السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[102] من قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} الآية 232 إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآية 233.
تاريخ النشر: ٢٥ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 3818
مرات الإستماع: 2588

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:232].

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها.

وكذا روى العوفي عنه عن ابن عباس -ا- أيضاً، وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي والزهري والضحاك: إنها أنزلت في ذلك، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بلوغ الأجل في هذه الآية غير بلوغ الأجل في الآية التي قبلها وهي قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [سورة البقرة:231] إذ معنى بلوغ الأجل في قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أي: انقضاء العدة إذا طلقها طلاقاً رجعياً وبانت منه، ثم وجدت الرغبة بين الزوجين في أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه فلا ينبغي عضلهن عن ذلك، وهذا دليل على أن اللفظة الواحدة قد تستعمل في معانٍ متعددة.

وتباينت أقوال المفسرين في المعنيِّ بالخطاب في قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ فقيل: إن المراد إذا طلقتم أيها الأزواج النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن يعني أيها الأولياء، والسياق يدل على هذا المعنى دلالة ظاهرة، وإن اختلف المقصود بالخطاب في أوله وآخره، واختاره عامة أهل العلم بما فيهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري –رحمه الله، وهو الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا ونقله عن جماعة.

ومن أهل العلم من رأى توحيد وجهة الخطاب فحمله على الأولياء في الأول والآخر، والمعنى إذا طلقتم أيها الأولياء النساء فلا تعضلوهن، وعللوا ذلك بقولهم: إنه لما كان الطلاق ناتجاً عن عقد النكاح، ثم بعد ذلك ترتب على هذا التزويج الطلاق، أضيف الطلاق إليهم بهذا الاعتبار، وهذا نوع من التكلف حملهم على اعتباره أنهم أرادوا أن يوحدوا وجهة الخطاب.

وقيل: إن وجهة الخطاب واحدة والمقصود بها الأزواج، والمعنى إذا طلقتم أيها الأزواج النساء فبلغن أجلهن فلا تمنعونهن من التزويج، وذلك على طريقة بعض العظماء، أو بعض من عندهم حمية الجاهلية، فإذا طلق المرأة فإنه لا يمكنها –بسلطانه- مَن ليس له سلطان، وإنما جعلوا الخطاب للزوج الأول وهي قد بانت منه باعتبار ما كان، وكذا أطلقوا على الخاطب الجديد زوجاً باعتبار ما سيكون من النتيجة والعاقبة.

والحقيقة أن سبب النزول بين المقصود من الخطاب في الآية فلذا يرجع إليه، ولقد كان من فوائد سبب النزول أنه يوضح المعنى ويرفع الإشكال على درجات متفاوتة، فطالما هذه الاحتمالات موجودة وإن كانت ضعيفة في نظرنا، إلا أن سبب النزول يجلي المراد، ولا يمنع هذا من تفريق الخطاب؛ لأن السياق يدل على الجميع، وليس في هذا إخلال لا من جهة اللغة ولا من جهة البلاغة.

قوله: إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ الضمير جاء بصيغة الجمع، والمراد الرجل والمرأة إذا اصطلحوا على ما يحصل به التراضي على قدر معين يستحل به الرجل بضع المرآة، ويدخل فيه ما يختص بالمهر وما يتعلق بسواه كالسكنى والمعاملة والحقوق وما أشبه ذلك كما يذكر ابن جرير –رحمه الله- والله أعلم.

وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لابد في تزويجها من ولي.

لأن الخطاب في قوله: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ للأولياء، مما يؤكد على أن المرأة ليس أمرها بيدها، بل لا بد في تزويجها من ولي، وإلا فلا معنى من الإشارة إليه في الآية.

كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية، كما جاء في الحديث: لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها [1].

وفي الأثر الآخر: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل"[2].

أصل الحديث رواه عن النبي ﷺ جماعة من الصحابة كابن عباس وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة -... وغيرهم، وهو حديث ثابت مشهور صح من وجوه متعددة.

وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته -ا، فقد روى البخاري -رحمه الله- في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية، أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل، فنزلت: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ[3] 
وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار به، وصححه الترمذي أيضاً، ولفظه عن معقل بن يسار: أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله ﷺ فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع، أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك، قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء، إلى قوله: ... وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك[4] زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني.

وجاء في بعض الروايات أنها نزلت بسبب جابر بن عبد الله ، وأياً كان سبب النزول فإن الروايات تعاضدت على أن العضل غالباً ما يكون من قبل الأولياء كما نص عليه الجمهور.

وقوله: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي: هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له من كان منكم أيها الناس يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي: يؤمن بشرع الله ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء.
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزوجهن، وترك الحمية في ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم، وَاللّهُ يَعْلَمُ أي: من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه، وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أي: الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون.

إنما كان الخطاب في قوله: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ... للأولياء للدلالة على أن الأولياء في الغالب هم من يقفون حجر عثرة أو حاجزاً حائلاً دون رجوع المرأة إلى زوجها المطلقة منه طلاقاً بائناً، وغالباً ما يصحب هذا الطلاق تكدر الأجواء بين أهل المرأة وأهل الرجل، خاصة أن المرأة تُظهر بعد طلاقها كل ما أخفته وما لم يطلع عليه وليها من معاملات زوجها ومواقفه معها طيلة فترة التصاقه بها، يدفعها لذلك صدمة الطلاق، أو كون الأمور قد بلغت مداها، مما يزيد الشحناء في القلوب، ويبعث على البغضاء، ويذكي نار الغل في النفوس فتسكنها النفرة والامتعاض، ويجعل الولي يصر على الحيلولة بينه وبين رجوعه إليها. 

وهذا يخالف المقصد الشرعي في استدامة الحياة بينهما؛ لأن الرجل قد يرجع إلى صوابه، وكذا المرأة تعود إلى رشدها بعدما تنتهي ثورة الغضب في النفوس فيفكرا بعودة الحياة بينهما لا سيما إذا كان لهما ذرية وأولاد، فإذا وقف الأولياء موقفاً مضاداً خالفوا أمر الشارع في ذلك؛ لأنه قال: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

ثم أشار الله إلى الحكمة من رد الموليات إلى أزواجهن وتذليل الأولياء العقبات في حال ما إذا قررا أن يجددا العشرة بينهما فقال : ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ، ولقد أشار ابن جرير إلى هذه اللفتة الرائعة بقوله: يعني -تعالى ذكره- بقوله: ذَلِكُمْ أي: نكاحهن أزواجهن، ومراجعة أزواجهن إياهن بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد أَزْكَى لَكُمْ أيها الأولياء والأزواج والزوجات...، ثم قال: ويعني بقوله: أَزْكَى لَكُمْ أي: أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن.

وأما قوله: وَأَطْهَرُ فإنه يعني بذلك: أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة؛ وذلك أنه إذا كان في نفس كل واحد منهما -أعني الزوج والمرأة- علاقة حب لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما..

فأمر الله -تعالى ذكره- الأولياء إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة بنكاح مستأنف في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك وأن يزوجها؛ لأن ذلك أفضل لجميعهم، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة.

ثم أخبر -تعالى ذكره- عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضهم من بعض، ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع: إنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك؛ لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة، فقال لهم -تعالى ذكره: افعلوا ما أمرتكم به إن كنتم تؤمنون بي وبثوابي وبعقابي في معادكم في الآخرة، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة، وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل" فهذا ملحظ جيد ذكره ابن جرير -رحمه الله.

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:233].

هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك.

الخطاب في الآية جاء بصيغة خبرية مضمنة معنى الأمر، فهو أمر بصيغة الخبر وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ، ومن أهل العلم من يرى أن الخطاب في الآية خبر محض، وهذا القول فيه نظر.

والآية خاصة بالمطلقات فقط كما قال به جماعة من المفسرين والفقهاء، واختار هذا القول ابن جرير الطبري –رحمه الله، وقالوا: إن المرأة تعطى أجرة مقابل الرضاع يعطيها الزوج أو وارث الزوج في حال وفاته، أو يؤخذ من تركة الصبي، فإن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر.

