بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله- تعالى في تفسير قوله تعالى:
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:226-227].
الإيلاء: الحلف، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة، فلا يخلوا إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها، فإن كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، أما بعد:
قوله -تبارك وتعالى: لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ الإيلاء: الحلف، وذلك أنه مأخوذ من الأيلة، تقول: آلى يؤلي إيلاء يعني حلف حلفاً، وبعضهم يقول: أصل الإيلاء الامتناع باليمين، ويقال له: الحلف على وجه التوسع.
الإيلاء شرعاً: الامتناع باليمين من وطء الزوجة.
مدة الإيلاء: اتفق الفقهاء على أن من حلف ألا يمس زوجته أكثر من أربعة أشهر كان مولياً، واختلفوا فيمن حلف ألا يمسها أربعة أشهر: فقال أبو حنيفة وأصحابه: يثبت له حكم الإيلاء.
وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة: إلى أنه لا يثبت له حكم الإيلاء؛ لأن الله جعل له مدة أربعة أشهر، وبعد انقضائها فهو بالخيار بين الفيء، أو الطلاق.
وبعض أهل العلم يرى جواز اعتبار الإيلاء فيما دون أربعة أشهر، وكذا لو حلف ألا يطأ امرأته مطلقاً وهذا ليس محل اتفاق.
وليس للزوجة أن تطالبه في هذه المدة أربعة أشهر بالوطء، وإنما تتربص به وتنتظر، فإذا مضى عليها أربعة أشهر فمن حقها المطالبة، فإما أن يرجع ويكفر عن يمينه، وإما أن يفارقها ويطلقها، والراجح أن الإيلاء ليس بطلاق إذا تمت المدة ولم تحصل المراجعة فيها، ويلزمه القاضي بالطلاق إذا أبى المراجعة، والله أعلم.
وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة -ا- أن رسول الله ﷺ آلى من نسائه شهراً، فنزل لتسع وعشرين، وقال: الشهر تسع وعشرون [1]. ولهما عن عمر بن الخطاب –- نحوه.
فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر: إما أن يفيء -أي: يجامع -وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا، وهذا لئلا يضر بها. ولهذا قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نسائهم أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، وفيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور، تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أي: ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق.
ولهذا قال: فَإِنْ فَآؤُوا أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كناية عن الجماع قاله ابن عباس –ا، ومسروق والشعبي وسعيد بن جبير وغير واحد، ومنهم ابن جرير -رحمه الله.
العلماء مختلفون في الفيئة بناءً على اختلافهم في معنى الإيلاء، فمن قال: بأن الإيلاء: هو أن يحلف ألا يجامعها، فعندئذ تكون الفيئة بالجماع، ومن وسع المعنى فقال الإيلاء: هو أن يحلف ألا يكلمها أو يهجرها، وكل ما فيه أذية الزوجة والتضييق عليها فالفيئة تكون بأن يرجع إليها ويكلمها، وهذا قال به بعض السلف لكنه قول شاذ.
والصواب أن المراد بالفيئة في الآية الجماع، وأما من لم يتيسر له ذلك فبعض أهل العلم يرى إنها ترجع له بالنية والقصد، ويمكن أن يشهد على الإرجاع ويتكلم به، وهذه الصورة تتحقق في حق الرجل المسافر أو المريض.
والبعض الآخر يرى أنه لا يكفي القصد والنية، فهو إما أن يجامع وإما أن يطلق.
والإيلاء له ثلاث حالات:
- صريح: كأن يحلف ألا يجامعها أو يطأها.
- شبيه بالصريح: كأن يحلف ألا يغتسل لها من جنابة.
- كناية: كأن يحلف ألا يجمعه بها فراش واحد، أو نحو ذلك مما ليس بصريح في الجماع.
فالصريح يؤخذ به، وغير الصريح ينظر إلى قصده، بحسب نيته كما يقال في الأيمان.
استدل بعض أهل العلم بهذه الآية على أن الكفارة تسقط عنهم ولا يؤاخذوا بهذا الرجوع ولو حلفوا، وهذا يجري على قول من قال: إن الأيمان المحرمة لا كفارة فيها، وأدخلها في جملة لغو اليمين المنصوص عليها في قوله سبحانه: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [سورة المائدة:89].
