السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} الآية:8
تاريخ النشر: ٢٠ / شوّال / ١٤٢٧
التحميل: 3627
مرات الإستماع: 12218

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة اقتربت الساعة وهي مكية.

قد تقدم في حديث أبي واقد : أن رسول الله ﷺ كان يقرأ بقاف، واقتربت الساعة، في الأضحى والفِطْر[1]، وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.

بسم الله الرحمن الرحيم

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ۝ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ۝ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ۝ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ۝ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [سورة القمر:1-5].

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها، كما قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ [سورة النحل:1]، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [سورة الأنبياء:1] وقد وردت الأحاديث بذلك، روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس أن رسول الله ﷺ خَطَبَ أصحابه ذات يوم، وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا شِفٌّ يسير، فقال: والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرًا[2].

حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره، روى الإمام أحمد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا جلوساً عند النبي ﷺ والشمس على قُعَيْقِعان بعد العصر، فقال: ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى[3].

وروى الإمام أحمد عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: بُعِثتُ والساعة هكذا[4]، وأشار بإصبعيه: السبابة والوسطى. وأخرجاه.

وروى الإمام أحمد عن وهب السُّوَائي قال: قال رسول الله ﷺ: بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها[5]، وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى.

وروى الإمام أحمد عن الأوزاعي حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله: ماذا سمعت من رسول الله ﷺ يذكر به الساعة؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: أنتم والساعة كهاتين.

تفرد به أحمد -رحمه الله- وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله ﷺ: أنه الحاشر الذي يُحْشَرُ الناس على قدميه.

وقوله: وَانْشَقَّ الْقَمَرُقد كان هذا في زمان رسول الله ﷺ، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "خمس قد مضين: الروم، والدخان، واللزام، والبطشة، والقمر"[6]، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء، أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي ﷺ وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ الساعة اسم من أسماء القيامة كما هو معلوم، وذِكرُ اقتراب الساعة مع انشقاق القمر ووجه الارتباط بين هذا وهذا يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد ﷺ الذي هو من أشرط الساعة، وزمانه أقرب ما يكون إليها كما تدل عليه هذه الأحاديث وغيرها.

وفي الحديث هنا: والشمس على قعيقعان وقعيقعان جبل بمكة مقابل لأبي قبيس الذي عند الصفا، وهنا في هذه الرواية التي أخرجها الإمام أحمد -رحمه الله- عند وهب السوائي قال: وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى، وفي بعض النسخ: السباحة، المقصود بها السبابة يقال لها: المسبحة وهو أحسن من تسميتها بالسبابة، وقيل لها: السبابة؛ لأن الرجل كان إذا أراد أن يسب يشير بها، كما أن هذه يشار بها أيضا عند الدعاء فيقال لها: المسبحة، والسباحة، ويقال لها: السبابة، وتسميتها بالمسبحة والسباحة أحسن من تسميتها بالسبابة.

وقضية انشقاق القمر لا شك أنه انشق انشقاقاً حقيقاً، ورآه الناس كذلك، وقد تكلف بعضهم ففسرها بتفسيرات في غاية البعد كالذي يقول مثلاً: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ يعني: اتضحت نبوة محمد ﷺ ببراهينها وضوحاً لا مرية فيه، كما يقال: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ يعني: لشدة تجليه، فهذا تأويل مستكره بعيد، وهذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى- ومعجزة من معجزات النبي ﷺ، وإلا فما معنى الآيات والخوارق والمعجزات.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك:

روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: "سأل أهل مكة النبي ﷺ آية، فانشق القمر بمكة مرتين، فقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ"، ورواه مسلم[7].

