بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وقوله: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [سورة الواقعة:32، 33]، أي: وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [سورة البقرة:25] أي: يشبه الشكلُ الشكلَ، ولكن الطعم غير الطعم، وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى قال: فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر[1].
وفيهما أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خُسِفَت الشمس، فصلى رسولُ الله ﷺ والناس معه، فذكر الصلاة، وفيه قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت، قال: إني رأيت الجنة، فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا[2].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ يعني: أنها لا تنفد ولا تكون في وقت دون وقت كما هي الفاكهة في الدنيا، تكون في الشتاء أو في الصيف، وَلَا مَمْنُوعَةٍ ليست بعيدة عن متناولهم، وليس بينهم وبينها ما يحول دونها من شوك أو أذى أو منع أو حجز وحجر عليها كما هو الحال في بساتين الدنيا مثلاً، وإنما هي متاحة لهم في كل حين، فقولهم: "مقطوعة وممنوعة" يشمل جميع المعاني التي ذكرها السلف، وذكروا ما ذكروا من باب التقريب والتمثيل -والله تعالى أعلم.
وقوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًاقال المفسر -رحمه الله- هنا: أي: يشبه الشكلُ الشكلَ، وفيه معنى آخر وهو أنها تشبه ثمار الدنيا في الصورة، ولكنها تختلف في الطعم، يعني القول الأول أن ما جاءهم من الثمار يشبه ما جاءهم قبله في الجنة، كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ يعني في الجنة فثمار الجنة تتشابه في أشكالها، وتختلف في طعومها، والمعنى الآخرمِنْ قَبْلُ أي: في الدنيا، والله أعلم.
هذا الحديث فيه ضعف، ولكن ضعفه غير شديد، وهو محتمل للتحسين.
وقوله تعالى: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي: لا تنقطع شتاء ولا صيفًا، بل أكلها دائم مستمر أبدًا، مهما طلبوا وجدوا، لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء.
قال قتادة: لا يمنعهم من تناولها عودٌ ولا شوكٌ ولا بُعدٌ، وقد تقدم في الحديث: إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أخرى[4].
وقوله: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي: عالية وطيئة ناعمة.
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ عالية وطيئة ناعمة، ويحتمل أن يكون المراد بكونها مرفوعة أنه رُفع بعضها فوق بعض، وهذا يدل على أنها ناعمة وطيئة، ويحتمل أنها مرفوعة على الأسرّة وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ هذا كله إذا فسرت الفرش على ظاهرها، أن الفرش هي الفرش، مَرْفُوعَةٍ قد رفع بعضها على بعض، أو رفعت على الأسرّة وقد يكون ذلك الارتفاع بمعنى آخر، يكون معنوياً وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي: مرفوعة القدر والمنزلة، ويحتمل تفسير الفرش بمعنى آخر وهو النساء، فالعرب تكني عن النساء بمثل هذا، كناية عن المرأة بالفراش، ويكنون عنها بالإزار في البيعة التي بايع فيها النبي ﷺ الأنصار، وكان من ذلك أن يمنعوه مما يمنعون منه أَُزُرهم.
فـ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إذا فسر بالنساء يحتمل أن يكون الارتفاع حسياً أي على الأرائك، ويحتمل أن يكون معنوياً مرفوعة أي في القدر والمنزلة، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ والقرينة التي تدل على أن المراد بالفرش النساء، أنه قال بعده: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً يعني النساء، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [سورة الواقعة:36] فقالوا هذا يرجع إلى الفرش، فالمقصود به النساء، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وتحتمله الآية احتمالاً قريباً، وقد يكون بين المعنيين ملازمة فهؤلاء النساء فرش مرفوعة فيها النساء، ثم قال: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ يعني يكون إشارة بالفرش إلى النساء، وإن كانت الفرش معناها معروف المعنى المتبادر جمع فراش، وأنه على ظاهره فتكون مشيرة إلى النساء؛ لأنه قال بعده: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، والله تعالى أعلم.
