بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة النمل:
بسم الله الرحمن الرحيم
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [سورة النمل:1-6].
قد تقدم الكلام في "سورة البقرة" على الحروف المتقطعة في أوائل السُّوَر.
وقوله: تِلْكَ آيَاتُ أي: هذه آيات الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ أي: بيّن واضح.
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ أي: إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لِمَنْ آمن به واتبعه وصدقه، وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة، وآتى الزكاة المفروضة، وآمن بالدار الآخرة والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال، خيرها وشرها، والجنة والنار، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ الآية [سورة فصلت:44]، وقال: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [سورة مريم:97].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الإشارة هنا يحتمل أن تكون عائدة إلى السورة نفسها، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القرآن، وقوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [سورة يونس:1]، وتِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ، الكتاب يحتمل أن يكون المراد به القرآن، فيكون ذلك من قبيل عطف الصفات فإنه قرآن باعتبار أنه مقروء، وهو كتاب باعتبار أنه مكتوب، وهذا أقرب من قول من قال: إن الكتاب هو اللوح المحفوظ هنا، أو قول من قال: إن الكتاب المقصود به السورة نفسها، فإن هذا لا دليل عليه، ولعل الذي حمل هذا القائل هو محاولة إيجاد معنى جديد؛ ليكون ذلك من قبيل التأسيس، وأن هذا العطف يقتضي المغايرة.
وقوله -تبارك وتعالى: وَكِتَابٍ مُبِينٍأي: بين واضح من جهة أنه لا خفاء فيه، ولا ألغاز ولا غموض كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [سورة القمر:17]، وهو أيضاً مبين أي: يَبِين لغيره لمن نظر فيه أنه حق من عند لله -تبارك وتعالى- كما يقول أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- فهو بيّن في نفسه، وهو مبين لمن نظر فيه أنه حق نزل من عند الله .
مبين أي: يَبِين لغيره لمن نظر فيه أنه حق من عند لله -تبارك وتعالى- كما يقول أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- فهو بيّن في نفسه، وهو مبين لمن نظر فيه أنه حق نزل من عند الله .
ولهذا قال هاهنا: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أي: يكذبون بها، ويستبعدون وقوعها زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي: حَسّنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غَيهم فهم يَتيهون في ضلالهم، وكان هذا جزاء على ما كذبوا به من الدار الآخرة، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:110].
قوله -تبارك وتعالى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي: أن الله -تبارك وتعالى- حسّن لهم ما هم فيه فأُشربته قلوبهم، وصاروا على هذه الحال إلى أن فارقوا الدنيا، وشواهد هذا من القرآن كثيرة ولا حاجة إلى التكلف في حمل الآية على معانٍ بعيدة متكلفة، وقوله -تبارك وتعالى: فَهُمْ يَعْمَهُونَ يعني يتحيرون ويترددون ويسيرون على غير اهتداء، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "يتيهون في ضلالهم"، هذا المعنى صحيح، وداخل في معنى العمه: الذي يسير على غير اهتداء، تائه، متحير متردد لا يعرف الطريق التي ينبغي أن يسلكها.
من أهل العلم من قال في قوله -تبارك وتعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ أي: في الدنيا، والذي حمله على هذا هو أن الله قال بعده: وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ فهم في الدنيا لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ، وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ وهذا لا ضرورة إليه، والذي عليه عامة المفسرين أن ذلك في الدنيا والآخرة، وليس فيه تكرار مع ما بعده؛ لأنه -تبارك وتعالى- في الأولى بين أن لهم في الآخرة سوء العذاب، وفي الثانية بين أنهم أخسر الناس وأبخسهم للظن في الآخرة، وهذا المعنى لا يؤديه قوله -تبارك وتعالى- قبله أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ في الأولى بين عاقبتهم من حيث العذاب، وفي الثانية بين أنهم أخسر الناس.
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى لتأخذ، يؤخذ عليك فتلقّاه وتأخذه، تُلقى القرآن تُحفظ، تُعلم، هذه عبارات أهل العلم بتفسيرها وإنك لتلقى القرآن، ولا يتلقاه من بشر، وإنما يتلقاه من الحكيم العليم الذي يعلم مصالح الخلق، ويضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها.