وقيل: بل المراد أن الله غفور رحيم فيما حنثوا فيه بما شرعه لهم من الكفارة للخروج من الحرج، فكان ذلك توسعة على المكلفين للخروج من أيمانهم إلى ما هو الأصلح والأرفق والأفضل، فهذا من سعة رحمة الله على عباده؛ لأن الناس كانوا في الجاهلية يؤلى الرجل من امرأته السنة والسنتين والعشر، أو قد يولي منها إلى الأبد، فيتركها لا هي زوجة ولا هي مطلقة ولا يطالبه أحد بشيء، لتأتي الشريعة بما تحمله من يسر في تشريعاتها فتنقض حكم الجاهلية، وتحد الإيلاء بفترة محددة إما أن يطلق بعدها أو يفيء وعفا الله عما سلف.
وقوله: وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ [سورة البقرة:227] فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر.
كما روى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر -ا- أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإما أن يطلق وإما أن يفيء. وأخرجه البخاري.
هذا الأثر جرى على العمل به جماهير أهل العلم سلفاً وخلفاً، خالف في ذلك أبو حنيفة كما مضى فإنه يقول: إذا مضى على إيلائه أربعة أشهر ولم يراجع امرأته فإنها تبين منه بطلقة بائنة ليس فيها عدة يراجع فيها، وإنما تبين منه بمجرد انتهاء هذه المدة، ويحتجون بهذه الآية على أنه طلاق من أربعة أوجه، ليس هذا موضع سردها، وإنما المقصود الوقوف على الحكم بصورة مختصرة، وأما التوسع في المسألة فمحله كتب الفقه.
قوله سبحانه: سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: سميع لأقوالهم إذا تكلموا بالطلاق، عليم بأحوالهم إذا أصروا وبقوا على إيلاءهم، أو رجعوا إلى زوجاتهم.
وروى ابن جرير عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلاً من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.
ورواه الدارقطني من طريق سهيل، قلت: وهو يروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس أجمعين، وبه يقول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاووس ومحمد بن كعب والقاسم.
التحديد بالأربعة أشهر بناءً على حق الزوجة، وما يلحق بها من ضرر، وهذا التحديد بالمدة المذكورة من لطف الشارع الحكيم، ولهذا بعض أهل العلم قال: إنما جعلت هذه المدة؛ لأنها هي الحد الذي تستطيع أن تصبر المرأة معه، ولذا عمر بن الخطاب لما سمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه | وأرقني ألا حليل ألاعبه |
فو الله لولا الله لا شيء غيره | لحرك من هذا السرير جوانبه |
مخافة ربي والحياء يعفني | وإكرام بعلي أن تنال مراكبه |
والعلماء -رحمهم الله- في مسائل الكفارات لا يذكرون شيئاً يتصل بالإلزام إلا فيما يتصل بحق الغير، فمثلاً رجل ظاهر من امرأته، قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي فيه الكفارة وهي: عتق رقبة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وعلى الراجح من أقوال أهل العلم أنه لا يقربها ليلاً ولا نهاراً، وإن كان النهار بالاتفاق، بل ومنهم من يقول: لا يستمتع بها بأي لون من ألوان الاستمتاع لقوله سبحانه: مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا [سورة المجادلة:3]، فتجلس هذه المدة، فمن أهل العلم من يرى أنه يحبس حتى يكفر؛ لأنه حق يتعلق به الغير، وأما في مسألة الإيلاء فإنه لا يحبس لكن يلزمه القاضي بأمرين:
إما الإطلاق وإما الإيفاء، وينبغي عدم التساهل في هذه الأمور وأخذها بالاعتبار وحكم الشرع.
المطلقة لا تخلو حكمها من إحدى ثلاث:
- إما أن تكون غير حامل فهذه عدتها بنص الآية ثلاثة قروء، والقرء على الراجح من كلام أهل العلم أنه الطهر بين الحيضتين.
- وإما أن تكون حاملاً، والحامل لا تحيض بإطلاق عند كثير من أهل العلم، وعند بعضهم أنها تحيض وهذا نادر، فعدتها كما قال الله : وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4] فهي مخصصة لهذا الآية.
- وأما أن تكون كبيرة وهي التي وصلت إلى سن اليأس فلا تحيض، فهذه عدتها ثلاثة أشهر، ومثلها الصغيرة التي لم تحض بعد كما قال الله : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [سورة الطلاق:4].
وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ جملة اعتراضية، سيقت من أجل رفع اللبس في التي لا تحيض لكبر سنها أو لصغره.
