بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وقوله: وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ [سورة الحديد:8]، كما قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة المائدة:7]، ويعني بذلك: بيعة الرسول ﷺ.
وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، وهو مذهب مجاهد، فالله أعلم.
وقوله: هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [سورة الحديد:9] أي: حججًا واضحات، ودلائل باهرات، وبراهين قاطعات، لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أي: من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ، أي: في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس، وإزاحة العلل وإزالة الشبه.
ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق، ثم حثهم على الإيمان، وبين أنه قد أزال عنهم موانعه، حثهم أيضًا على الإنفاق، فقال: وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أي: أنفقوا ولا تخشَوا فقرًا وإقلالا فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض، وبيده مقاليدهما، وعنده خزائنهما، وهو مالك العرش بما حوى، وهو القائل: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة سبأ:39]، وقال: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [سورة النحل:96] فمن توكل على الله أنفق ولم يخش من ذي العرش إقلالا، وعلم أن الله سيخلفه عليه.
وقوله: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ [سورة الحديد:10] أي: لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا، ودخل الناس في دين الله أفواجا؛ ولهذا قال: أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.
والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة، وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا: صلح الحديبية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ النفقة هنا الأقرب -والله تعالى أعلم- أن تحمل على العموم كالنفقة في سبيل الله، كما يدل عليه قول النبي ﷺ: لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه[1]، ومن النفقة في سبيل قتال المشركين فهو نوع من النفقة في سبيل الله، وابن جرير -رحمه الله- يحمله على هذا المعنى الخاص: النفقة في قتال المشركين خاصة، ولربما تكون القرينة في ذلك هي أن الله قال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ذكر النفقة والقتال، وفي مواضع كثيرة الله يذكر النفقة والجهاد بالنفس والمال فعدها ابن جرير -رحمه الله- من هذا القبيل -والله أعلم، ولو حمل ذلك على العموم: من أنفق في سبيل الله مطلقاً على أساس أنهم كانوا في حاجة وشدة لكان أولى.
وكذلك المراد بقوله: مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ مثل الشعبي والزهري وابن جرير يقولون: إن المراد صلح الحديبية، وعامة أهل العلم سلفاً وخلفاً يقولون: هو فتح مكة هذا الذي عليه عامة أهل العلم، ولكلٍّ مستند، يعني: الذين قالوا: إنه فتح مكة نظروا إلى أن الفتح إذا أطلق فهو متوجه إلى فتح مكة عند الإطلاق، وذلك به أعلق، وهو المعنى الأشهر، وإنما تحمل نصوص القرآن على المعنى الأشهر، والأغلب عند الإطلاق.
ولا شك أن الحال بعد فتح مكة لم تكن كالحال قبلها، انفسح المجال أمام الإسلام والمسلمين، ودخلت القبائل في دين الله، وجاءت الوفود من نواحي جزيرة العرب تبايع النبي ﷺ، ولم يبقَ بعد ذلك إلا ما وراء بلاد العرب أو جزيرة العرب، قتال فارس والروم، وقبل ذلك كانت الحرب قائمة على أشدها مع العدو التقليدي وهم قريش، لكن ما جاء فتح مكة حتى انتهى ذلك جميعاً، وأمْر اليهود بجميع طوائفهم في المدينة وفي خيبر قد انتهى.
والعلماء -رحمهم الله- يقسمون طبقات الصحابة ومراتب الصحابة إلى طبقات: أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ويجعلون من أسلم بعد فتح مكة بعد ذلك، كما أن أيضاً صلح الحديبية كان فتحاً، كما قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا [سورة الفتح:1]، فسماه فتحاً، وتغيرت الحال بعده أيضاً، فانتشر الإسلام، وحصل للمسلمين سعة وغنائم كثيرة جداً، ولم تعد الحال كما كانت من الشدة والضيق في النفقة صار عندهم خيبر، وصار النبي ﷺ له سهم فَدَك، ولهذا طالبه أزواجه بعد ذلك بالتوسعة في النفقة وصارت لهم أرض قريظة والنضير، فوسع الله على المسلمين والمهاجرين أيضاً، فحصلوا ما حصلوا من هذه الغنائم، وقسم النبي ﷺ بينهم أرض النضير؛ فلهذا يقال لصلح الحديبية: فتح، وتدل عليه الآية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا .
لكن هنا قال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ فجاء معرفا بـ"ال" فمن نظر إلى الأشهر في الإطلاق قال: هو فتح مكة، ومن نظر إلى بعض القرائن الأخرى وأن صلح الحديبية يقال له: فتح، وأن الحال تغيرت بعده ويوجد بعض الأدلة كما وقع بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما، فخالد كأنه تكلم أو قال كلمة لعبد الرحمن بن عوف: تفتخرون علينا إنما هي أيام أو بأيام سبقتمونا فيها بالإسلام؟ فقال النبي ﷺ ما قال، فخالد أسلم قبل فتح مكة، بوقت ليس بالطويل، ومع ذلك خاطبهم النبي ﷺ بقوله: لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه، هذا يخاطب به رجلاً أسلم قبل فتح مكة.
فمن مثل هذا أخذ مثل ابن جرير أن المقصود صلح الحديبية، ولا شك أن الحال قبل صلح الحديبية لم تكن كالحال بعده، والذين أسلموا قبل ذلك ليس كمن تأخر إسلامهم بعد صلح الحديبية، فعبد الرحمن بن عوف وأبو بكر وعثمان وأمثال هؤلاء ليسوا كخالد وعكرمة، ومن أسلم قُبيل الفتح أو بعد الفتح، وكذلك أولئك الذين تأخر إسلامهم مثل أبي سفيان وصفوان بن أمية والحارث بن هشام وأمثال هؤلاء فإنهم ليسوا كمن أسلم قبل ذلك، وجاء مع رسول الله ﷺ مؤزِّراً له، وبهم فتحت مكة، فهذا السبق له اعتبار.
والحال التي كانوا عليها قبلُ ثم ما صارت إليه الحال بعد الوفود الذين جاءوا إلى النبي ﷺ بعد فتح مكة جاءوا وقد تهيأ كل شيء، والأمور في سعة والغنائم والفيء والفتوحات ولا يخشون شيئا، لكن جاءه وفد عبد القيس وقالوا: لا نستطيع أن نأتيك إلا بشهر حرام، جاءوا قبلُ وقالوا: إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فالوضع كان في شدة، بخلاف الوضع حينما يركب الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.
وقد يستدل لهذا القول بما روى الإمام أحمد -رحمه الله- عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغنا أن ذلك ذُكر للنبي ﷺ فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد-أو مثل الجبال- ذهبًا، ما بلغتم أعمالهم[2].
ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجَه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جَذيمة الذين بعث إليهم رسول الله ﷺ خالد بن الوليد بعد الفتح، فجعلوا يقولون: "صبأنا، صبأنا"، فلم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم، فخالفه عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك، والذي في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نَصيفه[3].
هذا الحديث لا يقال معه: إن الفتح فتح مكة، وإن من أسلم بعد فتح مكة ليس كمن أسلم قبله بإطلاق، بحيث إن الذين أسلموا قبله يكونون على درجه واحدة،ٍ أبدا، هذا يدل على أنه حتى الذين اسلموا قبل فتح مكة كانوا يتفاوتون؛ ولهذا يمكن أن يقال: إن الذين أسلموا قبل صلح الحديبية ليسوا كالذين أسلموا بعد صلح الحديبية، والذين أسلموا بعد صلح الحديبية ليسوا كالذين أسلموا بعد فتح مكة، والحال تقتضي هذا وهذا.
والحديث -والله أعلم- يفهم منه ما يدل على القول الأول، لكن لا يعني أن القول الآخر مردود، لكن إذا أثبتنا وأقررنا هذا التفاوت اتضح الأمر، والله أعلم، فأهل السنة يقولون: إن الصحابة على طبقات ومراتب، وليسوا على مرتبة واحده، فالعشرة ليسوا كغيرهم، وأهل بدر ليسوا كغيرهم، وأهل بيعة الرضوان ليسوا كغيرهم، لكن لا يوجد منهم أفضل من أهل بيعة الرضوان ممن وراءهم يعني ممن جاء بعد ذلك، بعدما حصل الأمر، فالذي حضر فتح مكة لم يكن بمنزلة من شهد بدراً، أو من بايع تحت الشجرة.
وقوله: وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى يعني: المنفقين قبل الفتح وبعده، كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:95]، وهكذا الحديث الذي في الصحيح: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير[4] وإنما نَبَّه بهذا لئلا يُهدرَ جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمَّه؛ فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي: فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق. وفي الحديث: سبقَ درهمٌ مائة ألف[5] ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر له الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها.
وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا قال عمر بن الخطاب: هو الإنفاق في سبيل الله، وقيل: هو النفقة على العيال، والصحيح أنه أعم من ذلك، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة وعزيمة صادقة، دخل في عموم هذه الآية؛ ولهذا قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ كما قال في الآية الأخرى: أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:245] أي: جزاء جميل ورزق باهر -وهو الجنة- يوم القيامة.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ "قال: نعم، يا أبا الدحداح[6]. قال أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها قال: فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، فقال: اخرجي، فقد أقرضته ربي وفي رواية: أنها قالت له: رَبح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول الله ﷺ قال: كم من عَذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح[7]، وفي لفظ: رب نخلة مدلاة، عروقها دُرٌّ وياقوت لأبي الدحداح في الجنة[8].
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الحديد:12-15].
يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين المتصدقين أنهم يوم القيامة يسعَى نورهم بين أيديهم في عَرصات القيامة، بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم مَن نوره مثل الجبل، ومنهم مَن نوره مثل النخلة، ومنهم مَن نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورًا مَن نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويُطفَأ مرة، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
يقول: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ النور يحمل على ظاهره النور المعروف، خلافا لمن فسر ذلك بـ "الهدى" مثلا، هُداهم يسعى بين أيديهم، أو قول من قال: إنه ثواب الأعمال، فهذا لا حاجة إليه وهو خلاف الظاهر، وهذه الآية كقول الله -تبارك وتعالى- في سورة التحريم يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [سورة التحريم:8].
وكل هذا يدل على أنه نور يكون بين أيديهم، وقوله: وَبِأَيْمَانِهِمْ يحتمل أن يكون النور بين يديه وعن يمينه، ويحتمل أن يكون قوله: وَبِأَيْمَانِهِمْ يعني: كتاب الأعمال كما فسره به طائفة من السلف، فهم يؤتون كتابهم بأيمانهم، ويسعى نورهم بين أيديهم وهؤلاء هم أصحاب الفوز الكبير، بخلاف المنافقين الذين ينطفئ نورهم، والنصوص تدل على هذا المعنى: أعني أنه نور حقيقي يكون بحسب حالهم، بحسب إيمانهم، بحسب هدايتهم، ولا يفسر بمجرد الهدى، أو ثواب الأعمال، فهذا تأويل لا حاجة إليه، والله أعلم.
وقال الضحاك: ليس أحد إلا يُعطَى نورًا يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طُفئ نور المنافقين، فلما رأي ذلك المؤمنون أشفقوا أن يُطفَأ نورهم كما طُفئ نور المنافقين، فقالوا: ربنا، أتمم لنا نورنا.
وقوله:وَبِأَيْمَانِهِمْ قال الضحاك: أي: وبأيمانهم كتبهم، كما قال: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [سورة الإسراء:71].
وقوله: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أي: يقال لهم: بشراكم اليوم جنات، أي: لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار،خَالِدِينَ فِيهَا أي: ماكثين فيها أبدًا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ كما قال الله : يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [سورة التوبة:21، 22]، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [سورة فصلت:30، 31] كل هذا يفسر قوله -تبارك وتعالى: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ يبشرون بجنات.
وقوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة، والزلازل العظيمة، والأمور الفظيعة، وإنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله، وعمل بما أمر الله به، وترك ما عنه زجر.
وقال العَوْفي، والضحاك، وغيرهما، عن ابن عباس -رضي الله عنهما: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورًا فلما رأي المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلا من الله إلى الجنة، فلما رأي المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون: ارْجِعُوامن حيث جئتم من الظلمة، فالتمسوا هنالك النور.
ومعنى انْظُرُونَا أي: انتظرونا، يطلبون منهم الانتظار وفي قراءة حمزة وهي متواترة كما هو معلوم أَنْظِرونا يعني أمْهِلونا، يريدون أن يدركوهم وأن يلحقوا بهم، وأن يستضيئوا بنورهم بحجة أنهم كانوا يشتركون معهم في الدنيا في حضور الجُمع والجماعات وما إلى ذلك.
وقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ قال الحسن، وقتادة: هو حائط بين الجنة النار.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الذي قال الله تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [سورة الأعراف:46]، وهكذا روي عن مجاهد -رحمه الله، وغير واحد، وهو الصحيح.
بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي: الجنة وما فيها وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ أي: النار، قاله قتادة، وابن زيد، وغيرهما.