قوله في تفسير العليم والحكيم: أي حكيم في أمره ونهيه، لا شك أن الحكيم أعم من هذا في تدبيره، وتقديره وما إلى ذلك، ولكن أهل العلم كثيراً ما يفسرون الآية -أو بعضها، أو اللفظة- ببعض معناها مما يتصل بالموضع الذي يفسرونه مما يرتبط السياق، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ما يخفى عليه أن الحكيم أوسع معنى مما ذكر، لكن هنا في مقام التنزيل تنزيل الوحي، والتشريع تأتي قضية الأمر والنهي، وليس المقام مقام الحديث عن أقدار الله -تبارك وتعالى- وتصريفه لهذا الكون كأمور الخلق وما شابه ذلك، ليس هذا هو المراد، فمثل هذا ينبغي أن يراعى في كلام المفسرين، وكثيراً ما تجد المعنى يُحصر على بعضه مراعاة للسياق، ولذلك تجد هذا كثيراً في تفسير الأسماء الحسنى في أواخر الآيات.
إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكـُم ْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّه ُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [سورة النمل:7-14].
يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ مذكرًا له ما كان من أمر موسى ، كيف اصطفاه الله وكلمه، وناجاه وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له، فقال تعالى: إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ أي: اذكر حين سار موسى بأهله، فأضل الطريق، وذلك في ليل وظلام، فآنس من جانب الطور نارًا، أي: رأى نارًا تأجج وتضطرم، فقال: لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أي: عن الطريق، أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَأي: تتدفئون به.
قوله -تبارك وتعالى- عن قول موسى ﷺ: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ المراد بالشهاب هنا -والله تعالى أعلم- شعلة من نار، ويقال للعود الذي في طرفه شعلة أو جمرة: شهاب، وإن كان الشهاب يطلق على معانٍ أُخر يقرب بعضها من هذا، لكن المراد به هنا هذا المعنى، والله تعالى أعلم، وفيه قراءتان متواترتان: بشهابٍ قبسٍ، أو بالإضافة: بشهابِ قبسٍ، شعلة مقتبسة من النار.
وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورًا عظيمًا؛ ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا أي: فلما أتاها رأى منظرًا هائلا عظيمًا، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقدًا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء.
قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارًا، إنما كانت نورًا يَتَوَهَّج.
وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين، فوقف موسى متعجبًا مما رأى، فنودي أن بورك من في النار، قال ابن عباس: أي تقدّس.
وَمَنْ حَوْلَهَا أي: من الملائكة، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة.
قوله -تبارك وتعالى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، قال: أي من الملائكة، بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ كما مضى في الأثر المروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: إنها كانت نوراً، وقال بهذا جماعة من السلف وليس محل اتفاق، فإن بعضهم حمله على ظاهره، وليس المقصود النور، وجاء في بعض القراءات غير المتواترة أن بوركت النار، وهذه مروية عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، وهي مروية عن بعض التابعين كمجاهد، وتنسب إلى أبيّ بن كعب -رضي الله تعالى عن الجميع، أن بوركت النار ومن حولها فهذه يمكن أن يفسر بها قوله -تبارك وتعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يعني بوركت النار.
وبعضهم يقول: المراد بـ بورك من في النار أي بورك على من في النار، وليس المقصود من بداخل النار، وإنما من يقف عليها وهو موسى ﷺ، وهذا قول ابن جرير، بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يعني على من في النار، أي من يقف عندها، يقف عليها أو على من في قرب النار، ليس المقصود من في داخلها وفي وسطها على هذا القول، وبعضهم -وهو مروي عن بعض التابعين- يقول: إنه كان في داخلها ملائكة، بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يعني من الملائكة وإنها نور، وليست بنار.
وبعضهم يقول: إن هذا نور الله -تبارك وتعالى- فقال فيه ما قال: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وليس المقصود أن الله ، ليس المقصود أنه في هذا المكان أو في داخل هذه النار إنما باعتبار أن هذا نوره هكذا فسره بعض السلف بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أي: الله، لكنهم بينوا المراد بأن المقصود بذلك نور الله ، هذا مروي عن بعض التابعين كالحسن البصري وغيره، وقول أكثر المفسرين: إن النار هنا يقصد بها النور، بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا يقولون: ملائكة، ومن يقول: إن المقصود بذلك نور الله -تبارك وتعالى- يكون الذي حولها موسى ﷺ ومن يصدق عنه ذلك، يعني أنه حول النار.
وقوله: وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَأي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبه شيئا من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم، المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسموات، بل هو الأحد الصمد، المنزه عن مماثلة المحدثات.
يشير هنا إلى أنه لا يُفهم من قول: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أي: الله مثلاً أن المقصود بذلك أن الله في هذا المكان أو في داخل هذه النار فقال: فإن الله لا يحيط به شيء من مصنوعاته، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [سورة البقرة:255] المبين لجميع المخلوقات يعني أنه مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه -تبارك وتعالى.
وقوله: يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أعلَمَه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز، الذي عز كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أفعاله وأقواله.
