بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [سورة النمل:20، 21].
قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما، عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندسا، يدل سليمان ، على الماء، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض، فإذا دلهم عليه أمر سليمان ، الجان فحفروا له ذلك المكان، حتى يستنبط الماء من قراره، فنزل سليمان يوما، بفلاة من الأرض، فتفقد الطير ليرى الهدهد، فلم يره، فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ.
حدَّث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا، وفي القوم رجل من الخوارج، يقال له: "نافع بن الأزرق"، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس، فقال له: قف يا ابن عباس، غُلبتَ اليوم، قال: وَلِمَ؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ، ويحثو على الفخ ترابًا، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ، فيصيده الصبي، فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: رددت على ابن عباس، لما أجبته، ثم قال له: ويحك! إنه إذا نزل القَدَر عَمي البصر، وذهب الحَذَر، فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبداً.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التفقد هو تطلُّب ما غاب عنك والتعرف على أحواله، وهنا جواب سؤال مقدر وهو أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- لما حشر له جنوده من الجن والإنس والطير قال: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ، فيمكن أن يقال عن كيفية معرفة سليمان غياب الهدهد ببساطة: إنه تفقد الطير فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ولا يبعد أن يكون عند سليمان -عليه الصلاة والسلام- من صنوف الطير لربما ما يمثلها، يعني أن عنده هدهداً واحداً مثلاً من هذا النوع من الطير؛ لأنه قال: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ لو كان عنده جمع كبير من هذا النوع لقال: فقدت واحداً من هذا النوع، لكن قال مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ فـ"ال" هنا عهدية، فهو هدهد معهود.
والسؤال إذا كان بهذا الاعتبار كيف افتقده، كيف عرف أنه غاب؟
أقول: لما تفقد الطير، ولكن هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو جواب لو صح، لكن ذلك كله مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل، وهذا لا يمكن أن يُتحقق من صحته، بمعنى أنه احتاج إليه؛ لأنه كان إذا نزل منزلاً واحتاج إلى الماء فالهدهد هو الذي يدل على مواقع الماء، وعلى بعده من ظاهر الأرض، وكم يحتاج أن يحفر حتى يصل إلى الماء، فيزعمون أن الهدهد يعرف ذلك، والله تعالى أعلم.
ولهذا اعترض نافع بن الأزرق -وهو كثير الاعتراض على ابن عباس- فقال كيف يرى بهذه القدرة العجيبة يرى الماء تحت الأرض، والصبي يضع له الفخ يعني المصيدة ويضع عليها شيئاً من التراب، ويضع عليها الحبة، فيأتي الهدهد وتصيده هذه المصيدة؟ قال: إذا جاءه القدر عمي البصر، إذا جاء القدر لا ينفعه ما أعطاه الله من إمكانات، وقُدَر من جهة النظر، هذا الجواب، وبعضهم يقول: إن الطير كانت تظله -عليه الصلاة والسلام- إذا غزا، فالطير من فوقه فغاب الهدهد فظهرت إثر ذلك الشمسُ، مكان الهدهد فارغ، ففقده، فقال: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ، وكل واحد من هذه الطيور له مقامه ومكانه، فَهُمْ يُوزَعُونَ [سورة النمل:17]، ويرد أولهم على آخرهم، لا يحصل اضطراب، ولا تداخل فعرف أنه غاب.
وربما يكون هذا وهذا، وكل ذلك يرجع إلى أخبار بني إسرائيل، ويكفي أنه تفقد الطير فقال -نفى ويتفقد جنوده: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ وهذا الذي ذكره من أن الهدهد يرى الماء؛ ولذلك احتاج إليه ففقده لما طلبه، هذا الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله- فيكون ذلك تعليلاً لطلبه، وتعريفاً لسبب فقده، والله تعالى أعلم.
والإمام ابن القيم -رحمه الله- له كلام في هذا قال: "فصل: وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض، لا يراه غيره، ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أن قال لنبي الله سليمان وقد فقده وتوعده فلما جاءه بدره بالعذر، قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطابا هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه، فقال: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت به، وهو خبر عظيم له شأن، فلذلك قال: وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ والنبأ هو الخبر الذي له شأن والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المُخبَر لتلقي الخبر، وأوجبت له التشوق التام إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج.
ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفاً مؤكدا بأدلة التأكيد فقال: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ثم أخبر عن شأن تلك الملكة وأنها من أجل الملوك بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك، ثم زاد في تعظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم، ثم أخبره بما يدعوهم إلى قصدهم، وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال: وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وحذف أداة العطف من هذه الجملة، وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها إيذانا بأنها هي المقصودة، وما قبلها توطئة لها، ثم أخبر عن المُغوى لهم الحامل لهم على ذلك، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدهم عن السبيل المستقيم وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له.
ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراج الخبء في السماوات والأرض، وهو المخبوء فيهما من المطر، والنبات، والمعادن، وأنواع ما ينزل من السماء، وما يخرج من الأرض، وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض.
قال صاحب الكشاف: وفي إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته، ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السموات والأرض، جلت قدرته، ولطف علمه، ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم في روائه، ومنطقه وشمائله، فما عمل آدمي عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله"[1].
