الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الآية:12
تاريخ النشر: ٠٢ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 3635
مرات الإستماع: 3788

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة الواقعة وهي مكية.

قال أبو إسحاق عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبتَ؟ قال: "شيَّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت"[1]، رواه الترمذي وقال: حسن غريب.

وروى الإمام أحمد عن جابر بن سَمُرَة قال: "كان رسول الله ﷺ يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر "الواقعة" ونحوها من السور"[2].

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ۝ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ۝ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ۝ إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ۝ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ۝ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ۝ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ۝ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ۝ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ۝ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۝ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۝ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [سورة الواقعة:1-12].

الواقعة: من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها، كما قال: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [سورة الحاقة:15]، وقوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ أي: ليس لوقوعها -إذا أراد الله كونها- صارف يصرفها، ولا دافع يدفعها، كما قال: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [سورة الشورى:47]، وقال: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ۝ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [سورة المعارج:1، 2]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سورة الأنعام:73].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "الواقعة من أسماء يوم القيامة"، كالطامة والصاخة والآزفة وما أشبه ذلك من الأسماء، يقول: "سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها"، لتحقق كونها قيل لها: واقعة، فهي ستقع لكنها واقعة لا محالة إن صح بهذا الاعتبار هذا الإطلاق، والمراد بالواقعة هنا القيامة، هل المقصود بها النفخة الأولى التي يصعق بها جميع الخلائق فيموتون، أو المقصود بها النفخة الثانية؟

يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن المراد النفخ في الصور للمرة الثانية، ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ۝ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ۝ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ۝ وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ۝ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ۝ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [سورة الحاقة:13-18].

هذا يكون بعد النفخة الثانية وليس النفخة الأولى، والله تعالى أعلم.

ومعنى كَاذِبَة -كما قال محمد بن كعب: لا بد أن تكون، وقال قتادة: ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة.

قال ابن جرير: والكاذبة: مصدر كالعاقبة والعافية.

ما ذكره هنا من الأقوال "لا بد أن تكون، ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة"، وقول ابن جرير: "والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية" كل هذا يرجع إلى معنى واحد، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ أي: إن وقوعها لا يتخلف، وقوعها متحقق، فالشيء الذي يحصل ولا يتخلف، يقال فيه ذلك، فهو وقوع مؤكد محقق ليس فيه مثنوية ولا تردد لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ، واقعة لا محالة لابد أن تقع.

وقول ابن جرير: والكاذبة مصدر بمعنى الكذب، يعني لا تخلف في وقوعها، يقول: "والكاذبة: مصدر كالعاقبة والعافية"، العاقبة بمعنى العقبى، والعافية بمعنى المعافاة كما أن الكاذبة بمعنى الكذب.

ويمكن أن يقرب المعنى هنا بتفسير ذلك بما يشبهه وإن كان في معنى آخر وذلك قوله -تبارك وتعالى: لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً [سورة الغاشية:11] فاللاغية هنا أيضاً كما يقال هنا الكاذبة مصدر فاللاغية أيضاً مصدر بمعنى لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [سورة النبأ:35]، لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً، كقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا [سورة الواقعة:25].

والمعنى الأول هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله: لا تخلف لوقوعها، وقوع متحقق لا محالة يقيناً، وهذا دل عليه قوله -تبارك وتعالى- هنا ذَكرَ بعض الآيات: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [سورة الشورى:47] لابد أن يقع، لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [سورة المعارج:2]، وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [سورة الأنعام:73]، وأشباه ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة النساء:87]، وكقوله: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا [سورة غافر:59] فهذا معنى.

والمعنى الآخر ليس في وقعة الواقعة نفس كاذبة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ أي: مكذبة بمعنى إذا وقعت القيامة وقامت الساعة فعندئذ يعترف الناس بها، ويقرون باليوم الآخر ولا ينازعون فيه كما كانوا ينازعون في الدنيا، ويكذبون ويقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [سورة المؤمنون:82]، أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سورة الرعد:5]، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [سورة ق:3] ففي الآخرة إذا قامت القيامة صدقوا واعترفوا وأقروا وأذعنوا لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ أي نفس كاذبة، عندئذ يصدق الناس جميعاً ويعترفون بذلك اليوم الذي كانوا يكذبون به، كما قال الله : لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [سورة الشعراء:201]، وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [سورة الحج:55] فهذا معنى.