ثم أمره أن يلقي عصاه من يده؛ ليُظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار، القادر على كل شيء، فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حَيَّةً عظيمة هائلة في غاية الكبر، وسرعة الحركة مع ذلك.
أي أن الكبير قد لا يكون سريع الحركة، لكن هنا جاء أنه في غاية الكبر، ثم وصفها بأنها مثل الجان، والآية الأخرى فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ [سورة الأعراف:107] وهنا كأنها جان، والجان نوع من الحيات ليست كبيرة لكنها سريعة الحركة، وهناك ذكر أنها ثعبان، فجمع الحافظ بين المعنيين فهي كبيرة وفي حركتها كأنها جان، والجان نوع من الحيات ليس بالكبير سريع الحركة، فجمعت بين الوصفين الضخامة وسرعة الحركة، فأخذت الضخامة والكبر من قوله: ثُعْبَانٌ، وسرعة الحركة من قوله: كَأَنَّهَا جَانٌّ وليس المقصود بالجان هنا: كأنها جِني، إنما هو نوع من الحيات يقال له ذلك، يعرف بهذا الاسم.
قوله هنا: وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ أي: لم يلتفت، لم يعقب يعني لم يرجع، التعقيب: الرجوع والكر بعد الفر، يقول: فلان لم يعقب يعني لم يرجع، وموسى ﷺ وَلَّى مُدْبِرًا فر هارباً ولم يرجع؛ لشدة خوفه مما رأى.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سـُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ قال: هذا استثناء منقطع، ونحن نعرف أن الاستثناء المنقطع لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه فهو بمعنى لكن إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لكن مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ فلا يكون ذلك مما يعود على ما قبله مما يتصل بالمرسلين -عليهم الصلاة والسلام.
والقول بأنه منقطع قال به جماعة من أهل العلم، إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَن ظَلَمَ قالوا: هذا يتصور، هذا في المرسلين واضح، قالوا: هل يصدق هذا على المرسلين؟! فإذا قلت: إنه متصل فقد يفهم من ظاهره أن منهم من يحصل له الخوف، والذي يصدر منه ما يوجب الخوف هو من ظلم، من أهل العلم من قدر هذا الإشكال وقال: إن ذلك لا يكون بالنسبة للمرسلين، والله -تبارك وتعالى- يقول: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، وأولى من يدخل بهذا هم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فلهم الأمن التام فلا تكون حالهم كحال غيرهم من أهل الخوف لسوء أعمالهم وظلمهم، فقالوا: الاستثناء منقطع؛ ليكون قوله: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ على إطلاقه، ثم جاء كلام آخر لا يتصل بالمرسلين منقطع عمن قبله يقرر الله -عز وجل- فيه حقيقة وهو أن من ظلم ثم بدل حسناً من بعد سوء فإن الله يغفر له ذنبه ويمحو إساءته.
ومن أهل العلم من قال: إن الاستثناء متصل، لكنهم اختلفوا في توجيهه، والأصل في الاستثناء الاتصال، فقالوا: نحمل الاستثناء على الأصل وهو أنه متصل، لكنهم اختلفوا في توجيهه، فبعضهم يقول: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ فالرسل -عليهم الصلاة والسلام- تقع منهم صغائر الذنوب لكن بقيدين كما هو معلوم في محله لا تقع منهم الصغائر التي يسمونها صغائر الخسة، يعني التي تسقط المروءة والعدالة، يقولون: كتطفيف الحبات وسرقة الأشياء التافهة إلى آخره، هذه لا تقع من النفوس السوية، يقول: تقع منهم الصغائر، والله قال عن آدم ﷺ وهو نبي إنه عصى ربه فغوى إلى غير لك مما يذكرون، فقالوا: المقصود بذلك الصغائر، لكنهم لا يصرون عليها إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
ولكنه على هذا المعنى -على هذا القول بأنه متصل -والله تعالى أعلم- لا يخلو من إشكال، يعني لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَن ظَلَمَ يعني أنه يخاف، إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ كأن المعنى غير منتظم مع السياق، والله تعالى أعلم، وهذا القول قال به بعض أهل العلم من أهل المعاني كالنحاس.
وبعضهم يقول: هو متصل لكن فيه مقدر محذوف، إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَن ظَلَمَ من غيرهم ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ، يعني كأنه يقول: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ، لكن الأصل عدم التقدير، ومهما أمكن أن نجعل الكلام مستقلاً فهو أولى من القول بأن فيه مقدراً محذوفاً؛ لأن هذا خلاف الأصل، وهو خلاف الظاهر ولا ضرورة إليه.
وابن جرير -رحمه الله- جعله من قبيل المتصل، وحمله على ظاهره تماما، إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا إلا من ظلم بالتبديل، والتغيير أو عمل خلاف ما أمرته، ومثل هذا يعني عمل على خلاف ما أمره الله به، ثم بدل حسناً من بعد سوء فالله يغفر له، هذا كلام ابن جرير.
