الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[4] من قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية:16 إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الآية:21
تاريخ النشر: ١٤ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 6247
مرات الإستماع: 3590

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ۝ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة الحديد:16، 17].

يقول الله تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه.

روى مسلم عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية إلا أربع سنين[1]، كذا رواه مسلم في آخر الكتاب، وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية[2].

وقوله: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى، لمّا تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنًا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد.

وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ أي: في الأعمال، فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة، كما قال: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [سورة المائدة:13]، أي: فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهو عنه؛ ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.

وقوله: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيه إشارة إلى أن الله تعالى، يلين القلوب بعد قسوتها، ويَهدي الحَيَارى بعد ضَلتها، ويفرِّج الكروب بعد شدتها، فكما يُحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتَّان الوابل كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعدما كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال.

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ۝ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [سورة الحديد:18، 19].

يخبر تعالى عما يثيب به المُصَّدقين والمُصَّدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا أي: دفعوه بنية خالصة ابتغاء وجه الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورًا؛ ولهذا قال: يُضَاعَفُ لَهُمُ أي: يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزداد على ذلك إلى سبعمائة ضعف، وفوق ذلك وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي: ثواب جزيل حسن، ومرجع صالح ومآب كَرِيمٌ.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا في قراءة أُبيّ -وهي قراءة غير متواترة- "المتصدقين" بالتاء، وفي القراءة الأخرى المتواترة قراءة ابن كثير "المصَدقين" بتخفيف الصاد، بمعنى الإيمان الذي هو التصديق الانقيادي، بمعنى الإقرار، فيكون المعنى بهذا الاعتبار إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ يعني: الذين آمنوا وأنفقوا كما جاء في مواضع من كتاب الله .

والقراءتان كما هي القاعدة التي أشرنا إليها في بعض المناسبات: إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، يعني إن المؤمنين والمنفقين، والثانية إن المصَّدقين يعني المتصدقين الذين كانت صدقتهم بالصفة المذكورة، وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، والقرض الحسن هنا ذكر فيه ما يتعلق بالإخلاص، وذلك مما يدخل تحت هذا الوصف، وكذلك أيضا ألا يكون مع هذه الصدقة والنفقة منٌّ ولا أذى؛ لأن ذلك لا يكون من القرض الحسن، فهو الذي سلم من جهة قصد صاحبه، فلم يكن فيه رياء ولا سمعه، وسلم أيضا من الآفات التي تنقصه أو تبطل ثوابه لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ [سورة البقرة:264].

وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذا تمام لجملة وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون.

قال العَوْفي: عن ابن عباس في قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذه مفصولة وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ.

أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ الصدّيق مبالغة من الصادق، والمقصود بذلك من كمل في صدقه، وفي تصديقه، المعاني التي ذكرت في الصديق: بعضهم قال: الذين كمل تصديقهم أبو بكر -رضي الله تعالى عنه، ما ذكر النبي ﷺ شيئا إلا صدقه به فلقب بالصديق؛ لكثرة تصديقه، وكذلك لكمال صدقه، فإن من كمل صدقة وتحريه للصدق يقال له: صديق، يعني كثير الصدق فتكون هذه المعاني مجتمعة في الصديق، صيغة مبالغة، وهي درجة عالية بعد درجة الأنبياء وفوق درجة الشهداء. 

وقوله هنا: رواية العوفي عن ابن عباس -وهذه الطريق من الطرق التي لا تثبت عن ابن عباس- يقول: "وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذه مفصولة"، يعني: الآية في ظاهرها تحتمل وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني: أن المؤمنين بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء، وأن هذا من باب عطف الأوصاف، فتارة تكرر الأوصاف، أو تتابع الأوصاف مع حذف أداة العطف، أو حرف العطف مثل: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [سورة الأعلى:1، 2].