وقيل غير ذلك لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ فمن أهل العلم من يقول: لا ينبغي أن يكذب بها أحد، يعني هي أمر حكم الله به وأخبر عن وقوعه فليس لأحد أن يكذب فيه، وهذه المعاني على هذا التدريج، يعني الأقرب هو المعنى الأول، ثم يليه الثاني والثالث أبعدها، والله تعالى أعلم.

وقوله هنا: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ "إذا" هذه ظرف مضمن معنى الشرط فقوله: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ هل جوابه لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ؟ يعني: إذا وقعت صدق الناس بها وأقروا ولا يكذبون وينازعون فيها أحداً؟

أو إذا وقعت الواقعة فإن وقوعها متحقق، أو يقال: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ إذا قامت الساعة وحصل ما حصل مما أخبر الله به من انشقاق السماء وانكدار النجوم وما شابه ذلك من الأهوال والأوجال ظهر عندئذ منزلة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة كما قال الله : إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ۝ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ۝ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ۝ إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ۝ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ۝ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ۝ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ۝ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فعندئذ يكون أصحاب الميمنة بحال من النعيم، وأصحاب المشأمة في حال من الشقاء وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فإذا قامت القيامة قامت الساعة وقعت الواقعة انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام.

وقوله: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ أي: تحفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزّاء، وترفع آخرين إلى أعلى عليّين إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وُضعاء، وهكذا قال الحسن وقتادة، وغيرهما.

خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- "تخفض أقواماً إلى أسفل سافلين" يعني: في الآخرة، كقوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145] وإن كانوا في الدنيا أعزاء إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ۝ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ۝ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ [سورة المطففين:29-31]، إلى أن قال: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [سورة المطففين:34].

ويقول: "وإن كانوا في الدنيا أعزاء، وترفع آخرين إلى أعلى عليين، إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وُضعاء"، فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [سورة طه:75] يقول: "هكذا قال الحسن" وغيره، وقال العوفي عن ابن عباس خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ أسمعت القريب والبعيد، وقال عكرمة: خفضت فأسمعت الأدنى ورفعت فأسمعت الأقصى، وكذا قال الضحاك وقتادة.

وهكذا قول من قال: خافضة لبعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم، فإنها تنكدر وتنتثر، والجبال تسير وتكون هباءً منبثاً، والأرض التي هي سافلة منهبطة تكون بارزة، كما قال الله : وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47]، فالآية تحتمل هذه المعاني خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ، تخفض أقواماً وترفع آخرين، تخفض بعض الأجرام وتهبط بأخرى، والله لم يحدد شيئاً، وهذا كله يقع في يوم القيامة.

وقوله تعالى: إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا أي: حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها، ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في قوله: إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا أي: زلزلت زلزالا شديدا.

وقال الربيع بن أنس: ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه.

وهذا كقوله تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا [سورة الزلزلة:1].

الرج هو التحريك بقوة وشدة كما صور هنا في بعض هذه الأقوال، كما "يرج ما في الغربال"، والغربال هو المنخل الذي يوضع فيه الحب من أجل تصفيته، فهو يرج؛ ليتصفى إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا حركت تحريكاً شديداً.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [سورة الحج:1].

وقوله: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا أي: فُتِّتَتْ فَتًّا، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وغيرهم.