خلاصة كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: إن الهدهد لما غاب توعده سليمان -عليه الصلاة والسلام- لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبـِينٍ، وإنه حينما جاء الهدهد تكلم مع سليمان بكلام الواثق، ولم يحقر نفسه، والعلم والمعرفة قد تؤخذ من الأدنى، ولا يستنكف من ذلك، فالهدهد يخاطب سليمان -عليه الصلاة والسلام- ويقول: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وهذا يدل على كمال اطلاعه، ومعرفته للواقعة، وأنه قد ألم بها وعرفها من جوانبها المختلفة، ولم يأخذ ذلك من طرف عابر ثم قال: وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، فهو مع الإحاطة أيضاً متيقن، وعبر بالنبأ؛ لأن النبأ لا يقال إلا في الأمور التي تكون في غاية الأهمية، أمور مهمة، وهذا يحصل به تشوف وتشوق لمضمون الخبر، فأجملَ له هذا بهذه الطريقة؛ من أجل جذب نفس السامع حتى يستفرغ قلبه لتلقي الخبر.
ثم بعد ذلك قال له: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، ابتدأ بالمرأة؛ لأنها هي المقصودة هي المطاعة، والخبر بعد ذلك يتعلق بها لما جاءت، واختبار سليمان -عليه الصلاة والسلام- لها، ثم قال: وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وذكر حالهم، وذكر الداعي، وما تسبب عن وقوعهم في مثل هذا الفعل، وهو عبادة غير الله -تبارك وتعالى- إلى آخر ما ذكر، وأن سليمان -عليه الصلاة والسلام- جاوبه بقوله: سَنَنظُرُ وهذا أيضاً يدل على كمال تحريه، وما يطلب من التوثق من الأخبار المنقولة، سننظر، فيتثبت من هذا النقل أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وقدم الصدق لما يوجبه حسن الظن، ثم قال: اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ علمه كيف يكون الأدب في مثل هذه الحال، وأنه يتنحى قليلاً؛ حشمة وأدباً كما يُفعل بين يدي الملوك، لكنه يكون بمحل حيث يسمع ما يدور بينهم من المجاوبة والمحاورة، إذا ألقي إليهم هذا الخطاب من أجل أن يرجع بالخبر إلى سليمان -عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر كلامها.
وقوله: لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا قال الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد، عن ابن عباس: يعني نتْف ريشه.
وقال عبد الله بن شداد: نتْف ريشه وتشميسه، وكذا قال غير واحد من السلف: إنه نتف ريشه، وتركه مُلْقًى يأكله الذر والنمل.
لم ينتف ريشه؛ لأن الخبر صار صحيحاً، وعقوبة نتف ريشه وتركه ملقى يعني هذه العقوبة المقررة في حال كونه كاذباً.
وهذه كلها لا دليل عليها، قال: لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ما هذا العذاب؟ الله أعلم، بعضهم يقول: قص الجناح لئلا يطير الطائر، وإذا قص جناحه فإن ذلك يؤثر فيه، ويؤلمه، يعني: فقد خاصيته وهي الطيران، وبعضهم يقول: نتف ريشه، يبقى بلا ريش، والطائر إذا نتف ريشه صار في حال من الهيئة، أو الصورة التي تنفر عنها النفوس، وتستهجنها، ثم بعد ذلك يكون عرضة لكل آفة، وبعضهم يقول: النتف مع الحبس في الشمس إلى غير ذلك مما ذكر، وبعضهم يقول: يُحبس مع غير نظرائه من الطير، يعني يوضع مع أشكال أخرى من الطيور، فلا يجد سلوته بينها، وكل هذا لا دليل عليه، قال: لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا لكن الشيء الذي قد يرد وله وجه أيضاً حينما يسأل عنه هو أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- نبي وملك، فهو من أئمة الهدى والعدل، فكيف يعذب بهيمة والنبي ﷺ نهى أن تُجعل البهيمة غرضاً[2]، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها[3]؟
فالجواب عن هذا أن يقال: إن الله -تبارك وتعالى- سلطه على ذلك فهو من جملة جنوده، ادخره له فعامله بمقتضى هذا، فيكون ذلك خاصاً به، ولو جاء أحد وقال: أنا سأعاقب هذه البهيمة؛ لأنها خرجت قبل أن يؤذن للبهائم بالخروج، انفلتت أو فارقت القطيع أو نحو هذا، ما هي هذه العقوبة التي يريد أن يعاقبها بها؟ هي بهيمة لا تفقه ولا تفهم، فإن كان ما يعهد من ضرب -يعني يسوغ مثله للبهائم- ليردها أو نحو ذلك فلا إشكال، لكن التعذيب أو جعلها محبوسة في الشمس أو....، هذا لا يجوز، لا يجوز تعذيب البهائم، لكن سليمان -عليه الصلاة والسلام- سُلط عليه؛ لأنه كان من جنوده، فيتعامل معهم بمقتضى هذا، فيكون خاصاً بسليمان -عليه الصلاة والسلام، فهذا الطير يفهم ويرد على سليمان -عليه الصلاة والسلام، ويأتي بمثل هذا الخبر، ويعتذر إليه فهو واحد من هؤلاء الجنود.