يعني هنا جرى الضمير على غير مذكور باعتبار تفسير الفرش بالفرش المعروفة، وليست النساء، فيكون جرى الضمير على غير مذكور؛ لأنه مفهوم من السياق، فالسياق قرينة تدل عليه، مفهوم من السياق، وإذا كان المعنى مفهوماً من السياق فإن العرب تكتفي بذلك، فتعيد الضمير إلى غير المذكور، وإذا قلنا: إن الفرش بمعنى النساء فيكون الضمير عائداً إلى مذكور، وفرش أي النساء، مرفوعة أي مرفوعات القدر والمنزلة والحسن والكمال، إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ أي: المذكورات المكنى عنهن بالفرش.
باعتبار أن الضمير يكون عائداً إلى غير مذكور حَتَّى تَوَارَتْيعني: الشمس، ولكن على التفسير الآخر أن التي توارت هي الخيل -انطلقت حتى غابت عن نظره؛ لبعدها، حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ- فيكون الضمير عائداً إلى مذكور، وفي القرآن أمثلة متعددة في عود الضمير إلى غير مذكور؛ لأنه مفهوم من السياق.
وقال الأخفش في قوله: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً أضمرهن ولم يذكرهن قبل ذلك.
وقال أبو عبيدة: ذُكرن في قوله: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [سورة الواقعة:22، 23].
يعني أن الضمير عائد إلى الحور العين وليس الفرش، و لعل ما قيل قبله أقرب -والله تعالى أعلم.
قوله: كُنَّ عجائز رُمْصًا، الرَّمَص هو في موق العين يجتمع، أذى، وسخ، ويكون جامداً، فإذا سال فهو-بالغين- الغَمَص.
قوله: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً يحتمل معنيين: يحتمل أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً يعني أعدنا إنشاءهن يعني في نساء الدنيا، بحيث تعاد شابة فتية في غاية الحسن والجمال بعد أن كان ذهب حسنها وجمالها لتقادم الزمان، وتكون في غاية الحسن والجمال والملاحة، وتعود بكراً متحببة إلى زوجها بعد أن سئمت وملت لربما من الحياة فتعود بهذه الصفة.
ويحتمل أن يكون المعنى إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً أي: خلقنا خلقاً جديداً من غير توالد، خلقاً جديداً في الجنة غير نساء الدنيا، والقائل بهذا استدل عليه بأنه أكد بالمصدر إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً يعني إنشاءً جديداً فليس المراد بذلك نساء بني آدم، ويمكن أن يحتج للقول الذي قبله أيضاً إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً أي: نساء الدنيا بالحديث الذي جاء بروايات متعددة.
عن عائشة -رضي الله عنها- أن نبي الله ﷺ أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة فقال نبي الله: إن الجنة لا يدخلها عجوز، فذهب نبي الله ﷺ فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة: لقد لقيتْ من كلمتك مشقة وشدة، فقال نبي الله ﷺ: إنّ ذلك كذلك، إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا[5].
فهذا قاله في نساء الدنيا، فيحتمل أن تكون الآية راجعة إلى الحور، والذي يجعلها في نساءٍ خُلقن خلقاً جديداً في الجنة يعني لسن من نساء الدنيا التأكيد بالمصدر إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاءً، وذكر الإنشاء فهو ابتداء مبتدأ هذا الخلق، وكذلك الله لما ذكر ما للسابقين المقربين ذكر الحور العين، والحور لسن من نساء الدنيا، ففي نعيم أهل اليمين -أصحاب اليمين- ذكر النساء، وقال: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فقد يفهم من هذا أن هؤلاء لسن من نساء الدنيا كما ذكر الحور العين للسابقين، فالكلام في نساء أُنشئن وخلقن في الجنة.
ويمكن أن تحمل الآية -والله تعالى أعلم- على هذا وهذا، فإن الحور العين قد أُنشئن إنشاءً جديداً بلا شك، والنساء اللاتي في الدنيا يعاد إنشاؤهن من جديد فتعود شابة بكراً بالصفة التي ذكرها الله : فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا، ويستدل له بالحديث أن النبي ﷺ ذكر الآية فتكون الآية دالة على ذلك جميعاً، على ما يوجد فيها من النساء اللاتي خُلقن خلقاً جديداً، وعلى اللاتي أعيدت صياغة خلقهن من جديد، والله تعالى أعلم.
روى أبو داود الطيالسي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء، قلت: يا رسول الله، ويطيق ذلك؟ قال: يعطى قوة مائة[6]، رواه الترمذي وقال: صحيح غريب.
وروى أبو القاسم الطبراني عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال: إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء[7].
قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح، والله أعلم.