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي: ينادي المنافقون المؤمنين: أما كنا معكم في الدار الدنيا، نشهد معكم الجمعات، ونصلي معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات، ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ قَالُوا بَلَى أي: فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين: بلى، قد كنتم معنا، وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ، قال قتادة: وَتَرَبَّصْتُمْ بالحق وأهله، وَارْتَبْتُمْ أي: بالبعث بعد الموت وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ أي: قلتم: سيغفر لنا، وقيل: غرتكم الدنيا حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي: ما زلتم في هذا حتى جاء الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي: الشيطان.
وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ كل ما كان يغرهم في الدنيا من الأشياء التي تتعلق بها نفوسهم، وتنجذب إليها سواء كان ذلك من التمنية بالتوبة، وصلاح الحال أو كان ذلك بالأماني الفارغة، أنهم سيكونون في الآخرة مع المؤمنين، أو ما كانوا يتوهمونه أنهم سيحلفون لله كما كانوا يحلفون في الدنيا ثم بعد ذلك تحصل لهم النجاة.
ولهذا إذا قاموا من قبورهم يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [سورة المجادلة:18]، يعني: كما أن الحلف هذا نجاهم من الأمور التي تضيق بهم في الدنيا، يظنون أنه ينجيهم عند الله في الآخرة، فهذا كله من الأماني وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، وهو الشيطان، حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ مازلتم على هذا حتى جاء أمر الله، فالمشهور عند أهل العلم أن المقصود به الموت، كما اختاره الحافظ ابن كثير هنا، وهو اختيار ابن جرير قبله، واختاره جماعة كالشنقيطي -رحمه الله.
ومن أهل العلم من قال: المراد بـ أَمْرُ اللَّهِ يعني: الآخرة حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ، ويبدو -والله أعلم- أنه لا منافاة بين القولين؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، ويكون قد عاين من الحقائق وانكشف عنه الغطاء، وعرف حاله وما يئول إليه، فهذه آخرته قد دخل فيها.
قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين: إنكم كنتم معنا أي: بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تُراءون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلا.
ومن الأماني التي يمكن أن يفسر بها قوله: وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ: ما كانوا يؤملونه من دحر الإسلام والقضاء على المسلمين، وأن المسألة مسألة وقت، ثم ينتهي كل شيء كما كانوا يتعاضدون مع المشركين ويحرضون الروم على قتالهم ويأملون استئصالهم، والقضاء على دين الله ، لما وقعت غزوة بدر قال عبد الله بن أبيّ -وكان ذلك أول النفاق: هذا أمر قد توجه، فادخلوا فيه علانية وأبطنوا الكفر سرا، هذا أمر قد توجه: يعني ما عادت الأمور كما كانت قبل غزوة بدر، فالمسلمون حققوا انتصارا كبيرا وقتلوا رءوس المشركين من أهل مكة، ولم تكن المسألة مجرد دعوة في المدينة فحسب.
قال مجاهد: كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم، وكانوا معهم أمواتا، ويُعطَون النور جميعًا يوم القيامة، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور، ويُماز بينهم حينئذ.
وقوله: مَأْوَاكُمُ النَّارُ أي: هي مصيركم وإليها منقلبكم.
وقوله: هِيَ مَوْلاكُمْ أي: هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم، وبئس المصير.
مَوْلاكُمْ أي: أولى بكم وهذا هو اختيار ابن جرير، وقال به جماعة من السلف، وأصل المولى من يتولى مصالح الإنسان، ثم بعد ذلك استعمل فيمن يلازمه وإن لم يكن يتولى مصالحه.
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله ﷺ، برقم (4658)، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم (687)، وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم، برقم (988).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (13812)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أحمد بن عبد الملك الحراني، فقد روى له النسائي وابن ماجه، وهو ثقة، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5698).
- رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذا خليلا (3/ 1343)، برقم (3470)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب تحريم سب الصحابة -رضي الله عنهم- (4/ 1967)، برقم (2540).
- رواه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (4/ 2052)، رقم (2664).
- رواه النسائي، كتاب الزكاة، باب جهد المقل، برقم (2527)، والحاكم في المستدرك، كتاب الزكاة، برقم (1519)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3606).
- شعب الإيمان (5/ 125)، رقم (3178).
- رواه أحمد في المسند عن أنس بن مالك ، برقم (12482)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والحاكم في المستدرك، كتاب البيوع، برقم (2194)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
- تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (10/ 3339).