وقد أخذ بعض أهل العلم من قوله: لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا مع أن الطائر صغير -هذا الهدهد معروف أنه صغير أصغر من الحمامة فوق العصفور، قال فيه: لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا، مع أنه لا يحتمل ولربما إذا عذب كثيراً يموت، فأخذ منه بعض أهل العلم معنى في التربية، وهو أن العقوبة على قدر الجناية، وليس باعتبار الجاني.
وهذا الكلام فيه إجمال، فيقع على صور صحيحة، ويكون له بعض الأحوال، والصور تحتاج إلى نظر وتأمل، ليس على إطلاقه -والله أعلم- لكن ما يقع عليه على قدر الجناية: الرجم للزاني، فإذا كانت امرأة -والمرأة ضعيفة، وهي عورة- فلا يقال: إنها لا ترجم لضعفها، وإنما العقوبة على قدر الجناية إذا كانت العقوبة الرجم، أو هذا الرجل مصاب بمرض أو أمراض فلا يقال: يعفى عنه من أجل المرض، ولكن الجلد يمكن أن يؤخر حتى يبرأ ثم بعد ذلك يجلد؛ لئلا يأتي الحد على نفسه.
لكن إذا كان المقصود الإزهاق مثل الرجم فلا يقال: والله إنه مريض ويعاني من أمراض وضغط وسكر إلى آخره، فالعقوبة على قدر الجناية وليس باعتبار الجاني، وأحياناً يكون هذا الإنسان قد بلغ لكن قد يقال: هذا هيئته هيئة صغير، وكأن صورته أو بنيته صورة أو بنية طفل يقال العقوبة على قدر الجناية، لكن كما سبق بعض الصور يراعى فيها حال الإنسان، حال الجاني في غير الحدود باعتبار أن يفرق بين من كان له حسنات ماحية، وقدم صدق في الإسلام، ومن كان ذلك قد وقع منه على سبيل الفلتة، أو ما كان متمرساً بالشر، والفساد والإفساد، فهذا في باب التعزيرات التي يراعى فيها حال الجاني.
وقوله: أَوْ لأذْبَحَنَّهُ يعني: قتلْه، أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي: بعذر واضح بين.
وقال سفيان بن عيينة، وعبد الله بن شداد: لما قدم الهدهد قال له الطير: ما خلفك؟ فقد نذر سليمان دمك، فقال: هل استثنى؟ فقالوا: نعم، قال: لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فقال: نجوت إذًا.
وهذا كله ليس فيه خبر عن رسول الله ﷺ، ومثل هذا غالباً يكون تُلقي عن بني إسرائيل.
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة النمل:22-26].
يقول تعالى: فَمَكَثَ الهدهد غَيْرَ بَعِيدٍ أي: غاب زمانًا يسيرًا، ثم جاء فقال لسليمان: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ أي: اطلعتُ على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي: بخبر صدق حق يقين.
وسبأ: هم: حِمْير، وهم ملوك اليمن.
ثم قال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، قال الحسن البصري: وهي بلقيس بنت شَراحيل ملكة سبأ.
قوله هنا: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ يقول: فمكث: يعني الهدهد غاب زماناً يسيراً ثم جاء لسليمان وقال: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ، وبعضهم يقول: مكث أي سليمان -عليه الصلاة والسلام- لما قال ما قال لم يمضِ عليه سوى وقت يسير حتى جاء الهدهد وقال له ما قال، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
وإذا نظرت إلى السياق الذي جاء فيه هذا فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول عن سليمان -عليه الصلاة والسلام: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحـَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فمكث: إذا نظرت إلى المخبَر عنه آخراً، فالضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو الهدهد، وإذا نظرت إلى السياق واعتبرته فيما مضى فالمتكلم هو سليمان -عليه الصلاة والسلام- فمكث أي سليمان -عليه الصلاة والسلام- ولكن إذا نظرت إلى ما بعده وهو قوله -تبارك وتعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ فهذا يدل على أن القائل الذي مكث غير بعيد هو الهدهد، وهذا أقرب -والله تعالى أعلم، وليس سليمان -عليه الصلاة والسلام.
والمعنى في النهاية قريب سواء قلنا: الذي مكث هو سليمان مدة يسيرة، أو قلنا: الذي مكث مدة يسيرة هو الهدهد، المعنى المقصود: أن ذلك لم يطل كثيراً بعدما قال سليمان -عليه الصلاة والسلام- ما قال حتى جاء الهدهد واعترض إليه بهذا العذر، ثم قال: وسبأ هم حمير، يقول الله تعالى: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ هذه قراءة الجمهور، و"سبأ" جمهور القراء يقرءونها مصروفة سبإٍ بنبإ يقين باعتبار أن سبأ اسم رجل، أو اسم للحيّ، وبعضهم -كابن كبير وابن عمر- يقرؤه غير مصروف وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأَ والممنوع من الصرف يجر بالفتحة كما هو معلوم، فهو بهذا يكون باعتبار أنه اسم المدينة، وبعضهم يقول: هو اسم امرأة سميت بها القبيلة، وهذا لا دليل عليه.