هذا هو المعنى المتبادر المشهور الذي عبر به أكثر المفسرين وَبُسَّتِ أي: فتت، ومنه البسيسة تُفتت بمعنى البسيسة عبارة عن دقيق ملتوت بسمن ونحوه يفتت فهو ليس كتلة جامدة صلبة، وإنما مفتت فيه لين وَبُسَّتِ الْجِبَالُ هذه الصلبة القاسية فتصير بهذه المثابة، كما قال الله : كَثِيبًا مَّهِيلًا [سورة المزمل:14] يعني: رملاً متهايلاً، الرمل المتهايل إذا حركت طرفاً منه تداعى باقيه، هذا الرمل المتهايل الكثيب تحرك طرفاً منه يتهايل الباقي، وأخبر الله تعالى أنها تكون كالعهن المنفوش، يعني: الصوف المنفوش الذي يتطاير.

والله أخبر عن الجبال بأمور متعددة في مواضع من القرآن، فالجبال تقلع من أماكنها، وتتفتت حتى تصير هباءً منبثاً، وتسير بين السماء والأرض، وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ [سورة النبأ:20]، فلا يبقى لها أثر حتى تصير كالسراب الذي لا حقيقة له، وإنما يتراءى للناظر فحسب، وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا.

وقوله هنا: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ هذا المعنى الذي ذكره الحافظ -رحمه الله- هو الأشهر، ويحتمل أن يكون ذلك بمعنى التسيير، ويكون مفسراً بقوله: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فالعرب تعبر بالبس عن التسيير، تقول: بسستُ الإبل، بمعنى سقتُها وسيّرتُها، وهذا المعنى يحتمل، ويمكن أن يفسر البس بالتسيير، ويمكن أن يفسر بالتفتت، وهذا كله من الأشياء التي تحصل وتتحقق في يوم القيامة بالنسبة للجبال، فقوله: كَثِيبًا مَّهِيلًا يدل على هذا المعنى وكَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [سورة القارعة:5] يدل على التفتيت، وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ هذا يدل على المعنى الآخر.

وقوله تعالى: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا، قال أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي : هَبَاءً مُنْبَثًّا كرهَج الغبار يسطع ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء.

وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس في قوله: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا الهباء الذي يطير من النار، إذا اضطرمت يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا.

وقال عكرمة: المنبث: الذي ذرته الريح وبثته، وقال قتادة: هَبَاءً مُنْبَثًّا كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح.

هذه المعاني متقاربة فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا الشيء الصغير الخفيف الذي يتطاير يقال له: الهباء، المنبث يعني: المنتشر، هذا الذي يدخل من الكوّة إذا وقعت الشمس على الأرض فتجد شيئاً يتطاير في غاية الدقة، يقال له: هباء، فتفتت هذه الجبال ذات الكتلة الصلبة حتى تصير بهذه المثابة هَبَاءً مُنْبَثًّا فهذا يقال له: هباء، وهكذا العرب تقول لما يتطاير فيتصف بالخفة: هباء، كالذي يتطاير من النار، وكرهج الغبار المتطاير.

وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها ونسفها -أي قلعها- وصيرورتها كالعهن المنفوش.

وقوله: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً أي: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين.

وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً الأزواج بمعنى الأنواع أو الأصناف، فالصنف يقال له: زوج، وهذه الأصناف هي المذكورة في آخر السورة في قوله: فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ۝ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ۝ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [سورة الواقعة:88-91] إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى.

وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: "ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف قوم عن يمين العرش" يعني: أصحاب الميمنة، وقيل لهم أصحاب الميمنة؛ لأنهم عن يمين العرش، ولأنهم خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين، فهي أربعة أشياء.

ومن السلف من قال: لأنهم يكونون عن يمين العرش، ومنهم من قال: لأنه يؤخذ بهم ذات اليمين، ومن قائل: لأنهم خرجوا من شق آدم الأيمن، ومنهم من قال: إنهم يؤتون كتابهم بأيمانهم، فجمعها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جميعاً؛ لأنه ليس عندنا ما يحدد واحداً منها، فكل هؤلاء أصحاب ميمنة، فمن يأخذ كتابه بيمينه من أصحاب الميمنة، ومن يؤخذ بهم ذات اليمين من أصحاب الميمنة، وعن يمين العرش من أصحاب الميمنة، وهكذا.