والأقرب -والله تعالى أعلم- هو ما ذكره الحافظ ابن كثير من أن الاستثناء منقطع، وأن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لا يتطرق إليهم الخوف، لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، ولكن ما ذكره بعض من حمل الآية على الاتصال كابن جرير فهو غير مستبعد؛ فإن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم أكثر الناس خوفاً من الله -تبارك وتعالى، والنبي ﷺ غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وذكر لهم أنه أشدهم خشية لله -تبارك وتعالى، وذو النون -عليه الصلاة والسلام- لما ذهب مغاضباً لقومه، وظن أن الله -تبارك وتعالى- لن يضيق عليه -أن لن نقدر عليه: نضيق عليه- التقمه الحوت فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87]، وآدم -عليه الصلاة والسلام- قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23]، والله يقول: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37] هذه هي الكلمات، -والله تعالى أعلم.
وقوله: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ هذه آية أخرى، ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار، وصِدْق من جعل له معجزة، وذلك أن الله -تعالى- أمره أن يُدخل يده في جيب دِرْعِه، فإذا أدخلها وأخرجها خَرجت بيضاء ساطعة، كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف.
وقوله: فِي تِسْعِ آيَاتٍ أي: هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن، وأجعلهن برهانا لك إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: فِي تِسْعِ آيَاتٍ بعضهم يقول: هذا متعلق بمحذوف مقدر، يعني اذهب إلى فرعون في تسع آيات، وهؤلاء يقولون: إن العرب تحذف من الكلام اختصاراً ثقة بفهم السامع، فِي تِسْعِ آيَاتٍ لكن مثل هذا الحذف في هذا المقام ليس ذلك مما يكون ظاهراً من السياق، هناك أشياء محذوفة معلومة من السياق لا إشكال فيها فيصدق عليها ما ذُكر، لكن هذا المحل ليس محل اتفاق أن هناك مقدراً محذوفاً، والأصل خلاف ذلك، إذا دار الكلام بين الإضمار والاستقلال فالأصل فيه الاستقلال، هذا الكلام من غير حذف إذا أمكن حمله على وجه صحيح فهو أولى، وهنا يمكن، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: هو متعلق بقوله: وَأَلْقِ عَصَاكَ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فيكون قوله: "في تسع آيات" متعلقاً بما ذكر قبله، يعني في جملة تِسْعِ آيَاتٍ، فهما آيتان في جملة تسع، يعني من تسع آيات، وبعضهم يقول: بتسع آيات يعني مع تسع آيات، والأقرب: أنه في جملة تسع آيات يعني المجموع تسع مع هاتين الآيتين اللتين هما العصا واليد، ومن قال: مع تسع آيات فالآيات عنده إحدى عشرة آية، والله يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [سورة الإسراء:101].
والعلماء اختلفوا في عدها فمن أهل العلم من يقول: هنا مع تسع آيات فيكون المجموع إحدى عشرة آية، ثم عدها بعضهم على هذا فقال: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والجدب في الصحراء، ونقص الأموال والثمرات عندهم في بلادهم، والطمس -طمس على أموالهم، والفلق، والعصا، واليد، ومن قال: إنها في تسع آيات أي في جملة تسع آيات يعني المجموع تسع فهاتان آيتان منها يعني: اذهب في هاتين الآيتين في جملة تسع آيات، أعطاها الله لموسى ﷺ.
ولعل من أحسن ما قيل فيها -والله تعالى أعلم- في تفسير قوله: فِي تِسْعِ آيَاتٍ وما ذكره النحاس، وهو ظاهر كلام كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله تعالى- من أن المقصود بذلك أن هذه الآية المذكورة هنا داخلة في الآيات التسع، تنضاف إليها مع العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطوفان، والحجر الذي يضربه بعصاه فينفلق، والطمس على أموالهم، لكن لا يُعد ضرب البحر وانفلاق كل فرق كالطود العظيم، وما حصل من إغراق فرعون ونجاة موسى داخلاً في هذه الآيات التسع؛ لأن هذه الآيات التي أعطاها الله موسى هي براهين على قوته وحاجه بها فرعون، أما البحر فلم يكن من أجل المحاجة ولا البيان، وإنما كان لإهلاكه بعدما تيقن وعرف أحقية وصدق ما جاء به موسى ﷺ.
مُبْصِرَةً يعني واضحة ظاهرة، وهي تدل من نظر فيها على صحتها وصدق من جاء بها، والله يقول: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:59] يعني آية مبصرة، ليس المقصود أن الناقة تبصر، لها عينان ليس هذا المراد، وإنما آية مبصرة أي آية واضحة لا خفاء فيها تدل من وقف عليها على صدق من جاء بالمعجزة.
