بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت، ويعطي من يشاء ما يشاء، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وقوله: هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية : أنها أفضل من ألف آية[1].
وروى أبو داود عن أبي زُمَيْل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال ما هو؟ قلت والله لا أتكلم به قال: فقال لي: أشيء من شك؟ -قال: وضحك- قال: ما نجا من ذلك أحد قال حتى أنزل الله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الآية [سورة يونس:94]، قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحوٍ من بضعة عشر قولا.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا الأثر الذي روي عن ابن عباس يعني كأنه أقر بهذا قال: ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله الآية.
فالمقصود بقول ابن عباس هذا هو ما ورد في الحديث من أن الشيطان يأتي للإنسان ويقول له: من خلق كذا من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول: يبلغ به من خلق الله؟! فالنبي ﷺ أرشدنا إلى الطريق الصحيح في مثل هذه القضايا في التفكير وقطع الوساوس، كذلك حينما شكا إليه بعض أصحابه ما يلقون من الوسوسة التي يلقيها الشيطان في قلوبهم، حتى إن أحدهم ليجد في نفسه الشيء فيتعاظم أن يتحدث به، أي يتكلم به، فالنبي ﷺ قال: أوَ قد وجدتموه؟!، ثم قال: ذاك صريح الإيمان[2]، وفي بعض الروايات قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[3].
ومعنى ذاك صريح الإيمان: من أهل العلم من قال: المراد به أي: هذه الخواطر والوساوس هي صريح الإيمان، أما الشاك فهو كالبيت الخرب، والشيطان ما يفعل بالبيت الخرب، فهو استطاع أن يضل قوماً عن الإيمان بالله بالكلية، وصاروا من الكفار بمختلف طوائفهم، واستحوذ على آخرين حتى شغلهم بالمعصية عن الطاعة، فإذا رأى من العبد إقبالاً على الله وصدقاً في معاملته صار يزعجه، ويقلقه بإلقاء الخواطر السيئة الفاسدة.
ولذلك أكثر ما يحصل هذا للإنسان إذا تاب واستقام في بداية هدايته، فإنه يزعجه ويقلقه بكثرة، والشيطان يريد ولو بإشغال وإدخال الحزن في النفس، وإن لم يظفر منه بانحراف وضلال، ولذلك النبي ﷺ أخبر عن الرؤية السيئة أنها من الشيطان؛ ليدخل عليه الحزن ولو في النوم.
وكذلك أخبر الله أن النجوى من الشيطان فقال: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة المجادلة:10]، ليدخل في قلب هذا الإنسان -الذي يتناجون دونه- الحزن، لو كنت بالمقام الذي يؤهلني في نظرهم للمشاركة في الحديث لأدخلوني فيه، أو أنهم يتحدثون عن شيء يتعلق بي، فيحزن، فكان ذلك من الشيطان، يعني: من تزيينه، فهو ولو بإدخال الحزن فقط يشعر أنه حقق هدفه، والمقصود هنا من قول ابن عباس ونحو ذلك: هو ما يلقيه في القلب من الخواطر السيئة التي ينبغي على العبد ألا يبقيها، ولا يقرها، يدفعها فهذه لا تضره، وليس مقصود ابن عباس أن الشك متحقق وحاصل وثابت في قلب العبد وإيمانه، فإن هذا لا ينجو، فالإيمان لابد أن يكون راسخاً، ويقين العبد متحققاً، لابد من هذا.
والإنسان الشاك يكون كافراً، فمن أنواع الكفر كفر الشك، والنصوص تدل على هذا المعنى، والله نهى رسوله ﷺ عن الريب فقال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] فهو نفيٌ للريب عنه، وهو المتضمن أيضاً للنهي، أي لا ترتابوا فيه، فلابد من الإيمان الجازم، وابن عباس لا يقصد أن هذا الإنسان يكون شاكاً أبداً، وإنما ما يلقيه الشيطان في قلبه من الخواطر السيئة التي يدفعها العبد ويأباها ويكرهها.
فالنبي ﷺ قال: ذاك صريح الإيمان، قيل: المراد به هذه الخواطر، ما يفعل الشيطان بالبيت الخرب، وقيل: المراد تلك الكراهة كما شكوا إليه، أما أحدهم فلأن يتردى من شاهق أهون عليه أو أحب إليه من أن يتكلم بذلك فقال: ذاك صريح الإيمان ما داموا كارهين لهذا الشيء، ليس هذا هو الكفر وإنما هو الإيمان.
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحوٍ من بضعة عشر قولا.
وقال البخاري: "قال يحيى: الظاهر على كل شيء علمًا، والباطن على كل شيء علمًا"[4].
قال شيخنا الحافظ المزيّ: يحيى هذا هو ابن زياد الفراء، له كتاب سماه: "معاني القرآن".