قال السُّدِّيّ: وهم جمهور أهل الجنة.

يعني: أكثر أهل الجنة من أصحاب اليمين، فالدليل على أنهم أكثر أهل الجنة قوله: وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ [سورة الواقعة:40]، وقال في السابقين ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ [سورة الواقعة:13، 14]، فهؤلاء أكثر أهل الجنة بينما في السابقين: قليل من الآخرين، فأكثر أهل الجنة من أصحاب اليمين، وليسوا من السابقين.

وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار -عياذًا بالله من صنيعهم.

ذكر المعاني الأربعة في أصحاب الشمال، ومن أهل العلم من يقول: العرب تعبر باليمين والشمال عن الرفيع والوضيع، فالمعاني التي ذكرها هنا أقرب، والله أعلم.

من أهل العلم من يقول: العرب تعبر باليمين والشمال عن الرفيع والوضيع، فالمعاني التي ذكرها هنا أقرب، والله أعلم.

وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين؛ ولهذا قال: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ۝ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ۝ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ.

يعني: هذا الاستفهام فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ يراد به التعجب، والتعظيم أيضاً والتفخيم الْحَاقَّةُ ۝ مَا الْحَاقَّةُ [سورة الحاقة:1، 2] فمثل هذا الذي يذكر مبهماً هكذا يكون أوقع في النفس وأفخم سواءً كان في مقام الوعيد أو كان في مقام الترغيب أو كان في مقام المدح والثناء، ويترك للسامع أن يتصور ما تحته من معانٍ، فيسرح الذهن في تصور ذلك، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ بعض الناس يقول مثلاً: أنا الذي تعرفني، ما يحتاج أن يشرح، ولا يفصل كقول الشاعر: "وشِعري شِعري" يعني: شعري شعري الذي تعرفونه، يقول: "قلمي قلمي"، يقول: إذا كتبت عرفتم كتابتي، يعني فقلمي الذي تعرفون فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ.

وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ الآية [سورة فاطر:32].

مع وجود فارق فإن أصحاب المشأمة أَصْحَابُ الشِّمَالِ [سورة الواقعة:41] هؤلاء هم الكفار الذين يؤتون كتابهم بشمالهم، وفي هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ هي في طوائف هذه الأمة، يعني أمة الإجابة؛ لأنه قال بعدها: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [سورة فاطر:33]، فالجمع بهذه "الواو" يدل على أن الطوائف الثلاث تدخل الجنة، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ولهذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه "الواو" أن تكتب بماء العينين؛ لأنها جمعت طوائف الأمة الثلاث، كلهم يدخلون الجنة.

وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَهم الأنبياء -عليهم السلام، وقال السُّدِّيّ: هم أهل عليين.

هذا من قبيل التفسير بالمثال، وقد لا يريد قائله الحصر، وإنما أراد أن يمثل من هم السابقون، فقال: الأنبياء، الرسل، الصديقون، فيقرب المعنى بذلك وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، يقال فيه كما سبق، يعني السابقون هم الذين اشتهرت حالهم بهذا وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ لا يحتاج إلى أن يفصل ويصف، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ لا تسأل عن حالهم ومعينهم، السابق هو السابق، تقول: المجتهد هو المجتهد وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، ويحتمل: السابقون إلى الإيمان والعمل الصالح هم السابقون إلى الجنة.

المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أُمروا، كما قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ [سورة آل عمران:133]، وقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ [سورة الحديد:22]، فمن سابقَ في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ ولهذا قال تعالى: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۝ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

السَّابِقُونَ هم الذين يبادرون بفعل الخير، يفعلون الواجبات والمستحبات، ويتركون المحرمات والمشتبهات والمكروهات، ومن كان يبادر ويفعل النوافل، ولكنه يعصي الله ويتبع هواه فإن هذا لا يكون من السابقين، والله تعالى أعلم.

  1. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الواقعة، برقم (3297)، والحاكم في المستدرك، برقم (3314)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (955).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (20995)، وقال محققوه: صحيح لغيره، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (5067).

مواد ذات صلة