وقوله: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً أي: بينة واضحة ظاهرة، قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وأرادوا معارضته بسحرهم فغُلبوا، وانقلبوا صاغرين.
وَجَحَدُوا بِهَا أي: في ظاهر أمرهم، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ أي: علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله، ولكن جَحَدوها وعاندوها وكابروها، ظُلْمًا وَعُلُوًّا أي: ظلما من أنفسهم، سَجِيَّة ملعونة، وَعُلُوًّا أي: استكبارًا عن اتباع الحق؛ ولهذا قال: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي: انظر يا محمد كيف كان عاقبة كُفرهم، في إهلاك الله إياهم، وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة.
وفحوى الخطاب يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى؛ فإن محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه- أشرف وأعظم من موسى، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى، بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله، وما سبقه من البشارات من الأنبياء به، وأخذ المواثيق له، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخـِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [سورة النمل:15-19].
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان -عليهما من الله السلام- من النعم الجزيلة، والمواهب الجليلة، والصفات الجميلة، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة، والملك والتمكين التام في الدنيا، والنبوة والرسالة في الدين؛ ولهذا قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
يؤخذ من هذا شرف العلم، وأنه من أعظم ما يؤتاه الإنسان إذا صحت فيه النية، ووُفق الإنسان إلى العمل بمقتضاه، لأن الله -تبارك وتعالى- ذكر هذا في حق سليمان وداود -عليهما الصلاة والسلام، ثم ذكر بعده قولهما: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بعدما ذكر ما خصهم به من العلم، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ التفضيل المذكور في هذه الآية هو العلم، وإن كان يدخل في هذا التفضيل ما أعطاهم الله من الملك والنبوة، وما يتبع ذلك مما خص الله -تبارك وتعالى- به داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام.
قوله: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ هو كما ذكر: المقصود ميراث العلم والنبوة والملك، وأن الملك صار لسليمان -عليه الصلاة والسلام- من بين ولد داود ﷺ، وصار له الملك وأيضاً مع النبوة والعلم، كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أنه ليس المراد بذلك وراثة المال؛ لأن الأنبياء لا يورثون من جهة، ومن جهة أخرى أن ذلك من الأمور المعلومة بالنسبة لغيرهم من الناس، يعني لا فائدة أن يقال: فلان ورث أباه يعني في المال، فإنه يرثه بلا إشكال، وإنما المقصود ورثه في الملك والعلم والنبوة.
وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أخبر سليمان بنعم الله عليه، فيما وهبه له من الملك التام، والتمكين العظيم، حتى إنه سَخَّر له الإنس والجن والطير، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضًا، وهذا شيء لم يُعطَه أحد من البشر -فيما علمناه- مما أخبر الله به ورسوله.
فالله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء، وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها؛ ولهذا قال: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
الحافظ ابن كثير هنا ذكر أن الله علم سليمان -عليه الصلاة والسلام- الطير وسائر الحيوان مع أن الآية لم يذكر فيها إلا منطق الطير، وابن كثير -رحمه الله- عممها باعتبار النملة، قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ففهم كلامها، قالوا: ذلك لا يختص بالطير، وخصه هنا عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ باعتبار أنه كان من جملة جنود سليمان -عليه الصلاة والسلام، وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ قال: كانت الطير تظله، والريح تقله، ومعه العَمَلة من الجن والأنس، والذين قالوا: إن ذلك يختص بالطير فقط وجهوا ما ذكر آنفاً من أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- فهم كلام النملة فقالوا: يمكن أن الطير تنقل له كلام النملة، أو الجن ينقلون له كلام النمل، لكن الطير والجن هل يفهمون كلام النمل؟ فأجابوا بأن النمل داخل في جملة الطير باعتبار أنه يكون له أجنحة، ويطير بها، وهذا قال به بعض السلف مثل الشعبي وأبي قتادة، قالوا: لأنه قال هنا: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ لكن هذا لا يدل على الاختصاص، وإذا أطلق الطير عرفاً لا يدخل فيه النمل، فظاهره هنا علمنا منطق الطير، هنا خص الطير بالذكر لكن ذلك لا يدل على الحصر، فعندنا ما يدل على أنه فهم كلام النملة، فالحافظ ابن كثير عممه فقال: يعلم لغة الحيوانات كلها، وخصص الطير هنا فقال: باعتبار أنه من جمله الجنود المجندين الذين كانوا يذهبون معه ويجيئون في الغزو، وهنا يقول: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ولا دليل على غيره.