تقصد أن مدة عدتها بالإقراء انتهت فوضعت الماء ونزعت الثياب؛ لأجل أن تغتسل حين انقطع عنها الدم.
لأن الصلاة لا تحل لها إلا إذا اغتسلت بعد ما تنتهي من حيضها، هذا تفسير الرواية.
قال عمر: وأنا أرى ذلك.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس أجمعين، وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاووس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول والضحاك وعطاء الخرساني أنهم قالوا: الأقراء: الحيض.
وهذا هو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله، وعليه كثير من أهل العلم، ويؤيد تفسيرهم للقرء بالحيض الرواية السابقة للمرأة التي وضعت ماء الاغتسال لتغتسل، فهي تدل أن القرء يفسر بالحيض لا بالطهر.
والطلاق على أربعة أوجه:
الأول: طلاق سنة ويقع في صورتين.
الثاني: طلاق بدعة ويقع في صورتين كذلك.
فطلاق السنة إما أن يطلق في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلق وهي حامل.
وطلاق البدعة إما أن يطلق في طهر قد جامعها فيه، أو يطلق وهي حائض أو نفساء، وبعض أهل العلم يرى أن الطلاق البدعي لا يقع لقوله ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[2]، وحديث ابن عمر: مره فليراجعها[3]، والخلاف في تفسير الحديث معروف.
لكن المقصود أننا إذا فسرنا الأقراء بالحيض فمعنى ذلك أنها تنتظر حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم تحيض، فإذا حاضت الثالثة وانقطع دمها فإن ذلك يعني انقضاء العدة، وهذا مما يبعد الاحتمال به؛ لأنه لم يتأت على مقاصد الشرع من احتساب المدة.
وعلى القول بأن المراد من القرء الطهر فتحسب العدة بزمن الأطهار -من أول طهر لم يجامع فيه، وتنتهي العدة بانتهاء الحيضة الثالثة، فإذا رأت الطهر بعد الحيضة اغتسلت وانتهت عدتها بهذا الاعتبار، وتفسير القرء بالطهر هو الذي دل عليه الأثر، وأختاره كثير من أهل العلم.
وأصل القرء: الوقت، ويطلق على الشيء المؤقت مجيئه وإدباره، فهذا يقال له: قرء في أصل كلام العرب، ولفظ القرء من قبيل المشترك اللفظي: وهو اللفظ الواحد الذي يدل على أكثر من معنى، فالقرء بهذا الاعتبار صار يدل على معنيين متناقضين الطهر وغير الطهر، ولا يمكن أن يرتفع عنها الطهر والحيض وما في معناه مثل النفاس، فيقال: لا حائض ولا طاهر، فإذا كان لا يمكن أن يرتفع الوصفان، ولا يمكن أن يجتمع فمعنى ذلك التناقض، فهذا نوع من المشترك، وبالتالي فلا يمكن حمل المراد إلا على أحد المعنيين وهو المعنى الذي رجحه كثير من أهل العلم والمفسرين.
ومن أمثلة المشترك اللفظي قوله سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [سورة التكوير:17]، فعسس كما يقول المفسرون مترددة بين إقبال الليل وإدباره، ولا يمكن إن يجتمعان في وقت واحد، لكن يجوز حمله على المعنيين إذا كان يتأتي في تفسير الآية وهو الراجح، فالمراد بعسعس: أن الله أقسم بالليل في حال إقباله، وفي حال إدباره، وهذا مظهر تتجلى فيه العظمة، وما يدعم هذا أن الله أقسم به في الحالتين في مواضع أخرى كما قال سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:2] أي: سكن وأظلم وأدلهم، وقال: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [سورة المدثر:33]، أقسم به في هذا وفي هذا، فنحمل الآية على المعنيين.
وأما في لفظ القرء فلا يمكن حملها على المعنيين فنقول: يعني الحيض والطهر في وقت واحد؛ لان التناقض كبير وواضح، ويصعب معه الجمع أو التوافق، والعجيب أن يوجد بعض المتأخرين من المفسرين من يقول: لا مانع من حمل الآية على المعنيين، باعتبار أن المشترك يمكن أن يحمل على معنييه. والله أعلم.
المنذر بن المغيرة المدني قال عنه الحافظ بن حجر -رحمه الله- في "التقريب": مقبول، وهذا المصطلح يعني به كما هو معروف من طريقته -رحمه الله- أنه من لم يرو عنه إلا القليل، لكنه لم ينقل عنه ما يوجب رد روايته أو القدح فيه فإن توبع وإلا فهو لين الحديث.