أما المرأة -هذه الملكة- فكما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كما هو المشهور- أن اسمها بلقيس ملكة سبأ، وقد جاء في حديث عند أبي داود والترمذي بإسناد صحيح أن النبي ﷺ سئل عن سبإ هل هو امرأة أو أرض؟ فكان جوابه ﷺ أنه ليس بأرض ولا امرأة ولا مدينة، وإنما هو رجل له عشرة من الولد وهؤلاء العشرة من العرب طبعاً، ستة تيامنوا وأربعة تشاءموا، يعني أربعة ذهبوا ناحية الشام، وستة ناحية اليمن فهو اسم رجل، وبهذا الاعتبار تكون القبيلة نسبت إليه، يقول: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ، وليس المقصود هنا في هذه الآية جئتك من سبإ هذا الرجل، بنبإ يقين، فيمكن أن يراد به القبيلة التي تنتسب إلى هذا الرجل مثلاً، نسبت إليه، وقد يطلق على الناحية، ولهذا من أهل العلم من يؤكد أن سبأ أيضاً اسم مدينة في اليمن، النبي ﷺ أخبر أنه ليس بهذا ولا هذا، لكن سبأ الذي يُنسبون إليه هو رجل فسميت به القبيلة، هل يمنع هذا تسمى الناحية التي كانوا يسكنون فيها بسبإ؟ لا يمنع، لكن في الأصل هو اسم رجل نسبوا إليه له عشرة من الولد كما سبق، هذا الرجل يقال له: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود، والله تعالى أعلم، يقول: هم حمير، وهم ملوك اليمن.
هذا كما سبق وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مما يقوم بها ملكها، ويصلح لمثلها، مع أنها لم تؤت مثلاً تسخير الجن والطير، بعضهم يقول: ما أوتيت مثل لحية سليمان -عليه الصلاة والسلام، ومثل هذا لا يرد عند من يفقه العربية؛ لأن ذلك محمول على ما كانوا يعهدون من المخاطبة، وهو ما يسميه الشاطبي -رحمه الله- بالعموم الاستعمالي، يعني ليس المقصود به العموم الشامل المحيط بكل الأفراد، ما يبقى شيء في الدنيا إلا أوتيت منه ليس هذا المقصود، فهذا يفهم من السياق أن المقصود به: ما يصلح لهذا وما جرت به العادة.
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌيعني: سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب، وأنواع الجواهر واللآلئ.
وقال علماء التاريخ: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم، كان فيه ثلاثمائة وستون طاقة من شرقه ومثلها من غربه، قد وٌضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة، وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحًا ومساءً؛ ولهذا قال: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيـْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي: عن طريق الحق، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ.
وصف الله عرش هذه الملكة بأنه: عَرْشٌ عَظِيمٌ، وهذا القدر هو الذي جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى، وكتب التفسير مليئة بالروايات في وصف هذا العرش مما هو متلقي عن بني إسرائيل ولا دليل عليه، وفيه من التناقضات والمبالغات ما الله به عليم، يذكرون أشياء عجيبة وأشياء لا يمكن أن تتفق، يعني في مساحته مثلاً في طوله في عرضه أشياء غير متفقة تماماً مما يُعلم أنه من عند غير الله ففيه هذا الاختلاف الكثير.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ معناه وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي: لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده"، فجعل قوله: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِيتعلق بقوله: فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ يعني لا يهتدون ألا يسجدوا لله، ومثل هذه الأشياء تمر أحياناً عابرة على من يقرأ، لكن فرق بين قراءة وقراءة، فابن كثير يقصد هذا المعنى، قوله: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ كيف تفسرها؟ ابن كثير يرى أنها متعلقة بقوله: لا يَهْتَدُونَ، فهم ما عرفوا الطريق إليه وإلى توحيده وعبادته، فصاروا يوجهون العبادة للشمس.
الحاصل أن في هذه الآية -أعني قوله -تبارك وتعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا- قراءة الجمهور بالتشديد في أَلَّا، والقدر الذي نتيقنه هو أن الوقف على قوله: فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ على هذه القراءة وقف غير تام، يعني الكلام مرتبط بما بعده، لا زال المعنى لم يكتمل، فالوقف غير تام على قراءة الجمهور: أَلَّا، والوقوف على رءوس الآي كثير من أهل العلم يقولون: هو السنة، وقد ورد ما يدل عليه، لكن الكلام في اتصال المعنى، فالمعنى لا زال متصلاً على هذه القراءة قطعاً، لكن يبقى النظر في قوله: أَلَّا يَسْجُدُوا يتعلق بماذا مما قبله؟ لأن هذا يتبين به المعنى.
فالعلماء مختلفون في مثل هذا، وقد تقدم قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وبعضهم يقول: إنه مرتبط بقوله: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فقوله: أَلَّا مرتبط بزين كما يقول ابن الأنباري، فيكون المعنى زين لهم الشيطان ألا يسجدوا، وبعضهم يعبر عن هذا "زين لهم أن يسجدوا لله" بمعنى أَلَّا يَسْجُدُوا، صدهم، وبعضهم يقول: وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم، يقولون: إنه متعلق بقوله: فَصَدَّهُمْ صدهم أَلَّا يَسْجُدُوا، يعني لئلا يسجدوا.
وبعضهم يقول: هو متعلق بقوله: أَعْمَالَهُمْ يعني زين لهم هذا العمل القبيح، وهو ترك السجود لله -تبارك وتعالى، فيكون ذلك من قبيل البدل، أي بدل من أعمالهم؛ ولهذا يقول ابن جرير -رحمه الله: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا، يعني وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ لئلا يسجدوا لله.