قوله: وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: مما يحتاج إليه الملك، هذا الذي يسميه الشاطبي -رحمه الله- بالعموم الاستعمالي، وهو مثل قوله: يُجْبَى إِلَيْهِ [سورة القصص:57] يعني مكة أو الحرم ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، فهناقال: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يعني لو أراد أحد أن ينظر ويشق الشعرة والشعيرة في الألفاظ، وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ هل أوتي من صنوف الثمار في الدنيا، والمصنوعات، والقُدر، والإمكانات وما إلى ذلك؟
الجواب: لا، وكذا في قوله -تبارك وتعالى- عن ملكة سبأ أنه قال: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23]، أي مما يصلح لمثلها، مما يصلح لملكها، لكن تبقى بعض الأشياء في الدنيا ما أعطيت منها؛ ولهذا قالوا: ما أعطيت عرش سليمان، ولا ملك سليمان، ولا سخر لها الجن، ولا علمت منطق الطير، ولا تحملها الريح، فهذا يسميه الشاطبي بالعموم الاستعمالي، يعني أن العرب تفهم من ذلك المعنى المناسب له دون أن تحمله على العموم بمعنى العموم المطلق مع أن "كل" هي أقوى صيغة من صيغ العموم عند الأصوليين، الله يقول: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وقال عن الريح التي أرسلها الله -تبارك وتعالى- عذاباً على ثمود: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25] كل شيء، فالأصوليون كثير منهم يقولون: هذا مما خُص بالحس؛ لأنها لم تدمر السموات والأرض والجبال، والله يقول: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ تدمر كل شيء مما سيقت وجاءت إلى تدميره، وهذا يفهم من الخطاب حسب المقام والمناسبة التي قيل فيها.
ولهذا يقال: زرتُ البلاد، وليس لأحد أن يعترض ويقول له: هل زرت كل البلدان؟ ويقول: رأيت الناس ورأيت العباد، ويقول: رأيت الناس واحداً، واحداً، كلهم من أولهم إلى آخرهم، وزعتُ عليهم استبانة حتى عرفت رأيهم في القضية الفلانية، وهكذا، هذه الأشياء تجدونها أحياناً في بعض الدورات التي في البرمجة ونحوها ويعتبرون أن هذا دقة في الكلام، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ثم قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى... يقول عن مكة: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ما في أحد من المشركين قال: المانجو في ذلك الوقت ما كان يجبى إليه، والثمار التي في شرق آسيا، وبعض البلاد الغربية ما كان يجبى لمكة في ذلك الوقت، لا، وإنما المقصود مما يجبى عادة لمثله، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير يعني: ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس، وكانوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعده في المنزلة، والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإن كان حرًّا أظلته منه بأجنحتها.
وقوله: فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يكف أولهم على آخرهم؛ لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له.
قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة، يردون أولاها على أخراها، لئلا يتقدموا في المسير، كما يفعل الملوك اليوم.
صيغة الفعل المضارع تصور كأنك ترى الجيش، وقد اجتمع ويتحرك وقد قُسم وجُعلت كل طائفة منه على منزلتها ومكانها اللائق بها فهم يوزعون، يكف أولهم على آخرهم؛ لئلا يتقدموا، لئلا يحصل انتشار واختلاط وتداخل، والذي يتقدم يعاد فيرجع مكانه فَهُمْ يُوزَعُونَ، حشروا فالطيور لا تتفرق يرد أولها على آخرها لا ألا تتقدم مثلاً، وهكذا الجن، وهكذا فإن الأعداد الكبيرة حينما تجتمع فإنهم قد لا يسيرون بالانتظام المطلوب، وإنما يحتاجون إلى من يرد أولهم على آخرهم.
وقوله: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ أي: حتى إذا مر سليمان بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل، قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ففهم ذلك سليمان منها.
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها عليّ، من تعليمي منطق الطير والحيوان، وعلى والدي بالإسلام لك، والإيمان بك، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: عملا تحبه وترضاه، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أي: إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك.
قوله -تبارك وتعالى- عن قول النملة للنمل: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ الحطم بمعنى الكسر، وفهم بعضهم: بعض المتكلفين ممن ليسوا من أهل العلم، وبعض من يتكلم على الإعجاز العلمي في القرآن، قال: هذا فيه إعجاز في تركيب النمل، فالنملة فيها مادة الزجاج، فقال: لا يَحْطِمَنَّكُمْ والتحطيم يكون للزجاج، طيب وتحطيم الأصنام هل فيها مادة الزجاج؟! والنار سميت الحطمة على أساس أنها يتحطم فيها الزجاج! هذه عجمة في الفهم، فعد بعضهم هذا من الاكتشافات العلمية، وأن التعبير هنا جاء في خصوص النمل، إذاً كلمة يحطم أوسع من ذلك، ولا تقال لما يكون من الزجاج خاصة، ولا زال الناس يستعملونها إلى اليوم، فيما كان من الزجاج وغيره، والله المستعان.