وقد ورد في ذلك أحاديث، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ كان يدعو عند النوم: اللهم، رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول ليس قبلك شيء وأنت الآخر ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء وأنت الباطن ليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين، وأغننا من الفقر[5].
ورواه مسلم في صحيحه عن سُهَيل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام: أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: اللهم، ربّ السموات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم، رَبَّنَا وربّ كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، اللهم، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر، وكان يروي ذلك، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ[6].
هذا الحديث هو الذي ينبغي أن تفسر به الآية، ولا يعدل إلى غيره، فـ"الظاهر" الذي ليس فوقه شيء، و"الباطن" الذي ليس دونه شيء، فسره بعض أهل العلم من جهة القرب كما قال ابن جرير -رحمه الله، فسره بقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [سورة ق:16]، الباطن الذي ليس دونك شيء، يعني في قربك، والأول والآخر واضح، والله أعلم.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة الحديد:4-6].
يخبر تعالى عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم أخبر باستوائه على العرش بعد خلقهن، وقد تقدم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة "الأعراف" بما أغنى عن إعادته هاهنا.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ أي: يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا من زرع ونَبات وثمار، كما قال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام:59].
قوله -تبارك وتعالى- هنا: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ يحمل على أعم معانيه، وما ذكره السلف -رضي الله تعالى عنهم- من المعاني في هذا فإنه من قبيل التفسير بالمثال، إذا قال قائل: إن مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ أي: من المطر، من الماء الذي يدخل فيها، أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [سورة الزمر:21]، أو الحب فإن ذلك من قبيل المثال فكل ما يتصور هو داخل في هذا المعنى من الحب والماء والأموات إلى غير ذلك كله يعلمه الله ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ما الذي يخرج من الأرض؟ النبات، المعادن النفط كل ما يمكن أن يتصور أن يخرجه الله من الموتى وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [سورة الزلزلة:2] ما يخرج منها من الكنوز، وغير ذلك.
وقوله: وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ أي: من الأمطار، والثلوج والبَرَد، والأقدار والأحكام مع الملائكة الكرام، وقد تقدم في سورة "البقرة" أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا ومعها ملك يُقرّرها في المكان الذي يأمر الله به حيث يشاء تعالى.
وقوله: وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا أي: من الملائكة والأعمال، كما جاء في الصحيح: يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل[7].
وقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم حيث أنتم، وأين كنتم، من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم، كما قال: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة هود:5]، وقال: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [سورة الرعد:10]، فلا إله غيره ولا رب سواه، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال لجبريل لما سأله عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[8].
قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ فسره السلف بلازمه وهو أنه معكم بالعلم، ومعلوم أن المعية على نوعين:
معية خاصة بالتأييد والنصر إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [سورة طه:46] وذلك معيته -تبارك وتعالى- لأوليائه من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والمؤمنين.
ومعية عامة بالعلم والاطلاع والإحاطة مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [سورة المجادلة:7]، وذلك بالعلم، والإمام أحمد -رحمه الله- احتج على هذا المعنى بأن أول الآية في العلم وآخرها في العلم أَلَمْ تَرَ ثم ختمها أيضاً: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وقوله: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ أي: هو المالك للدنيا والآخرة كما قال: وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى [سورة الليل:13]، وهو المحمود على ذلك، كما قال: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ [سورة القصص:70]، وقالالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سورة سبأ:1]
فجميع ما في السماوات والأرض ملك له، وأهلهما عبيد أرقّاء أذلاء بين يديه كما قال: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم:93-95]، ولهذا قال: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ أي: إليه المرجع يوم القيامة، فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة، بل إنْ يكن أحدهم عمل حسنة واحدة يضاعفها إلى عشر أمثالها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40] وكما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47].
وقوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أي: هو المتصرف في الخلق، يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يُطوِّل الليل ويُقصر النهار، وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعًا ثم قيظًا ثم خريفًا، وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِأي: يعلم السرائر وإن دقت، وإن خفيت.
الأقرب في قوله -تبارك وتعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ هو ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا، وهو اختيار ابن جرير وعامة أهل العلم من المحققين أن المراد بذلك أنه يُدخل الليل في النهار والنهار في الليل، بمعنى أن الليل يأخذ من ساعات النهار فيطول ويتقاصر النهار، والعكس، فهذا معنى يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، والله تعالى أعلم.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [سورة الحديد:7-11].
أمر تعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار، وحث على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي: مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته، فإن يفعلوا وإلا حاسبهم عليه وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه.
في قوله هنا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وكذا في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة النساء:136] العلماء في مثل هذا كثيراً ما يقولون: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: استمروا على الإيمان، واثبتوا على الإيمان، وهذا من المعاني الداخلة فيه.