وتارة مع ذكره وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3، 4]، فهذا كله يرجع إلى موصوف واحد، فهنا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ يعني أن هؤلاء هم الشهداء فهذا على أنها موصولة، أن هذه كلها أوصاف متتابعة لموصوف واحد، وهنا على هذا المروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- تكون مفصولة بمعنى أن ما بعدها جملة استئنافية جديدة، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ انتهى، ثم يُبدَأ كلام جديد مستأنف.

وقال أبو الضحى: أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم استأنف الكلام فقال: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ وهكذا قال مسروق، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم.

وهو اختيار ابن جرير، وكل هذا من قول أبي الضحى ومسروق والضحاك ومقاتل، وهو القول المروي عن ابن عباس أنها مفصولة مستأنفة، بعدها مستأنف وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ كيف يكون المعنى على الوصل والفصل؟

الآن إذا قلنا: إن قوله: وَالشُّهَدَاءُ عطف على ما قبله وليس مستأنفاً، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ معنى كلمة الشهداء: من أهل العلم من فسرها بـ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ والأنبياء، يعني الأنبياء يشهدون على أممهم، ويشهدون لهم أيضا، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [سورة النساء:41]، فيقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء فيكون ترقى من الأدنى إلى الأعلى.

وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، قال: "هم هؤلاء أصحاب الأوصاف الكاملة من الصديقين والشهداء عند ربهم" يعني: الذين يشهدون عند ربهم على أممهم، يشهدون عليهم، ويحتمل أنّ جميع المؤمنين المحققين للإيمان وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أن هؤلاء يوصفون بأنهم صديقون وشهداء، وهذا قال به بعض السلف، هذا كله على أساس أنها ترجع إلى موصوف واحد على العطف، وهؤلاء هم الجديرون بهذه الأوصاف وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، هؤلاء هم الصديقون حقا والشهداء حقا، وبهذا الاعتبار يكون كل من حقق الإيمان بالله ورسله فهو من الشهداء، حكما.

وهذا وإن كان يحتمله ظاهر الآية إلا أن غيره قد يكون أرجح منه، ويوجد بعض الآثار التي لربما يستدل بها أصحاب هذا القول، ولكن إن كانت موصولة فيفسر وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ بالذين يشهدون، وكذلك غير الأنبياء، فهذه الأمة تشهد على الأمم، وعلى أنها مستأنفة وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ يكون الشهداء بمعني الذين قتلوا في سبيل الله، المعنى المتبادر المعروف المشهور للشهيد.

وهذا هو الأصل: أن تحمل النصوص على المعنى المتبادر إلا لقرينة، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله: أن معنى وَالشُّهَدَاءُ هنا الشهيد بالمعركة، ومعنى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِنْدَ رَبِّهِمْ: يعني لهم أجرهم وثوابهم محفوظ مدخر لا يضيع منه شيء، والآية تحتمل هذا، وتحتمل هذا، وأكثر السلف على أن قول: وَالشُّهَدَاءُ مستأنف، والله أعلم.

وقال الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله في قوله: أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال: هم ثلاثة أصناف: يعني المصدقين، والصديقين، والشهداء، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69] ففرّق بين الصديقين والشهداء، فدل على أنهما صنفان.

فيكون وَالشُّهَدَاءُ شهيد المعركة بهذا الاعتبار.

ولا شك أن الصدّيق أعلى مقامًا من الشهيد، كما رواه الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- في كتابه الموطأ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين[3]، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه.

وقوله: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: في جنات النعيم، كما جاء في الصحيحين: إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تريدون؟ فقالوا: نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك، فنُقتل كما قُتِلنا أول مرة، فقال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون[4].

وقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أي: لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال، كما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي ﷺ يقول: الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو فصدق الله فقُتل، فذلك الذي ينظر الناس إليه هكذا -ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول الله ﷺ أو قلنسوة عمر، والثاني مؤمن لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح، جاءه سهم غَرْب فقتله، فذاك في الدرجة الثانية، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قُتل، فذاك في الدرجة الثالثة، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا كثيرًا، لقي العدو فصدق الله حتى قُتل، فذاك في الدرجة الرابعة[5]، وهكذا رواه علي بن المديني، وقال: هذا إسناد مصري صالح، ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال: حسن غريب.