وهذا الكلام من هذه النملة فيه من اللطف في العبارة والاعتذار لسليمان -عليه الصلاة والسلام- والنصح لقومها، وقد نقل بعض المفسرين فيه أشياء كثيرة هي من قبيل التكلفات المنقولة عن بني إسرائيل، تكلم بعضهم في اسم النملة ومن أي قبيلة، وتكلم في وادي النمل أين يقع؟ كل هذا مما لا يفيد ولا حاجة إليه، ولا دليل يدل على ذلك، وللحافظ ابن القيم رحمه الله كلام جميل بهذا المعنى، حيث قال -رحمه الله تعالى:
"ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة للعموم، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنوا من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول وهو خشية أن يصيبهم مضرة الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك، وهذا من أعجب الهداية.
وتأمل كيف عظم الله سبحانه شأن النمل بقوله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، ثم قال: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي ودل على أن ذلك الوادي معروف بالنمل كوادي السباع ونحوه، ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة، ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنا لا يدخل عليهم فيه سواهم، ثم قالت: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ فجمعت بين اسمه وعينه، وعرّفته بهما وعرّفت جنوده وقائدهم ثم قالت: وهم لا يشعرون فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ويدخلوا مساكنهم، ولذلك تبسم نبي الله ضاحكا من قولها، وإنه لموضع تعجب وتبسم، وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ: "نهى عن قتل النمل، والنحلة، والهدهد، والصُّرد"[2]"[3].
النملة بعضهم يقول: إنها تسبح كما جاء في حديث النبي الذي قتل قرية النمل، فكانت أمة تسبح، وعاتبه الله على ذلك، وبعضهم يقول: لا ضرر فيها فإن أضرته قتل ما يضره منها، وبعضهم يقول: المنهي عن قتله هنا النمل السليماني وهو الأسود طويل القوائم سريع الحركة، فإنه لا يؤذي بخلاف النمل الصغير الذي يؤذي، فبعضهم -كالخطابي والبغوي- يقول: المقصود بالنمل النمل السليماني هو الذي نهي عن قتله لا سائر النمل.
والنمل يمكن أن يُبعد عن طريق غير القتل، ويمكن أن يُتعوذ منه ثلاثا فيذهب، وهذا مجرب ومشاهد تقول للنمل هذا ثم يختفي، بعض الصحابة كان يجلس بين التنورين ويتوعدها فتذهب، إذا شكا أهله النمل قال لها ذلك، والنهي عن قتل النحلة؛ لمنافعها، والصُّرد طائر أكبر من العصفور رأسه كبير، لونه أسود وأبيض كثير الريش، نهي عن قتله، بعضهم يقول: لأنه لا يؤكل، وقتله عبث فهو لا يضر، وما نهي عن قتله فإنه لا يحل أكله، وبعضهم يقول: لا يحل أكله؛ لأنه يفترس صغار الطير، وبعضهم يقول غير هذا، والعرب كانت تتشاءم به؛ نظراً لاسمه، والنبي ﷺ أراد أن يرفع ذلك فنهى عن قتله، يعني كانوا يكرهونه فيقتلونه ليتخلصوا منه، فنهى عن قتله ليرفع عنهم هذا التشاؤم به، وهو لا يضر، قتله عبث، بخلاف الغراب، والحِدَأة، والكلب العقور، وأمثال هذا.
وقال -رحمه الله: "وفي الصحيح عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة فأمر بجهازه فأخرج، وأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟ فهلا نملة واحدة[4]، وذكر هشام بن حسان أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل شدة فأمر الأحنف بكرسي فوضع عند تنورين فجلس عليه ثم تشهد ثم قال: لتنتهن أو ليحرقن عليكن ونفعل، قال: فذهبن.
وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير قال: قال أبو موسى الأشعري: إن لكل شيء سادة، حتى للنمل سادة، ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سماواته على عرشه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه قال: خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون فإذا هم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو مستلقية على ظهرها فقال: ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم، ولهذا الأثر عدة طرق، ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره وقال: الإمام أحمد حدثنا قال: خرج سليمان بن داود يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإما أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تهلكنا، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، ولقد حدثني أن نملة خرجت من بيتها فصادفت شق جرادة فحاولت أن تحمله فلم تطق، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها قال: فرفعتُ ذلك من الأرض"[5].
