرة الشر والآثام، ومفسدتها أعظم من مصلحتها، وما ذكر من تأويلات ومحامل لتبرير هذا الامتنان فهو بعيد، والله أعلم.

ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرّحة بل معرّضَة، ولهذا قال عمر لما قرئتْ عليه: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ۝ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:90-91]، وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.

قال ابن عمر -، والشعبي، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن هذه أول آية نزلت في الخمر يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [سورة البقرة:219]، ثم نزلت الآية التي في سورة النساء، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر.

تحريم الخمر أخذ منحى التدريج على مراحل فأول شيء ذَكَرَ الله لهم في آية سورة البقرة هذا الملحظ في الخمر، وهو أن إثمها أعظم من نفعها، فالعاقل ينبغي له أن يتحرز منها ما استطاع، ثم جاء النهي أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، وهذا يقتضى امتناعهم عن شرب الخمر إلا في وقتين:

- بعد العشاء فلا يدخل وقت صلاة الفجر إلا وقد أفاق.

- بعد صلاة الفجر من أجل أن يأتي الظهر وقد أفاق، وفي حالة إذا كان شاربها مدمناً لها، أو يشربها بمقادير محددة لا تؤدي إلى فقدانه عقله، فلا بأس، وهذا من ترويض النفس على ضبطها تجاه الخمر، ثم نزل التحريم الصريح أخيراً في سورة المائدة، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90].

وقوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [سورة البقرة:219]، قُرئ بالنصب وبالرفع، وكلاهما حسن متجه قريب.

قُرئتْ قُلِ الْعَفْوَ بالنصب وبالرفع، فالجمهور يقرءونها بالنصب، وأبو عمرو بن العلاء من القراء السبعة قرأها بالرفع، وتوجيه الرفع والنصب بالنظر في لفظة ماذا، فإذا فصلنا ما وذا على حدة، أعربنا ذا اسماً موصولاً بمعنى الذي، والتقدير: ما الذي ينفقون؟ والجواب: الذي ينفقون هو العفو.

وإذا جعلنا ماذا للاستفهام بهذا التركيب، فعندئذ النصب، والتقدير: ينفقون العفو، فالعفو بهذا الاعتبار في موقع مفعول به.

وقال الحكم: عن مقسم، عن ابن عباس -ا: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ قال: ما يفضل عن أهلك، كذا روي عن ابن عمر -ا، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والقاسم، وسالم، وعطاء الخرساني، والربيع بن أنس وغير واحد.

ورد في المراد بالعفو في قوله: قُلِ الْعَفْوَ أقوال: فقيل: ما سهل وتيسر ولم يشق على القلب، كما قال الله في آية الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ [سورة الأعراف:199] أي: ما تيسر وسهل من أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم والمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولا تجهدوا أنفسكم، وقيل: هو ما فضل عن نفقة العيال، وقيل: العفو نفقات التطوع.

وما عليه عامة أهل العلم، وهو الظاهر المتبادر، أن المراد بالعفو ما فضل عن حاجتك وحاجة أهلك وعيالك، وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [سورة التوبة:34-35] مستدلين بتفسير أبي ذر وفهمه لهذه الآية حيث يرى أن لا يُبقي الإنسان شيئاً فوق حاجته، وإلا عمه العقاب فيكوى جنبه وظهره. 

والصواب القول بأن الله وسع على الناس في الأرزاق، وصار الإنسان إذا أخرج زكاة المال فلا يطالب أن ينفق ما زاد عن حاجته وحاجة عياله، ولا يكون المال المدخر كنزاً ولو بلغ أمثال الجبال، أو كان مدفوناً في باطن الأرض، وهذا الذي عليه عامة أصحاب النبي ﷺ، وأما دعوى النسخ فلا بد فيها من دليل، إذ إن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

والعلماء يتكلمون في مسألة معروفة هل في المال حق سوى الزكاة أو لا؟ فالمقصود أن هذه الآية اشتملت على توجيه الناس إلى الأدب في النفقة كما قال الله : وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] والمعنى أي تلومك نفسك، ويلومك سائلوك، ومن وجب عليك أن تنفق عليهم من أهل وقرابة؛ لأنك لم تترك لهم شيئاً، ولم تستطع أن تبذل، أو تنفق، أو تقدم القرى للضيف، أو تتصرف في شئونك، فالله يوجههم ويرشدهم في الإنفاق، فيقول: ما فضل عن حاجتكم، فهذا مجال للإنفاق، وأما سواه فلا، والله تعالى أعلم.

وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رجل يا رسول الله ﷺ عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على أهلك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر، قال: فأنت أبصر[4] وقد رواه مسلم في صحيحه.

وأخرج مسلم أيضاً عن جابر أن رسول الله ﷺ قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا [5].

هذا من أحسن ما يفسر به العفو.

وفي الحديث أيضاً: ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف [6].

وقوله: كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة البقرة:219-220]، أي: كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده.

لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.

ومن أهل العلم من يقول: في الجزء من الآية تقديم وتأخير: أي: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون فيهما، ودعوى التقديم والتأخير لا وجه لها ولا حاجة إليها؛ لأن المعنى ظاهر بدونها.

قوله سبحانه: فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ قيل: إنها متعلقة بالتبيين، والمعنى كذلك يبين لكم الآيات في الدنيا والآخرة، وهذا لا حاجة إليه ويتغير به المعنى، والأقرب تعلقها بالتفكر، والمعنى كذلك يبين الله لكم الآيات من أجل أن يحصل لكم الاعتبار والتفكر في الدنيا والآخرة، وهو ما ذكره ابن عباس -ا.

وقال بعضهم: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي تتفكرون في أمرهما بزوال هذه وبقاء هذه.

وقيل: إنها خطاب للإنسان، إنك إذا تفكرت في دنياك أصلحت فيها ما تحتاج إليه من أمر المعاش، وإذا تفكرت في آخرتك حاسبت نفسك وعملت لآخرتك وأنفقت في وجوه البر، فيكون الإنسان مصلحاً لأمر معاشه ومعاده، وهذا المعنى وإن كان قريباً من الأول، إلا أن ثمة فرقاً بينهما يدركه المتمعن فيهما، ويمكن الجمع بين هذه المعاني فنقول: إن التفكر يحصل بذلك كله، لأن الله لم يحدد شيئاً دون شيء، فيُبقي الإنسان عنده ما يحتاج إليه في هذه الحياة، ولا يكون ذلك مانعاً له من النفقة والصدقة. والله أعلم.

وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

  1. رواه الترمذي برقم (3049) (5/253)، والنسائي برقم (5540) (8/286)، وأحمد برقم (378) (1/443)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3049).
  2. رواه البخاري في كتاب المغازي –باب شهود الملائكة بدراً برقم (3781) (4/1470)، ومسلم في كتاب الأشربة –باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والزبيب وغيرهما مما يسكر برقم (1979) (3/1568)
  3. رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (21194) (25/42)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (8422).
  4. رواه النسائي برقم (2535) (5/62)، ورواه أبو داود برقم (1691) (1/529)، وقال الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: حسن صحيح برقم (2535).
  5. رواه مسلم في كتاب الزكاة -باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة برقم (997) (2/692).
  6. رواه مسلم في كتاب الزكاة –باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة برقم (1036) (2/718).

مواد ذات صلة