وبعضهم كابن كثير -رحمه الله- يقول: متعلق بيهتدون، فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله على هذا الاعتبار، ويقولون: إن "لا" زائدة، يعني "ألّا" أصلها "أنْ ولا"، فأدغمتا، بعضهم يقول: إن "لا" هذه زائدة، فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وتكون الزيادة لتأكيد وتقوية المعنى، فالقدر المشترك بين هذا كله أن الوقف غير تام، والكلام لا زال -أَلَّا يَسْجُدُوا- مرتبطاً بما قبله.
والقراءة الأخرى للكسائي قراءة متواترة، أَلَا يَسْجُدُوا بغير تشديد فيأَلَّا، وعلى هذا الاعتبار يكون الوقف تاماً أو غير تام؟ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَأَلَا يَسْجُدُوا وتكون أَلا هذه حرف تنبيه واستفتاح، والياء حرف نداء، ويكون اسجدوا فعل أمر كأنه يقول مثلاً: إن هناك منادى محذوفاً تقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا، يعني لا تكون الياء للمضارعة، ويدل على هذا أن الفعل مجزوم، والجازم لا يوجد، فدل على أن الفعل هنا ليس مضارعاً يَسْجُدُوا ليست يسجدوا بمعنى يسجدون، وإنما ألا يا هؤلاء اسجدوا هذا فعل أمر والياء للنداء، على قراءة الكسائي، وفي قراءة غير متواترة تروى عن ابن مسعود هلّا يسجدوا فتكون للتحضيض، وفي قراءة عن أبيّ ألا تسجدوا لله، والله تعالى أعلم.
يعلم كل خبيئة: فيدخل فيه ما يذكره السلف من النبات إلى الأرض، والقطر من السماء، يخرج الخبء يعني المخبوء في السماوات فيشمل المطر والنبات في الأرض، وما يخرج منها كالمعادن، وغير ذلك مما نعلمه وما لا نعلمه.
وقوله: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ أي: يعلم ما يخفيه العباد، وما يعلنونه من الأقوال والأفعال، وهذا كقوله تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [سورة الرعد:10].
وقوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي: هو المدعو الله، وهو الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، الذي ليس في المخلوقات أعظم منه.
إذا كان يخرج الخبء في السماوات والأرض فهو يعلم ما في النفوس وما تكنّه الصدور، لا يخفى عليه خافية سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ فكل هذا يعلمه -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه منه شيء.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: إن النهي معلل لكونه يدعو إلى الخير، فنهى النبي ﷺ عن قتله، فلا يجوز قتله، ومن ثم فإن أكله يكون محرماً؛ لأنه لا سبيل إلى قتله، فمن قتله فإن ذلك شيء محرم، فلا يستباح به الأكل، وقد يكون نهي عنه لهذا السبب، وقد يكون نهي عنه لغير ذلك، وسبقت الإشارة إلى هذه الأربع: النملة، وما جاء في ذلك، وأن من أهل العلم كالبغوي والخطابي من حمله على النمل السليماني، وليس عموم النمل قالوا: لأنه لا أذى فيه ولا ضرر، والنمل أيًّا كان نوعه مهما أمكن تفادي القتل له فإن ذلك مطلوب، فإنه يمكن أن يستعيذ منه أو نحو ذلك، فإن تضرر به قتله، والنحلة لمنافعها، والصُّرد طائر أكبر من العصفور قليلاً، رأسه كبير، ولونه أسود وأبيض، يأكل صغار الطيور، رائحته غير جيدة، فبعضهم قال: حرم لأنه مفترس يأكل الطيور الصغيرة، وبعضهم يقول: نهى النبي ﷺ عن قتله؛ لأن العرب كانت تتشاءم به، وتكره اسمه، فنهى النبي ﷺ عن قتله؛ ليرفع ما في نفوسهم، وبعضهم يقول: لا ضرر فيه ولا أذى فلا يقتل بخلاف الغراب والحدأة والحية ونحو ذلك، وبعضهم يقول: هو أشبه ما يكون بالجلّالة؛ لأنه منتن، والله أعلم.
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [سورة النمل:27-31].
يخبر تعالى عن قِيل سليمان ، للهدهد حين أخبره عن أهل سبإ وملكتهم: قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ أي: أصدقت في إخبارك هذا، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ في مقالتك، فتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك؟
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، وذلك أن سليمان، -عليه السلام، كتب كتابًا إلى بلقيس وقومها، وأعطاه لذلك الهدهد فحمله، قيل: في جناحه كما هي عادة الطير، وقيل: بمنقاره، وذهب إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس، إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها، فألقاه إليها من كُوة هنالك بين يديها، ثم تولى ناحيةً أدبًا ورياسة، فتحيرت مما رأت، وهالها ذلك، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته، ففتحت ختمه وقرأته، فإذا فيه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عـَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها، ثم قالت لهم: يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ تعني بكرمه: ما رأته من عجيب أمره، كون طائر أتى به فألقاه إليها، ثم تولى عنها أدبًا، وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك، ثم قرأته عليهم.
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عـَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فعرفوا أنه من نبي الله سليمان، وأنه لا قبَل لهم به، وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة، فإنه حَصّل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها.
وقوله: أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ يقول قتادة: لا تَجبَّروا عليّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا تمتنعوا ولا تتكبروا عليّ.