وقوله: عُرُبًا قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يعني متحببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة؟ هي كذلك.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: العُرُب: العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون، وكذا قالعبد الله بن سَرْجس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن أبي كثير، وعطية، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهم.
يقول: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا عُرُبًا قال: أي متحببات إلى أزواجهن وكذلك قول من قال: "العواشق لأزواجهن" ونحو ذلك من العبارات التي قالها السلف فكل ذلك داخل في معناه فـ (العُرُب) جمع عَروب بفتح العين يقول لبيد بن ربيعة:
وفي الخباءِ عَروبٌ غير فاحشةٍ | رَيّا الروادفِ يعشي دونها البصرُ |
هذا يصف امرأة من الدنيا! ليس في الجنة، فالعروب هي المتحببة إلى زوجها، والعبارات التي قيلت في تفسير ذلك كلها داخلة في هذا المعنى، عبارات المفسرين مما ذكره البخاري -رحمه الله، وما نقله في الصحيح كلها داخلة فيه عواشق لأزواجهن متحببات لأزواجهن، غنيجات والغنج هو الكلام الذي في غاية الرخاوة، يستهوي قلب السامع مما تقوله لزوجها، وهكذا ما يقال: امرأة شكلة، كما يعبر فيه، وهكذا عبارة من عبر يقول: غلِمة يعني اشتدت شهوتها.
وهذا المعنى الذي نقله هنا ابن عباس قال: يعني متحببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة؟ هي كذلك، ومعنى الناقة الضبعة: هي التي اشتدت شهوتها للفحل فأرادته، ومعروف حال هذه البهائم حينما يأتي وقت اللقاح بينها في مواسم لا يخفى حالها.
فهذه العبارات كلها يعني كما قال البخاري -رحمه الله: "أهل مكة يسمونها العربة، وأهل المدينة الغنيجة أو الغنِجة وأهل العراق الشكلة"، فكل هذه المعاني داخلة في معنى العَروب، والعروب هي المرأة المتحببة إلى زوجها التي تقول سواءً كان ذلك في سائر أحوالها معه أو كان في حال المعاشرة، وهذا هو كمال اللذة؛ لأن نصف اللذة يكون بالسماع ما يسمعه الإنسان، ويوجد من كلام العرب ومن كلام بعض الصحابة في هذا ما لا قد يناسب ذكره بهذا المجلس مما يدل على هذا المعنى أن الكلام نصف اللذة.
وقوله: أَتْرَابًا قال الضحاك، عن ابن عباس يعني: في سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد: الأتراب: المستويات. وفي رواية عنه: الأمثال، وقال عطية: الأقران.
كل هذا بمعنى واحد، أمثال متماثلات مستويات في السن على سن واحدة هذا من اختلاف العبارة، والمعنى واحد عُرُبًا أَتْرَابًا، لكن من أهل العلم من قال: إن ذلك يرجع إليهن فهن في سن واحدة، ومنهم من قال: أَتْرَابًا لهم، وهم متقاربون في السن عُرُبًا أَتْرَابًا.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المقصود: هؤلاء النساء في سن متماثل، ومن أهل العلم من فسر أَتْرَابًا بالتقارب أيضاً؛ لأنها تدل على معنى التقارب، تقول: فلان ترب فلان يعني أنه ولد معه في يوم واحد، "فلان من أترابي"، ومن أهل العلم من فسره بالتقارب في الحسن والجمال والأخلاق والغنج والتحبب للزوج وما أشبه ذلك.
قلت: ويحتمل أن يكون قوله: لأصْحَابِ الْيَمِينِ متعلقًا بما قبله، وهو قوله: أَتْرَابًا لأصْحَابِ الْيَمِينِ أي: في أسنانهم، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوءِ أشد كوكب دُرّيّ في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوّة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خَلْق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء[8].
وقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ أي: جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: وكان بعضهم يأخذ عن بعض- قال: أَكْرَينا ذات ليلة عند رسول الله ﷺ ثم غدونا عليه، فقال: عُرضت عليَّ الأنبياء وأتباعها بأممها، فيمر علي النبي، والنبي في العصابة، والنبي في الثلاثة، والنبي ليس معه أحد -وتلا قتادة هذه الآية: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [سورة هود:78]- قال: حتى مرَّ عليَّ موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل، قال: قلتُ: ربي من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه من بني إسرائيل"، قال: قلت: رب فأين أمتي؟ قال: انظر عن يمينك في الظراب، قال: فإذا وجوه الرجال، قال: قال: أرضيت؟، قال: قلت: قد رضيت، رب، قال: انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال، قال: أرضيت؟ قلت: رضيت، رب، قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفا، يدخلون الجنة بغير حساب، قال: وأنشأ عُكاشة بن مُحْصَن من بني أسد -قال سعيد: وكان بَدْريًّا- قال: يا نبي الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: فقال: اللهم اجعله منهم، قال: أنشأ رجل آخر، قال: يا نبي الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة، قال: فقال رسول الله ﷺ: فإن استطعتم -فداكم أبي وأمي- أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا وإلا فكونوا من أصحاب الظراب، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق، فإني قد رأيت ناسًا كثيرًا قد تأشَّبوا حوله، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، قال: فكبرنا، قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، قال: فكبرنا، ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ قال: فقلنا بيننا: من هؤلاء السبعون ألفا؟ فقلنا: هم الذين ولدوا في الإسلام، ولم يشركوا، قال: فبلغه ذلك، فقال: بل هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون[9].
وهذا الحديث له طرق كثيرة في الصحاح وغيرها.
قوله: "أَكرَينا" بمعنى أطلنا المكث عند رسول الله ﷺ، وهذه اللفظة من الأضداد تأتي بمعنى أطلنا المكث، وتأتي بمعنى التقليل.
والظراب في قوله: انظر عن يمينك في الظراب قال: فإذا وجوه الرجال تطلق على الجبال الصغيرة، فإذا وجوه الرجال أي بادية، يعني رأى أمته -عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.
قوله: تأشَّبوا حوله يعني اجتمعوا وطافوا به.
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [سورة الواقعة:41-56].
لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين، عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال، فقال: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ أي: أي شيء هم فيه أصحاب الشمال؟ ثم فَسَّر ذلك فقال: فِي سَمُومٍ وهو: الهواء الحار وَحَمِيمٍ وهو: الماء الحار.
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ قال ابن عباس: ظل الدخان، وكذا قال مجاهد، وعِكرمة، وأبو صالح، وقتادة، والسُّدِّيّ، وغيرهم.
قال: فِي سَمُومٍ وهو: الهواء الحار، قيل له ذلك؛ لأنه يدخل في مسام الجلد، وهذا لا يخالف قول من قال: إنه حرارة النار، فإن هذا السموم، وهذا الحر أو الهواء الحار إنما يأتي من جهنم، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وهو الماء الحار وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ قال ابن عباس: ظل الدخان الأسود شديد السواد فإن العرب تقول ذلك، يحموم لِما اشتد سواده، فهم في حميم ماء حار يشربونه يقطع الأمعاء، ويأتيهم من الهواء الحار، وأيضاً الدخان يعلوهم ويغشاهم، وهو في غاية السواد وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي أنه شديد السواد، والعرب تقول لكل ما اشتد سواده: يَحْمُومٍ، وسواءً كان ذلك له اتصال بما تعبر عنه العرب مثلاً من الفحم أو الشحم المحروق الأسود وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أو لم يكن.
وهذه كقوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:29-34]، ولهذا قال هاهنا: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ وهو الدخان الأسود لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أي: ليس طيب الهبوب ولا حَسَن المنظر، كما قال الحسن وقتادة: وَلا كَرِيمٍ أي: ولا كريم المنظر، وقال الضحاك: كل شراب ليس بعذب فليس بكريم.
ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك، فقال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ أي: كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم، لا يلوون على ما جاءتهم به الرسل.
المعنى أنهم قد أترفوا ترفاً لا يحل لهم، مضت حياتهم بالترف والتوسع في الملاذ، فيقال لهم في الآخرة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [سورة الأحقاف:20] كانوا مترفين، والله وصف الكفار بهذا كما وصف به أهل النفاق: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4]؛ لمَا يظهر عليه من أثر الترف.