قال في الهامش معلقاً على "مرتين": أي قطعتين، فهو ورد في كثير من الروايات كما سيأتي، وفي غيرها: وصار على فرقتين، ورؤي الجبل بينهما، ويوجد في رواية أخرى ما هو صريح بأنه لا يقصد بمرتين الفرقتين القطعتين؛ لأنه قال بعده: مرة بمكة قبل هجرته، فيبقى النظر هل انشق القمر أكثر من مرة أو لا؟ هذه مسألة ثانية لكن فقط التعليق على قوله مرتين أي قطعتين فيه نظر في تفسير الرواية بهذا.

وروى البخاري عن أنس بن مالك : "أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم آية، فأراهم القمر شِقَّين، حتى رأوا حِرَاء بينهما"[8]. وأخرجاه أيضا من طرق.

روى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: "انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم"[9].

تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه، وأسنده البيهقي في "الدلائل" من طريق آخر.

هذا وإن كان في إسناده شيء من الضعف لكن الأحاديث الأخرى تشهد له، وقولهم هنا: "فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم" المقصود به أن هذه آية رآها الناس في كل ناحية، وهو إن سحر كفار قريش الذين بينه وبينهم الخصومة لا يستطيع أن يسحر أهل الأرض جميعا، يعني أنها آية، وفي هذا وفي بعض الروايات الأخرى أصرح وأوضح من هذا ما يدل على أن الناس الآخرين رأوه كذلك، وفي هذا رد على أولائك الذين أولوه ببعض التأويلات المستكرهة وقالوا: إن هذا لو وقع ورآه أهل مكة لرآه أهل الأرض.

ويوجد من الروايات ما يدل على أنه رآه الناس وجاء المسافرون ونقلوا هذه الأخبار.

روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "انشق القمر في زمان النبي ﷺ"[10]، ورواه البخاري أيضا ومسلم، وروى ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ۝ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه[11].

روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله ﷺ انشق فِلْقَتَين: فِلْقَة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال النبي ﷺ: اللهم اشهد[12]، وهكذا رواه مسلم، والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ شقين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله ﷺ: اشهدوا[13]، وهكذا رواه البخاري ومسلم.

وروى ابن جرير عن عبد الله قال: "لقد رأيت الجبل من فَرْج القمر حين انشق"[14].

ورواه الإمام أحمد عن عبد الله قال: "انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر"[15].

وقوله: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً أي: دليلا، وحجة، وبرهانا يعرضوا أي: لا ينقادون له، بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم، وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي: ويقولون: هذا الذي شاهدناه من الحجج سحرٌ سحرنا به.

قوله: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً فـآيَةً نكرة في سياق الشرط فهي للعموم، أيّ آية يرونها يقولوا: سحر مستمر، كما قال الله في سوره الأنعام: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [سورة الأنعام:7] فهم في الوقت الذي يطلبون فيه الآيات إذا رأوا الآية كذبوا بها، وكما سبق في قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ۝ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ [سورة الحجر: 14، 15] من شده مكابرتهم، ولذلك أخبر الله أنه لم يجبهم في ما يطلبون وما يقترحون من نزول الآيات: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء: 59] يعني: آية مبصرة (فظلموا بها).

ومعنى مُسْتَمِرٌّ أي: ذاهب، قاله مجاهد، وقتادة، وغيرهما، أي: باطل مضمحل، لا دوام له.

هذان القولان بمعنى واحد ذاهب، باطل مضمحل لا دوام له، بمعنى ذاهب فهذا من قبيل اختلاف التنوع الاختلاف الصوري الذي لا يعد من الخلاف، فلا يقال: القول الأول ذاهب، والقول الثاني باطل، الذاهب هو الباطل وهذا هو الأقرب وهو المتبادر لربما من تفسير الآية وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله. 

وبعضهم يقول: المستمر يعني القوي الشديد، وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا عنها، ويقولوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، يقولون: مأخوذ من إمرار الحبل أي شده الفتل، وبعضهم يقول: مستمر أي دائم مطرد، لا يتوقف ولا ينقطع، وبعضهم يقول: مستمر يعني يشبه بعضه بعضاً، وبعضهم يفسره بمعنى آخر فيقول: هو من المرارة، يعني سحر مُر كما يقال: نفاق حامض، ولعل أقرب هذه المعاني -والله أعلم- أنه ذاهب باطل لا بقاء له، ويلي هذا -والله تعالى أعلم- أنه بمعنى المستمر أي دائم متصل.

وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ أي: كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم.

وقوله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ قال قتادة: معناه: أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر.

وقال ابن جريج: مستقر بأهله، وقال مجاهد: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي: يوم القيامة.

هذه الأقوال الثلاثة لا تتنافى، بل هي ترجع إلى شيء واحد، فهذا أيضا يعد من اختلاف التنوع فلا حاجه لأن يقال: القول الأول كذا، والثاني كذا، والثالث كذا.

انظر إلى الأقوال في قوله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ يقول قتادة: معناه أن الخير واقع بأهله، والشر واقع بأهل الشر، ويقول ابن جرير: مستقر بأهله أي منتهٍ إلى غاية، يعني: أن يقع لأهل الخير عاقبة هذا الفعل، ويقع لأهل الشر عاقبة هذا الفعل، وهذا نفس المعنى.

وكذلك قول من قال كمجاهد: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي: يوم القيامة، فأهل الخير يجدون عاقبة فعلهم من الخير، وأهل الشر يجدون عاقبة فعلهم من الشر، فهذا كله يرجع إلى شيء واحد فهو كما قال ابن جرير -رحمه الله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ يعني: من خير أو شر مستقر قراره ومتناهٍ نهايته، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار.

وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ أهل الفضل والخير والصلاح والاستقامة يئول أمرهم إلى خير، وأهل الشر يئول أمرهم إلى شر وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ له نهاية وغاية وهؤلاء يلقون خيرا وهؤلاء يلقون شراًً، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ سيجدون غِبَّه وعاقبته فيجازيهم الله على ذلك، كما أن أهل الإيمان يجدون جزاءهم، ولهذا قال: وَكُلُّ أَمْرٍ كل أمر من خير وشر مُسْتَقِرٌّ يصير إلى غاية.

وقوله: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ أي: من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب، مما يتلى عليهم في هذا القرآن، مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي: ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب.

 يعني مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي: ما يحصل به الزجر، والزجر يحصل بماذا؟ بالمواعظ، والتذكير، والوعد، والوعيد.

وقوله: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ أي: في هدايته تعالى لمن هداه، وإضلاله لمن أضله.

هذا معنى تحتمله الآية احتمالا قريبا، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ أي: لله تعالى في هداية أقوام وإضلال آخرين وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ۝ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ما يكفي لبيان الحق وإيضاحه ودفعهم عن باطلهم، ولكن كفروا، ولله في ذلك حكمة بالغة، ما تغني الآيات عن هؤلاء القوم المكذبين الذين لا يؤمنون، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.

ويحتمل أن يكون قوله: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ أن المراد به القرآن، والله هنا يقول: وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ الأخبار التي قصها الله في هذا القرآن، والنبأ لا يقال إلا للخبر الذي له شأن، والنبأ بمعنى الخبر لكن الخبر المهم يقال له: نبأ وغير المهم لا يقال له: نبأ؛ ولهذا قيل: النبوة مأخوذة من هذا؛ لأنه يأتي بالخبر عن الله ، ويأتي بوحيه ولهذا تقول: جاءنا نبأ الحرب، ولا تقل: جاءنا نبأ حمار الحجام، فإن هذا لا شأن له ولا خطب له، لكن تقول: جاءنا خبر حمار الحجام.

فالحاصل أن قوله هنا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ يحتمل أن يكون المراد به القرآن، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله، ويحتمل أن يكون المراد به ضلال من ضل، إضلال الله لمن أضله وهدايته لمن هداه فكل ذلك بناء على علمه وحكمته : حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، يمكن أن يكون هذا القرآن الذي جاءتهم فيه الآيات، ويمكن أن يكون جاءهم ما فيه الكفاية لكن لله حكمة بالغة، فما تغني عنهم النذر فلا ينتفعون بذلك، ولا يؤمنون، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ۝ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [سورة الأنفال:22، 23].

فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ يعني: أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟!

يعني "ما" في قوله: فَمَاهذه تحتمل أن تكون نافية، فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ يقول هنا: يعني أيّ شيء تغني النذر؟ هنا فسرها على أنها استفهامية، وهذا يحتمل يقول: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ماذا تنفع النذر في قوم كتب الله إضلالهم؟ لا تغني عنهم شيئاً، فتكون "ما" استفهامية، استفهام مضمن معنى الإنكار، ويحتمل أن تكون "ما" هذه نافية يقول: وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ۝ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ، يعني: لا تغني النذر ولا تنفع إذا كان الله قد أراد شقاء العبد.

وهذا شيء مشاهد تجد الإنسان ينشأ أحياناً في بيت خير وفضل، وحوله كل الوسائل والأسباب المهيئة لهدايته، أو طلبه للعلم، وسلوكه الصراط المستقيم، فتجده في غاية الإعراض، وتجد آخر ينشأ في بيئة سيئة لا يسمع شيئا من الخير وذكر الله وما يذكره بالآخرة أبداً لا يسمع إلا اللغو، وحوله كل المغريات ومع ذلك يهتدي ويكون من أصلح الناس، وأحيانا يهتدي بسبب حكمة واحدة، وأحياناً بسبب آية سمعها حديثاً، وأحياناً بسبب حكمة أو موعظة أرسلت له برسالة جوال اهتدى، أحياناً بمشهد رآه، كأن يرى أناساً يصلون على الطريق وهم مسافرون، مشهد يتكرر رآهم فتأثر فاهتدى، وآخر سمع كلمة "حي على الفلاح" ما هو الفلاح؟ فانجذب قلبه إليها.

فهناك أسباب أحياناً لا تخطر في البال، وآخر يسمع القرآن من أوله إلى آخره، ويمكن أن يكون قد حفَّظه أبوه القرآن وحفّظه من السنة الشيء الكثير ورباه وتعب في تربيته، ومع ذلك في غاية الإعراض، وهذا مشاهد يعني في أشياء تقف عندها تقول: التربية مالها أي علاقة في الموضوع، التربية لها أثر كبير لكن في صور وحالات كثيرة نعرفها التربية مالها أي علاقة بالموضوع، هذا ربَّي وهذب وبذل جهداً كبيراً في تربيته ومع ذلك أدار ظهره حتى وصل إلى حد الردة في بعض الحالات! وهناك صور صاحبها أبداً لا يعرف إلا الشر والفساد فيسمع كلمة واحدة تقلب حياته! فأحياناً لا تستطيع إلا أن تقول: هذا أمر الله، يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [سورة الرعد:27] فالبشر ليس لهم يد في هذا، وليس المقصود بهذا أن التربية لا تؤثر، وإنما لا تؤثر بإذن الله ، والموفق من وفقه الله.

وهذه الآية كقوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الأنعام:149]، وكذا قوله تعالى: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [سورة يونس:101].

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ۝ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ۝ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [سورة القمر:6-8].

يقول تعالى: فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون: هذا سحر مستمر، أعرض عنهم وانتظرهم، يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ أي: إلى شيء منكر فظيع، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء، بل والزلازل والأهوال، خشَّعًا أَبْصَارُهُمْ أي: ذليلة أبصارهم.

هم أذلاء في ذلك اليوم وأضاف ذلك إلى أبصارهم، خشَّعًا أَبْصَارُهُمْ أي: ذليلة أبصارهم؛ لأنه كما قال جماعة من أهل العلم ومنهم كبير المفسرين: إن العز والذل يلوح في عين الإنسان، يعني عين الإنسان يقرأ فيها بعض المعاني، فالذليل تجد بصره خاشعاً، فأضاف ذلك إلى أبصارهم، وقد جاء هذا مبيناً في آيات من كتاب الله يصف ذلهم في موقف الحساب.

يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ وهي: القبور.

كما قال الله : فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [سورة يس:51].

كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ أي: كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جَرَادٌ مُنْتَشِرٌفي الآفاق.

الجراد حينما ينزل بكميات كبيرة جداً على الأرض، فهو يدب يمشي ويختلط في مشيه فهو كثير جداً، يمشي ويتحرك، وفي تحركه ومشيه اختلاط، يختلط بعضه ببعض، فصوّرهم حينما يقومون من القبور في كثرتهم ومشيهم، واختلاطهم -اختلاط بعضهم ببعض- مثل الجراد، والعرب تمثل بهذا كثيراً، يقصدون به الكثرة كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ تقول: الناس مثل الجراد، ويقولون: مثل الدّبا -وهو صغار الجراد- للكثرة فهذا مشهد للناس حينما يقومون من القبور.

ولهذا قال: مُهْطِعِينَ أي: مسرعين.

مُهْطِعِينَ أي: مسرعين، وبعضهم يقول: مسرعين بنظرهم ينظرون إلى الداعية، يترقبون، وينظرون إليه مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ.

إِلَى الدَّاعِي، لا يخالفون ولا يتأخرون، يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ أي: يوم شديد الهول عَبُوس قَمْطَرِير فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ۝ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [سورة المدثر:9، 10].

وُصف مِن قبِلهم بأنه عسر لما فيه من الأهوال والأوجال فهذا على سبيل الوصف والخبر عنه، فلا مانع من أن يخبر عنه بهذا، أو أن يوصف اليوم بمثل هذا، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ [سورة القمر:19]، فهذا ليس من سب الدهر فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ [سورة فصلت:16]، فيجوز وصف اليوم بأنه يوم نحس، ولوط ﷺ قال: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [سورة هود:77] فيقال: يوم شديد، ويوم نحس، ويوم عصيب وما أشبه ذلك يوصف بهذا، وليس ذلك من سب الدهر، وإنما هو من وصف اليوم بما هو عليه، والله أعلم.

  1. رواه مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب ما يقرأ به في صلاة العيدين، برقم (891).
  2. رواه البزار في مسنده، برقم (7242).
  3. رواه أحمد في المسند، برقم (5966)، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف شريك -وهو ابن عبد الله النخعي، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين.
  4. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (22862)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  5. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة والنازعات، برقم (4652)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (867)، وبرقم (2951)، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة.
  6. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة حم (الدخان)، برقم (4548)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب الدخان، برقم (2798).
  7. رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر (4/ 2159)، برقم (2802)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة القمر، برقم (3286)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند، برقم (12688)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  8. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب انشقاق القمر، برقم (3655)، ومسلم (4/ 2159)، رقم (2802)
  9. رواه أحمد في المسند، برقم (16750)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، حصين بن عبد الرحمن -وهو السلمي- لم يسمع هذا الحديث من محمد بن جبير بن مطعم، بينهما جبير بن محمد بن جبير وهو مجهول، وسليمان بن كثير -وهو العبدي- روى له البخاري عن حصين بن عبد الرحمن متابعة، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين.
  10. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة القمر، برقم (4585)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر، برقم (2800).
  11. جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري، (22/ 568).
  12. رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر،، برقم (2800)، وأحمد في المسند، برقم (4270)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأبو يعلى في مسنده، برقم (5196).
  13. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة القمر، برقم (4583) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر، برقم (2800)، وأحمد في المسند، برقم (3583).
  14. جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (22/ 567)، مؤسسة الرسالة.
  15. رواه أحمد في المسند، برقم (3924)، وقال محققوه: حديث صحيح.

مواد ذات صلة