قوله -تبارك وتعالى- عن قول سليمان -عليه الصلاة والسلام: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، بعضهم يقول: هذا من المقدم الذي حقه التأخير، يعني يكون هكذا "اذهب بكتابي هذا ألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تولّ عنهم"، وهذا باعتبار أن التولي عنهم يعني الرجوع إلى سليمان -عليه الصلاة والسلام- وهو لا يرجع إليه قبل أن يعرف خبرهم ماذا كان مردود هؤلاء على هذا الخطاب، والكلام إذا دار بين الترتيب، أو التقديم أو التأخير فالمقدم هو الترتيب، ويبقى كما ذكر الله ، ولا يقال: هذا من المؤخر الذي حقه التقديم، ويكون المعنى ظاهراً، يعني هكذا "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم" يعني تأخر قليلاً حتى يحصل بينهم مراجعة، وتكون في موضع تستمع فيه ما يجري من المحاورة والجواب حتى ترجع بالخبر.
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ليس معناه الرجوع إلى سليمان فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ فإذا حصل منه هذا: سمع كلامهم ثم بعد ذلك جاء بالخبر إلى سليمان -عليه الصلاة والسلام- يكون المعنى على هذا الظاهر، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، وهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
وهنا العلماء -رحمهم الله- يختلفون في هذا الذي حصل، يعني هذا الكتاب الذي كتبه سليمان -عليه الصلاة والسلام- هل كان قبل أن يأتيه عرشها أو كان بعد مجيء العرش؟
والسبب الذي أوجب هذا الاختلاف هو أن بعضهم نظر إلى معنى، وهو أنهم قالوا: إن هذا الهدهد جاء بهذا الخبر وسليمان -عليه الصلاة والسلام- قال: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فقالوا: إذا كان الأمر كذلك وهو لم يتحقق من صدق الهدهد، ولا يدري هل توجد أمة بهذه المثابة فعلاً يعبدون الشمس وعندهم ملكة إلى آخره، فكيف يكتب خطاباً ويوجهه إلى قوم لا يدري أنهم موجودون! كيف يكتب ملك خطاباً، ولا يدري هذا الخطاب يصل فعلاً إلى قوم يعني في هذا الوجود أو لا وجود لهم؟ والخبر أصلاً مختلق وإنما تحقق بطريقته فسأل مَن عنده أو جنوده أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [سورة النمل:38] لما رأى العرش عرف حقيقة ما قاله الهدهد، هكذا قالوا، فقالوا: إن هذا الكتاب حصل بعد مجيء العرش، أرسل لهم خطاباً بعد ذلك.
وقال آخرون: بل هذا كان حينما جاء الهدهد بالخبر، وإلا فإن مثل هذا يرِدُ على قوله: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا فهو يتكلم على شيء موجود، وهذا خرج مخرج التحقق، واليقين والتيقن بوجود هؤلاء القوم، أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، ولهذا فإن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن هذا الخطاب أرسل بعدما جاء الهدهد، فأرسل إليهم هذا الخطاب ليتحقق، أرسل إليهم هذا الخطاب ثم قال للهدهد: انظر الجواب وأتني به، ولا حاجة أن يقال: هذا بعد أن جاءوا بعرشها، والله تعالى أعلم.
ثم قولها هنا: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ والملأ هم أشراف قومها، وأهل الرأي أهل الوجاهة يتمالئون على الأمر، فهم الذين يبرمونه، أهل الرأي والنظر، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ وصفته أنه كريم باعتبار المصدر، فهو جاءها من سليمان -عليه الصلاة والسلام- ملك ونبي فصار الخطاب بهذا الاعتبار متصفاً بهذه الصفة أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، وبعضهم يقول: إنها قالت: إنه كريم؛ لأنه مختوم على عادة الملوك بختم الكتب، وبعضهم يقول: إنه كريم باعتبار مضمونه، نظرت في مضمونه فوجدته ابتدأ بالبسملة في غاية الوجازة والفصاحة.
والحافظ ابن كثير هنا يشير إلى معنى وهو الطريقة التي جاء بها الخطاب -هدهد وتنحّى، فغاية ما يستطيعه الملوك هو أن يرسلوا عن طريق الحمام الزاجل الرسالة إلى المكان المعد لهذا، أي مكان خاص، برج للحمام يوضع في هذا البلد، وبرج يوضع في ذلك البلد، فتطير تلقائياً حتى تدخل في هذا البرج، ثم يأخذون الرسالة منها، لكن يأتي هدهد ويُلقي عليها ثم يتنحى قليلاً وينتظر هذا لا يعهد، وليس فيه قدرة الملوك، هذا الذي أشار إليه ابن كثير -رحمه الله.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجـَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلـَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [سورة النمل:32-35].
لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها، وما قد نزل بها؛ ولهذا قالت: يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِأي: حتى تحضرون وتشيرون.
حَتَّى تَشْهَدُونِ يعني بحضرتكم، وسمتْ المشورة فتيا أَفْتُونِي باعتبار ما تتضمنه من حل ما أشكل عليها.
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: مَنوا إليها بعَدَدهم وعُددهم وقوتهم، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا: وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ أي: نحن ليس لنا عاقة ولا بنا بأس، إن شئت أن تقصديه وتحاربيه، فما لنا عاقة عنه، وبعد هذا فالأمر إليك، مري فينا برأيك نمتثله ونطيعه.