والمعنى -والله أعلم- أوسع من هذا، كما نقول -أيضاً- في الدعاء في سورة الفاتحة اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، وقد هدانا الله إلى الإسلام، فـ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ هو الإسلام فيقولون: المعنى: ثبتنا، يعني هو دعاء بالدوام والثبات والاستمرار على السير على الصراط المستقيم، فهذا أحد المعاني الداخلة تحته، وإلا فإن المعنى أوسع من ذلك.
وهو أن كل ما ينزله الله على رسوله من شرائع الدين، ومن الآيات فهو حق يجب الإيمان به، فـ "الصلاة" إيمان، و"الصيام" إيمان، و"الحج" إيمان، فكل تشريع جديد وكل عمل شرعه -تبارك وتعالى- فهو إيمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فيؤمن بالله ، ومن إيمانه بالله أن يؤمن بكل ما أخبر الله به، وأن يكون عابداً له موحداً مطيعاً ونحو ذلك؛ ولذلك كان الإيمان قولاً وعملاً، فشرائع الإسلام جميعاً داخلة في ذلك، فتنزل تباعاً، فيحتاج الناس إلى إيمان جديد حتى اكتمل الإيمان فأنزل الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة:3]، فكان أول ما يجب عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك شيئاً فشيئاً حتى اكتملت شرائع الإسلام.
ولما بعث النبي ﷺ معاذاً إلى اليمن قال: ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله...[9]، ثم ذكر له كيف يصنع إذا أطاعوه وأجابوه شيئاً فشيئاً الصلاة ثم الصيام إلخ، فإذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فإذا قيل: هذا الخطاب متوجه للمشركين معناه ادخلوا في الإسلام، لكن هذه السورة مدنية فالخطاب متوجه لأهل الإيمان بالدرجة الأولى، والله تعالى أعلم، فيكون المعنى على هذا الشمول.
وهنا في قولهم: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ هذه العبارة مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ تشعر بأن الذي معهم عارية في أيديهم، فيكون ذلك دافعاً لهم، هذا مال الله جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فهو ليس بدائم وثابت في أيديكم فيكون ذلك مُخفِّفاً على النفوس إخراجَ المال المحبوب إلى نفوسهم، فكما جعلهم مستخلفين فيه فسيخلفهم غيرهم في هذا المال فهو شيء مؤقت باليد، جعله الله فيها وعما قريب سيفارقهم أو يفارقونه.
قال الحسن -رحمه الله: بلغنا أن الغبن في ثلاث: رجل آتاه الله مالاً ولم يؤدِّ حق الله فيه، فصار إلى وارث أنفقه في سبيل الله فدخل الجنة وذاك دخل النار، ورجل آتاه الله علماً فلم يعمل به، فبلّغه إلى من عمل به فدخل الجنة، وذاك دخل النار، والثالث رجل مملوك أطاع الله، وأدى حق سيده فدخل الجنة، وسيده عمل بمعصية الله فدخل النار.
روى الإمام أحمد عن مُطَرَّف -يعني ابن عبد الله بن الشّخّير- عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يقول: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [سورة التكاثر:1]، يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟"[10].
ورواه مسلم، وزاد: "وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس"[11].
وقوله:فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة، ثم قال: وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ؟ أي: وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم، يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به؟ وقد روينا في الحديث من طُرُق في أوائل شرح "كتاب الإيمان" من صحيح البخاري: أن رسول الله ﷺ قال يوما لأصحابه: "أيُّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانًا؟" قالوا: الملائكة، قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟" قالوا: فالأنبياء، قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟"، قالوا: فنحن؟ قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صُحُفًا يؤمنون بما فيها".
وقد ذكرنا طرفًا من هذا في أول سورة "البقرة" عند قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3].
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، برقم (5057)، وأحمد في المسند، برقم (17160)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، لجهالة ابن أبي بلال.
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم (132).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، برقم (5112)، وأحمد في المسند، برقم (2097)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- صحيح البخاري، (6/2687)، تحقيق: مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، بيروت.
- رواه أحمد في المسند، برقم (9247)، وقال محققوه: حديث صحيح.
- رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2713).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله -عليه السلام: "إن الله لا ينام"، وفي قوله: "حجابه النور لو كشفه لأحرق سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (1/161)، رقم (179).
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (1/27)، رقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله -سبحانه وتعالى- (1/36)، رقم (8).
- رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، برقم (1425).
- رواه أحمد في المسند، برقم (16306)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه فمن رجال مسلم وأصحاب السنن، ومسلم في بداية كتاب الزهد والرقائق، برقم (2958).
- رواه مسلم، في بداية كتاب الزهد والرقائق، برقم (2959).