ومن السلف كعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من كان يرى أن ذلك يكون نقصاً في حظ صاحبه من الآخرة، يعني حتى المؤمن، فكان يتأول هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا حتى لو كان ذلك مباحاً، والله يقول: لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سورة التكاثر:8]، فكل ذلك مما يحاسب عليه الإنسان، لكن يجوز للإنسان أن يأكل الطيبات فكان النبي ﷺ يحب الحلو البارد ويحب الحلوى ولم يكن يمنع نفسه، ويحرم على نفسه ﷺ شيئاً من الطيبات، وكان يعجبه النساء والطيب: حُبب إلىّ من دنياكم النساء والطيب[10]، لكن هؤلاء تركوا الله والدار الآخرة واشتغلوا بتتريف الأجسام على حساب آخرتهم فكان هذا جزاءهم إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ.
وَكَانُوا يُصِرُّونَ أي: يُصَمِّمون ولا ينوون توبة عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وهو الكفر بالله، وجعل الأوثان والأنداد أربابًا من دون الله.
قال ابن عباس: الْحِنْثِ الْعَظِيمِ: الشرك، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّيّ، وغيرهم.
من أهل العلم من فسر عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ باليمين الغموس، ومنهم من فسره بالذنب العظيم، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، وهؤلاء السلف -رضي الله عنهم- الذين فسروه بالكفر أو الشرك فسروه بنوع منه وغير الذي يوجب هذا، وليس كل ذنب يجعل صاحبه بهذا مخلداً في النار فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ، وإنما هو الشرك بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [سورة البقرة:81] فأحاطت به خطيئته يعني الشرك والكفر بالله -تبارك وتعالى، وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم وهو الكفر والشرك بالله تعالى؛ ولهذا عوقبوا بالخلود؛ لأنهم مهما بقوا في الحياة فإنهم سيبقون على الشرك، فهم مصرون عليه غاية الإصرار، والعزم ينزل منزلة الفعل القاتل والمقتول في النار[11]، وبيّن -عليه الصلاة والسلام- أنه كان حريصاً –أي المقتول- على قتل صاحبه فدخل النار بهذا السبب فهؤلاء مهما بقوا سيبقون على كفر، ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا مرة ثانية إلى كفرهم.
- رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج، برقم (3674).
- رواه البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة، برقم (1004)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي ﷺ في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، برقم (907).
- رواه أحمد في المسند، برقم (17642)، وقال محققوه: إسناده قابل للتحسين، وابن حبان في صحيحه، برقم (7416)، وقال الأرنؤوط: صحيح لغيره، وكذا قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (3729).
- رواه الطبراني في المعجم الكبير عن ثوبان بلفظ: إن الرجل إذا نزع من الجنة عادت مكانها أخرى، برقم (1449)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (1446).
- رواه الطبراني في المعجم الأوسط، برقم (2245)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، برقم (18764)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه مسعدة بن اليسع وهو ضعيف.
ورواه الترمذي في الشمائل المحمدية مرسلاً عن الحسن برقم (241)، وحسنه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية، برقم (205)، وقال في السلسلة الصحيحة: "حسنه الترمذي، و هو صحيح بمجموع طرقه و شواهده"، برقم (2987). - رواه الترمذي، كتاب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صفة جماع أهل الجنة، برقم (2536)، وأبو داود الطيالسي في مسنده، برقم (2012)، وقال الألباني: صحيح لشواهده، في تحقيق مشكاة المصابيح برقم (5636).
- رواه الطبراني في المعجم الصغير، برقم (795)، وقال: لم يروه عن هشام إلا زائدة، تفرد به الجعفي، وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (367).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم، برقم (2834).
- رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (12/277)، والبخاري عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- بلفظ قال فيه: لا رقية إلا من عين أو حُمة، فذكرته لسعيد بن جبير فقال حدثنا ابن عباس -رضي الله عنهما- قال رسول الله ﷺ: عرضت علي الأمم فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد حتى رفع لي سواد عظيم قلت ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: هذا موسى وقومه، قيل انظر إلى الأفق فإذا سواد يملأ الأفق ثم قيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء فإذا سواد قد ملأ الأفق قيل هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب، ثم دخل ولم يبين لهم فأفاض القوم وقالوا نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله فنحن هم أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية فبلغ النبيﷺ فخرج، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، فقال عكاشة بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عكاشة، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، برقم (5378)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، برقم (220).
- رواه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم (3939)، وأحمد في المسند، برقم (12293)، وقال محققوه: إسناده حسن، وقال الألباني: حسن صحيح، في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (5261).
- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، برقم (2888).