هذا الحديث إسناده ضعيف، فيه أبو يزيد الخولاني مجهول، وفيه أيضاً ابن لهيعة، ولكن يمكن أن يقال: إن ابن لهيعة هنا رواه عمن تقبل روايته عنه: أحد العبادلة.

وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لما ذكر السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء وبيّن حالهم.

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ۝ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [سورة الحديد:20، 21].

يقول تعالى مُوهنًا أمر الحياة الدنيا ومحقّرا لها: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ أي: إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [سورة آل عمران:14].

قوله: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ اللعب واللهو من أهل العلم من يقول: هما بمعنى واحد، ومنهم من فرق بينهما، بعضهم يقول: اللعب هو الباطل، واللهو كل ما يتلهى به ثم يذهب يزول، والواقع أن المعنى متقارب؛ لأن الباطل إنما قيل له: باطل لزواله، واضمحلاله؛ ولهذا البطلُ قيل له: بطل، كأنه أبطل دمه في أرض المعركة لشدة إقدامه وثباته أمام العدو وجراءته وشجاعته.

وبعضهم يقول: "اللعب" هو ما رغّب في الدنيا، و"اللهو" ما صرف وشغل عن الآخرة، وبعضهم يقول: "اللعب" ما كان بالجوارح، و"اللهو" ما كان في القلب، لهَا عن الشيء بمعنى انصرف عنه واشتغل عنه، والنبي ﷺ أخبر أن كل لهو باطل، ثم استثنى من ذلك ملاعبة الرجل لولده وامرأته، وتأديبه للفرس، فهذه أمور عملية، فهي من اللهو مما يدل -والله أعلم- على أن اللهو أعم من اللعب.

فاللهو كل ما يلهو به الإنسان، واللعب نوع منه، منه ما يكون حقًّا، ومنه ما يكون من الباطل، هذا بالنسبة للعب، وكل ما يتلهى به فهو لهو، والدنيا لعب ولهو، بمعنى أنه لا بقاء لها وتشغل عن الآخرة، وهي مضمحلة زائلة عما قريب، وما كان هذا شأنه فهو لعب ولهو؛ ولهذا قال: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [سورة العنكبوت:64] يعني: الحياة الكاملة الثابتة الأبدية السرمدية، والنعيم المقيم الحقيقي، أما هذه فلا تستحق ذلك، ومن تبصر فيها ونظر بعين كاشفة للغطاء الذي يحول بين كثير من الناس، وبين معرفة حقيقتها فإنه يعرف ذلك، تجد الرجل يشتغل فيها عشرات السنين، وتشغله عن ذكر الله ، وعن طاعته، ويُحصِّل ألوان المكاسب، والتجارات بالحلال والحرام ثم آخر ذلك يتهافت، وأقرب الناس إليه، والجميع وكل أحد يريد أن يحثو حثوة على قبره! وذلك العناء الطويل، والتعب الكثير، بقي عليه الحساب، ولم يأخذ منه شيء لقبره، ولم يكن ذلك سبباً لبقائه، وتمتعه بهذا النعيم.

وكذلك انظر إلى حال الناس اليوم في الأسهم –لعب- فإذا ارتفع المؤشر كالأطفال فرحوا وسروا وأخرجتهم الشاشات والصور في الصحف، يضحكون وفي غاية السرور، وإذا هبط المؤشر رأيت هذا وضع يده على رأسه، وهذا أصيب بجلطة، وهذا فتح فمه، وهذا يضحك بطريقة جنونية لا يعقل معها، ثم لعبٌ ولهو أبدا، مثل شغل الأطفال إذا قاموا يلعبون التيل! أبدا هكذا حقيقتها، هي لا تعدو هذا، لكن من الذي يتبصر فيها؟ والله المستعان.

ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ وهو: المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِمَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [سورة الشورى:28].

وقوله: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ أي: يُعجب الزراعَ نباتُ ذلك الزرع الذي نبت بالغيث؛ وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تُعجب الحياةَ الدنيا الكفارُ، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا أي: يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرًّا بعدما كان خضرًا نضرا، ثم يكون بعد ذلك كله حطامًا، أي: يصير يَبَسًا متحطمًا، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزًا شوهاء، والإنسان كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضًّا طريًّا لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وَيَنْفَد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخًا كبيرًا، ضعيف القوى، قليل الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [ [سورة الروم:54].

ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حَذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير، فقال: وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا، إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان.

وقوله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ أي: هي متاعٌ فانٍ غارٌّ لمن ركن إليه، فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك[6].

انفرد بإخراجه البخاري في "الرقاق"، من حديث الثوري.

ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك؛ فلهذا حثه الله على المبادرة إلى الخيرات، من فعل الطاعات، وترك المحرمات، التي تكفر عنه الذنوب والزلات، وتحصل له الثواب والدرجات، فقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِوالمراد جنس السماء والأرض، كما قال في الآية الأخرى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران: 133].

قوله: "والمراد جنس السماء والأرض"، الجنس يعني أنها ليست سماء واحدة، بل السموات السبع، والأرضون السبع كذلك، ومن أهل العلم من قال: إنها تكون بقدرها إذا مدت السموات السبع، وهذا معنى جنس السماء، وجنس السماء يعني ليست السماء الدنيا مثلا، وإنما جنس السماء فيدخل فيه السموات جميعا، وكذلك الأرض جميعا، هذا معنى جنس السماء، يعني أن السماء مفرد أريد به الجنس.

وقال هاهنا: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي: هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنّه عليهم وإحسانه إليهم، كما قدَّمنا في الصحيح: أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال: وما ذاك؟، قالوا: يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتِقون ولا نُعْتِق. قال: أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم: تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء[7].

هنا في قوله: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، يعني: إلى أسباب المغفرة، وكذلك وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ؛ لأن المغفرة لا يسابق إليها، وإنما إلى أسبابها، ففيه مقدر معلوم من السياق.

وقوله: عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ العرب تعبر بالعرض ولا تعبر بالطول عادة؛ ليتبين به مقدار الشيء، فإذا كان هذا هو العرض عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ والطول عادة أكبر من العرض، فإذا كان العرض كعرض السماء والأرض، فكيف بطولها؟!!

ومن أهل العلم من قال: جنة الواحد منهم هي بهذا المقدار؛ لأن الله قال بعده: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وهذا يدل أيضا على أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله.

وهنا في قوله: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ هنا فسر الكفار بالزراع لأنه يكفر البذر، الكفر بمعنى الستر والتغطية، فهو يستره يغطيه بالتراب فالزارع يقال له: كافر بهذا الاعتبار؛ لأنه يكفر، ليس المراد بالكافر الخارج من الإسلام، لا، الكافر بمعنى الساتر يستر البذر بالتراب، والآية الأخرى في صفة أصحاب محمد ﷺ بمثلهم الذي ذكره الله في الكتب المتقدمة كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [سورة الفتح:29].

  1. رواه مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، برقم (3027).
  2. رواه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، سورة الرحمن -تبارك وتعالى، برقم (11568).
  3. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3083)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، برقم (2831).
  4. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، برقم (1887).
  5. رواه الترمذي، كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الشهداء عند الله، برقم (1644)، وأحمد في المسند، برقم (150)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (7188).
  6. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك، برقم (6123)، وأحمد في المسند، برقم (3667)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  7. رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب من لم ير رد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة، برقم (807)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (595)، واللفظ له.

مواد ذات صلة