لكن عند التأمل يتضح لنا أن الحديث الذي كان أحد رواته المنذر هو غير الذي أورده ابن كثير –رحمه الله- ولفظه: إذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء[5] فهو لفظ آخر رواه أبو داود والنسائي،
والعلامة/ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- يصححه، ويصحح الحديث الآخر الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وهو من حديث عائشة -ا- من رواية الزهري، وسهيل بن أبي صالح الذي رواه عن الزهري لم يرو هذه اللفظة: دعي الصلاة أيام أقرائك، وهكذا رواه عامة من رووه من الثقات عن الزهري خالفهم أحد الرواة وهو إمام معروف كبير سفيان بن عيينة، فرواه بهذه اللفظة فقالوا: هذه اللفظة غير محفوظة بل هي شاذة.
وجاء من غير حديث عائشة -ا- مرسلاً: دعي الصلاة أيام أقرائك، إلا أن هذا المرسل يعتضد بمثل هذه الرواية عن سفيان بن عيينة وقد يتقوى، ولهذا العلامة الألباني -رحمه الله- يصحح رواية ابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة قالت: "إن أم حبيبة كانت تستحاض، فسألت النبي ﷺ فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها".
وأما أبو داود بعد ما ذكره قال: هذا وهم من ابن عيينة ليس هذا في حديث الحفاظ عن الزهري إلا ذكر سهيل بن صالح، فالمنذر إنما جاء ذكره في الرواية الأخرى، وإذا صححت هذه الرواية فمعنى ذلك صحة احتجاج من يقول: بأن القرء هو الحيض، والمعنى من الحديث أمرها أن تصلي من القرء إلى القرء، أي: من الحيضة إلى الحيضة، وجعلوا المراد من قوله سبحانه: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ أي ثلاثة حيضات.
وكذا احتجوا القائلون بأن القرء هو الحيض من نفس الآية، ووجه احتجاجهم أن المفسرين ذكروا أن الآية قد تحتمل معنيين، فما يمنع حملها على معنى الحيض؟ وقرينة ترجيحه أن العدد في الآية مؤنث ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ، والقرء إذا فسر بالحيضة فهو مؤنث، والصواب في هذه جريها على القاعدة النحوية: أن العدد يخالف المعدود، تقول: ثلاث نسوة، وتقول: ثلاثة رجال، فهنا قال: ثلاثة قروء، ففسروه بالطهر، لأن الطهر مذكر فيحسن تنزيل القاعدة عليه، وبالتالي لا ممسك لهم من الآية.
وكذا احتج القائلون بأن معنى القرء الحيض بحديث عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان[6]، فلو صح هذا الحديث لكان نصاً في الموضوع لكنه ضعيف، بغض النظر عن المدة وكونها للأمة.
ويحتجون بدليل من النظر يقولون: بأن المقصود من العدة استبراء الرحم، ولا يعلم استبراءه إلا إذا خرج الدم وحاضت، حينها يعلم أنه ليس هناك حمل، ويمكن أن يرد قولهم: بأن الحامل قد يحصل منها حيض.
فالحاصل أن المسألة فيها كلام لأهل العلم معروف في محله، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن أكثر المفسرين على القول بأن القرء هو الطهر، وهو مذهب عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري والشافعي، ويحتجون بمثل قول النبي ﷺ لابن عمر: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر فتلك العدة[7] والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم.
- رواه البخاري في كتاب الصوم –باب قول النبي ﷺ: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا برقم (1811) (2/675)، ومسلم في كتاب الصيام –باب الشهر يكون تسعاً وعشرين برقم (1083) (2/763).
- رواه البخاري في كتاب الصلح –باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم (2550) (2/959)، ومسلم في كتاب الأقضية –باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) (3/1343).
- رواه مسلم في كتاب الطلاق –باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها برقم (1471) (2/1093).
- رواه الدارقطني برقم (36) (1/212).
- رواه أبو داود برقم (620) (1/203)، والنسائي برقم (211) (1/121)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (4128).
- رواه أبو داود برقم (2191) (2/223)، ورواه الترمذي برقم (1182) (3/488)، وابن ماجه برقم (2079) (1/672)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2189).
- سبق تخريجه في الحاشية رقم (3).