قال ابن عباس: قالت بلقيس: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، قال الرب : وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ.
يقول: "قال الرب : وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ" ليست من جملة كلامها، وإنما هذا الذي يسمونه الموصول لفظاً المفصول معنى، يعني أن قوله: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ من كلام الله تصديقاً لقولها وتقريراً له، ليس من بقية كلامها أنها قالت: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، مثلما جاء في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ، لما قالوا قال إبراهيم ﷺ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:81]، قال الله: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [سورة الأنعام:82] فهذا يحتمل أن يكون من كلام إبراهيم ﷺ تكملة له، ويحتمل أن يكون من كلام الله الفصل بينهم، وذكرنا أمثلة لهذا أيضاً في قصة يوسف ﷺ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] هل هو من كلام يوسف ﷺ أو من كلام المرأة؟
وأمثلة هذا كثيرة حتى في هذه السورة له أمثلة متعددة، فتارة يكون في نفس الآية جملة منها، وأحياناً يكون في آية بعدها مستقلة، فهذه المرأة استشارت هؤلاء في هذا الأمر الذي يترتب عليه المصير لها ولقومها، وما اغترت أيضاً بقولهم: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وتفويض الأمر لها تفويضاً مطلقاً على ما يكون من طبيعة البشر من النقص لاسيما المرأة، ومع ذلك كانت بهذا العقل والرجاحة.
وقد ذكرتُ في بعض المناسبات ما جرى من غزو التتار، وما حصل بسبب ذلك من الفساد العظيم، والدمار للممالك الإسلامية من بخارى وما في تلك النواحي إلى بلاد الشام، كل هذا وذكرتُ حينها أصل ذلك ومنشأه من أن تيمور كان قد أرسل وفداً من أجل أن يشتروا له كسوة أو نحو ذلك بأموال عظيمة جداً من بلاد المسلمين، وأن الأمير في تلك الناحية كتب إلى الملك الذي يتبع له بما رأى، وكتب له بالرأي وهو أن يقتلهم، وأن يأخذ ما معهم من أموال، فحصل هذا وقتلهم وأخذ الأموال فغضب تيمور، وأرسل له يتوعده ويتهدده، فكان التتر يتقاتلون مع قوم آخرين من الكفار في المشرق، فاستشار هذا الملكُ وكان له ولد له رأي، وسأل عن طاعة التتار لملكهم فأُخبر أنهم يطيعونه، فأشار على أبيه أن يُسلّم لهم رجلاً واحداً وهو ذاك الأمير الذي قتل هذا الوفد، ويَسْلم المسلمون بعد ذلك، وأشار عليه آخرون بأن يغزوهم، وأن يرد الصاع صاعين فعزم على هذا وغزاهم، وكانوا قد شغلوا بحرب أولئك فأخذ ذراريهم، ومن أموالهم فرجعوا إليه موتورين لم يجدوا أولادهم، فجاءوا وعاثوا في الأرض فساداً، ابتدءوا ببخارى وفعلوا الأفاعيل في وصفٍ يطول ذكره لأمور جرت هناك، أحرقوا البلد وافتضوا الأبكار، وفجروا بالأولاد والنساء، وقتلوا الرجال في الجوامع في كل مكان، وهكذا فعلوا حتى في بلاد الشام، أفعال شنيعة والسبب هذا التصرف الذي لم يسدد، ولم يوفق، وجر على المسلمين مثل هذه الويلات، والله المستعان.
ثم عدلتْ إلى المهادنة والمصالحة والمسالمة والمخادعة والمصانعة، فقالت: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي: سأبعث إليه بهدية تليق به وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك، فلعله يقبل ذلك ويكف عنا، أو يضرب علينا خَرَاجا نحمله إليه في كل عام، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة: -رحمها الله ورضي عنها- ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها!! علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس.
وقال ابن عباس وغير واحد: قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
قد يكون هذا إذا كان لها بصر ومعرفة بهذه الأمور، وأن سليمان -عليه الصلاة والسلام- كان لا يقبل، لكن كان المعروف أن النبي ﷺ يقبل الهدية، ويرد الصدقة، فهنا هل هذا كان خاصاً بسليمان وهي عرفت ذلك أو سألت وعرفت؟ ظواهر الآيات تدل على أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- مع ما عنده من الإمكانات والقُدر وما سُخر له من الريح والجن والإنس لم يكن على دراية من وجودها أصلاً، فضلاً عن حالها، فكيف عرفت عن سليمان -عليه الصلاة والسلام- وأنه لا يقبل الهدية؟ أو إن كان نبياً -إذا كانت تقصد جنس الأنبياء- فالأنبياء يقبلون الهدية.
لكن لربما تكون قصدت شيئاً آخر لا يتصل بالحِل والحرمة، هم من قوم يعبدون الشمس، وإنما نظرت لمعنى آخر وهو أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- إن قبل الهدية فكف عن جهادهم معنى ذلك أنه طالب دنيا، أنه ملك من الملوك، تنفع معه المصانعة ويرضيه العطاء والمال ويكفه عن أهدافه ومقاصده، وإن كان نبياً فهو لا يرضى غير ما دعاهم إليه وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، كأنها تقول: أوَ غير ذلك؟ عمدت إلى طريقة كما يقال الآن: دبلوماسية، نعطيه هدية فننظر كيف يكون؟ فإن قبل هذه الهدية وصارت بيننا وبينه علاقة، أي تواصل واحترام فبها ونعمت، هل نستطيع أن نكفه عن إرادته ومطلبه هذا الذي تضمنته هذه الرسالة أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ هذه الجملة هي الرسالة فقط، هذا الهدف الآن.