يعني هذا الذي كان يراقبها رفع الجزء هذا من الجرادة، قطعة من الجرادة عجزت عن حملها فذهبت تستدعي جماعة من النمل؛ ليحملنها معها، فأخفاه عنها، فجاءت فما وجدت الجرادة.
قال -رحمه الله: "فطافت في مكانه فلم تجده فانصرفوا وتركوها، قال: فوضعتُه، فعادت تحاول حمله، فلم تقدر فذهبت وجاءت بهم، فرفعتُه فطافت، فلم تجده فانصرفوا قال: فعلت ذلك مراراً، فلما كان في المرة الأخيرة استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها وقطعوها عضوا عضوا"[6].
يعني ظنوا أنها تكذب.
وقال -رحمه الله: "قال شيخنا: وقد حكيت له هذه الحكاية فقال: هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب، والنمل من أحرص الحيوان ويضرب بحرصه المثل، ويذكر أن سليمان -صلوات الله وسلامه عليه- لما رأى حرص النملة، وشدة ادخارها للغذاء استحضر نملة، وسألها كم تأكل النملة من الطعام كل سنة؟ قالت: ثلاث حبات من الحنطة، فأمر بإلقائها في قارورة وسد فم القارورة، وجعل معها ثلاث حبات حنطة، وتركها سنة بعدما قالت، ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة، فوجد حبة ونصف حبة، فقال: أين زعمك؟ أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات، فقالت: نعم، ولكن لما رأيتك مشغولا بمصالح أبناء جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة، فاقتصرت على نصف القوت، واستبقيت نصفه، استبقاء لنفسي، فعجب سليمان من شدة حرصها، وهذا من أعجب الهداية والعطية.
ومن حرصها أنها تكد طوال الصيف وتجمع للشتاء علماً منها بإعواز الطلب في الشتاء وتعذر الكسب فيه، وهي على ضعفها شديدة القوى فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها، وتجره إلى بيتها، ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو كزبرة يابس فأدنيته إلى أنفك لم تشم له رائحة، فإذا وضعته على الأرض أقبلت النملة من مكان بعيد إليه، فإن عجزت عن حمله ذهبت وأتت معها بصف من النمل يحتملونه، فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه؟ فهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع، فتأتي من مكان بعيد إلى موضعٍ أكلَ فيه الإنسان وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره فتحمله وتذهب به، وإن كان أكبر منها، فإن عجزت عن حمله ذهبت إلى جحرها وجاءت معها بطائفة من أصحابها فجاءوا كخيط أسود يتبع بعضهم بعضا حتى يتساعدوا على حمله ونقله، وهي تأتي إلى السنبلة فتشمها فإن وجدتها حنطة قطعتها ومزقتها وحملتها، وإن وجدتها شعيرا فلا، ولها صدق الشم وبُعد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها.
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أن لها رائدا يطلب الرزق، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئا لنفسها دون صواحباتها، ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل لا يسقط في عسل أو نحوه فإنه يحفر حفيرة، ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيرا ويملؤه ماء ثم يضع فيه ذلك الشيء، فيأتي الذي يطيف به فلا يقدر عليه فيتسلق في الحائط ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء فتلقى نفسها عليه، وجربنا نحن ذلك"[7].
يعني إذا جاء ووضع مثلاً عسلاً أو نحو ذلك، ما يريد أن يصل النمل إليه، وضعه مثلاً في طَسْتٍ فيه ماء ووضع قارورة العسل بوسطهما مثلاً فما تستطيع تخوض الماء حتى تصل إليه فتصعد الجدار ثم السقف فإذا حاذته ألقت بنفسها على العسل.
وقال -رحمه الله: "وأحمى صانعٌ مرة طوقا بالنار ورماه على الأرض؛ ليبرد، واتفق أن اشتمل الطوق على نمل فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار فلزم المركز ووسط الطوق، وكان ذلك مركزا له وهو أبعد مكان من المحيط"[8].
يعني الحديدة مدورة حامية عند الحداد ألقاها في الأرض لتبرد فكان في الموقع الذي ألقاها فيه نمل فاجتمع النمل في الوسط تماماً ليبتعد عن الطوق؛ لأن كل طرف حار بهذه الدائرة من الحديد، ما فيه مخرج فجلس أبعد ما يكون عن الأطراف، في الوسط، ابتعد عن الحلقة فجلس في المركز، وهذا كلام الحافظ ابن القيم.
- رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء، برقم (1757)، وأحمد في المسند، برقم (9972)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (19160)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (5728)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد برقم (6087)، وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل وهو ضعيف.
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم (69).
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، برقم (3141)، ومسلم، كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل، برقم (2241).
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم (69).
- المصدر السابق (69-70).
- المصدر السابق (70).
- المصدر السابق (70).