ولهذا قال: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ فلا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين.

ظاهر الآية واضح في تحديد أمد الرضاع إلى الحولين لمن أراد أن يتم الرضاع ويجوز فطامه قبل ذلك، وبعض أهل العلم يرى أن المراد بيان الرضاع التام لمن أراد أن يكمله، وإلا فإن الرضاع قد يحصل بعد ذلك وهذا فيه نظر؛ لأن الرضاعة المؤثرة التي يكون بها نبات العظم واللحم تنتهي في الحولين.

ومن أهل العلم من قال: إن الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15] فلا يبقى إذا حذفنا مدة الرضاع –حولين- إلا ستة أشهر للحمل، فلو كان الحمل تسعة أشهر فلا يبقى للرضاع من الثلاثين شهراً إلا واحداً وعشرين شهراً، وهذا يعني أنه رضع أقل من أربع وعشرين شهراً، ولهذا بعض أهل العلم ذكر أن هذا يتفاوت بحسب مدة الحمل، فإذا كان الحمل ستة أشهر فالرضاع يكون في سنتين، وإذا كان الحمل في تسعة أشهر فينقص من الثلاثين قدراً؛ لأن الله ذكر المجموع بالثلاثين ولكن هذا فيه نظر. 

والصواب: أن الرضاع يكون في عامين لقوله سبحانه: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [سورة لقمان:14]، وأما تحديد الثلاثين شهراً للحمل والرضاع في الآية فالمراد به التنويه على أدنى مدة الحمل، والعلم عند الله .

وهذه المسألة يترتب عليها أحكام، إذا رضع بعد الحولين هل يؤثر فيه أو ما يؤثر؟ لكن ما ذكره أهل العلم في هذا أن الرضاع بعد الحولين يضر الولد في عقله وبدنه.

وأما مسألة رضاع الكبير في قصة رضاعة سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو كبير، عندما تبناه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كما تبنى رسول الله ﷺ زيد بن حارثة، وأنكح أبو حذيفة سالماً -وهو يرى أنه ابنه- أنكحه بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهي يومئذ من المهاجرات الأول، ومن أفضل أيامى قريش. 

فلما أنزل الله تعالى في زيد بن حارثة ما أنزل فقال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [سورة الأحزاب:5] رُد كل واحد من أولئك إلى أبيه، فمن لم يُعلم له أب رد إلى مولاه، فجاءت سهلة بنت سهيل –ا- امرأة أبي حذيفة من بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله ﷺ، إنا كنا نرى سالماً ولداً، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فُضْلاً وقد أنزل فيه ما علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها رسول الله ﷺ: أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة، فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة[5]

وقد ذهب عامة علماء المسلمين من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة إلى أن رضاع الكبير وهو من تجاوز السنتين -سن الرضاع- لا أثر له في ثبوت المحرمية، وحملوا هذا الحديث على الخصوصية، أو أنه قد نسخ حكمه بما ثبت من أدلة أخرى.

وأما عائشة -ا- وقد وافقها بعض السلف- فكانت ترى بأن رضاع الكبير يؤثر في المحرمية أخذاً من هذا الحديث، ولهذا كانت تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أمهات المؤمنين أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي ﷺ لسالم دون الناس.

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- توسط في هذه المسألة، فهو يرى أن رضاع الكبير يجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم للحاجة، وتعقب ذلك بقوله: وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا الكلام فيه نظر، والله أعلم بالصواب.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه ابن ماجه برقم (1882) (1/606)، وصحح الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير هذا الحديث دون قوله: فإن الزانية هي التي تزوج نفسها فحكم بضعفها برقم (13254).
  2. رواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن عباس برقم (13428).
  3. رواه البخاري في كتاب التفسير –باب تفسير سورة البقرة برقم (4255) (4/1645).
  4. رواه الترمذي برقم (2981) (5/216)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2981).
  5. رواه البخاري في كتاب النكاح – باب الأكفاء في الدين برقم (4800) (5/1957)، ورواه مسلم بلفظ مقارب في كتاب الرضاع – باب رضاعة الكبير برقم (1453) (2/1076).

مواد ذات صلة