التحول من الدين أصعب ما يكون، أصعب الأشياء، الناس يذبون عن دينهم بنفوسهم يفتدونه بنفوسهم ويموتون دونه، وهو يقول: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فمعنى ذلك الخضوع له وأن يكونوا تحت طاعته فيكون هذا فيه ذهاب دولتهم، والتحول عن الدين فهي أرادت أمراً دون ذلك، فهي تعطيه بعض الدنيا؛ ليبقى لها ملكها ويبقى لها دينها من هذا الوجه، ربما يكون لأن الأنبياء يقبلون الهدية، يقبلون الهدية لكنها بهذه المثابة أشبه ما تكون بالرشوة، إذا نظرت إليها بهذا الاعتبار كان الكلام لا إشكال فيه، والله أعلم.
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مـِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة النمل:36-37].
ذكر غير واحد من المفسرين، من السلف وغيرهم: أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك.
هذا يقوله بعضهم ويذكر أوصافاً طويلة في هذا ليس ذلك مما أخذ عن مصدرٍ يوثق به، وإنما هو من أخبار بني إسرائيل، وبعضهم يقول: أهدته مائتي فرس على كل فرس وصيف، أو وصيفة، وأنها ألبستهم لباساً وألبست الوصفاء لباس الوصيفات، والوصيفات لباس الوصفاء، يعني ألبست الذكور لباس الإناث، والإناث لباس الذكور، وأبرزتهم بأحسن حلة وأهدتهم إليه على مائتي فرس، وبعضهم يقول: إنها أرادت أن تختبره بهذا هل يعرف الوصفاء من الوصائف إذا أراد أن يختبرها، ويقول: أهكذا عرشك، بعدما غير فيه؟ لكن كل هذا لا دليل عليه، المقصود أنها أعطته هدية عظيمة تليق بمثله.
هذا الهدف الذي أرادته: مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون، هل تنفع معه المصانعة أو لابد من تحقيق مطلبه وهو الدخول في دينه والانقياد له؟.
فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ أي: الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي: أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف.
بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ليس عامة المفسرين على معناه هذا الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله، ليس معناه: خذوا هذه الهدية التي جئتم بها، وافرحوا بها، وإنما المقصود بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي: تفرحون إذا قدمت لكم الهدية، أنتم الذين تفرحون بمثل هذه المصانعات والهدايا لأنكم أهل دنيا، أما أنا فلست كذلك، إنما أطلب الآخرة وأعطاني الله من الدنيا ما أغناني عن هديتكم هذه بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ بل أنتم الذين تفرحون بالهدية إذا أهديت إليكم.
بعضهم يقول: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ الخطاب موجه للهدهد، وبعضهم يقول: الخطاب للرسول، وهذا هو الأقرب، لكن لعل الذين قالوا: إن الخطاب موجه للهدهد استشكلوا صيغة المفرد في المخاطبة "ارجع إليهم"، وهم قبل ذلك جمع قال: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ، وقال: بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ثم قال: "ارجع إليهم" بصيغة الواحد، ويقال: لا إشكال فيه، فالعرب تخاطب الجماعة بخطاب الواحد إذا لم تقصد واحداً بعينه منه، يقول: ارجع إليهم، هذه طريقة العرب في الخطاب كما يقول ابن جرير -رحمه الله، ويمكن أن يكون هذا الخطاب قد وجه لرئيس الوفد، لكبير الوفد ارجع إليهم، ولا إشكال في هذا، والله أعلم.
لا طاقة لهم بها، يعني إذا كان واحد من الجنود يأتي بعرشها في لحظات كما سيأتي قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَإذاً ماذا سيصنع بها وبقومها في القتال؟!! وعنده الجن قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ [سورة النمل:39] مقامك في مجلسك هذا، لحظات وهو عندك، العرش من اليمن إلى الشام، فهذا في القتال، هذا العفريت لوحده ماذا سيصنع بهم؟ كيف سيقاتلونه؟ لا قبل لهم بها، يقف دونها السيف والحربة والسهم، كثرة الجنود جن وإنس وطير.
أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ أي: مهانون مدحورون.
فلما رجعت إليها رسلُها بهديتها، وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي وقومها، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة، معظمة لسليمان، ناوية متابعته في الإسلام، ولما تحقق سليمان ، قدومهم عليه ووفودهم إليه، فرح بذلك وسَرّه.
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم الجوزيه (70، 71)، تحقيق: محمد بدر الدين أبو فراس النعساني الحلبي، دار الفكر.
- رواه الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بلفظ: "نهى رسول الله ﷺ أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا"، كتاب الأطعمة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة، برقم (1475)، وأحمد في المسند، برقم (1863)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6817).
- رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، برقم (3140)، ومسلم من حديث أبي هريرة ، كتاب التوبة، باب في سعة -رحمة الله تعالى- وأنها سبقت غضبه، برقم (2619).