بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:23-32].
وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا -عليه الصلاة والسلام- فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، يقولون: لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كُلّنا قيادنا لواحد منا.
ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم، ثم رموه بالكذب فقالوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي: متجاوز في حد الكذب.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ النّذُر: هذه اللفظة جاءت بصيغة الجمع، وهؤلاء القوم كذبوا نبيهم الذي بعثه الله إليهم وهو صالح -عليه الصلاة والسلام- ولم يأتهم نبي سواه، فكيف ذكر الله -تبارك وتعالى- النُّذر، وإنما كذبوا نذيراً واحداً؟
والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: هو أن من كذب نبياً واحداً فكأنما كذب جميع المرسلين، كما قال الله : كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [سورة الشعراء:105]، ونوح -عليه الصلاة والسلام- قطعاً هو أول رسول، ومع ذلك أضاف إليهم أنهم كذبوا المرسلين، فهذا وأشباهه يحمل على هذا المعنى، من كذّب واحداً فهو مكذب بالجميع، ولهذا قال: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285]، وهكذا في الموضع الآخر: وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [سورة النساء:150، 151] فهذا جواب في هذا الموضع.
الوجه الثاني: هو أن "النُّذر" مصدر يعني كذبوا بالآيات والنذارة التي جاءتهم على يد نبيهم -عليه والصلاة والسلام- كذبوا بالآيات التي أنذرهم الله -تبارك وتعالى- بها، فإن هذه الآيات هي نذر، والله يقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا
"النُّذر" مصدر يعني كذبوا بالآيات والنذارة التي جاءتهم على يد نبيهم -عليه والصلاة والسلام- كذبوا بالآيات التي أنذرهم الله -تبارك وتعالى- بها، فإن هذه الآيات هي نذر، والله يقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [سورة الإسراء:59] فأخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء آية فكذبوا بها، وعقروها، ولم يؤمنوا بما جاءهم به نبيهم ﷺ من دلائل صدقه وأمارات نبوته ورسالته.
وقوله -تبارك وتعالى: فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ.
و"السُّعر" إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ بعض أهل العلم فسره بالعناء والشقاء والعذاب، إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يعني: إذا اتبعنا واحداً فنحن في عناء وشقاء وعذاب وشدة، ويطلق السعر أيضاً على لهب النار، إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ وهذا في الواقع يرجع إلى المعنى الأول؛ لأنهم لا يقصدون أنهم في ضلال وسعر في الآخرة، وإنما يصفون حالهم إن اتبعوا صالحاً -عليه الصلاة والسلام- فالذي يعيش في عناء وشقاء فإن ذلك يورث ضيقاً وحرارة وألماً كحرارة النار وإيلامها وشدتها، فهذا يرجع في الواقع إلى المعنى السابق.
وهكذا قول من قال: إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أي: احتراق، فالذين قالوا: لهب النار، والذين قالوا: احتراق فسروا اللفظة بمعناها المتبادر، والمقصود بهذا الاحتراق هو راجع إلى القول الأول الذي ذكرناه، وأقول القول الأول تجوزاً؛ لأن هذه في الواقع يمكن أن ترجع إليه، فلا يحتاج إلى الترجيح بينها، يقولون: إن اتبعناه فنحن في حال من العناء والشقاء، فعبروا بهذه اللفظة؛ لدلالتها على هذا المعنى.
وبعضهم يقول: السُّعر هو الجنون، وهم استبعدوا اتباع نبي، وأضافوا إلى أنفسهم: إنْ هم اتبعوه أنهم في حال غير طبيعة، يقولون: هذا لا يمكن، وبهذا نكون في ضلال أي ذهاب عن الحق، فأصل الضلال هو الذهاب عن حقيقة الشيء، ومنه قوله -تبارك وتعالى- في سورة يوسف عن قول إخوة يوسف لأبيهم يعقوب -عليه الصلاة والسلام: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] فلو كانوا يقصدون أنه ذاهب عن الحق مطلقاً لكانوا كفاراً بذلك، وإنما يقصدون أنه ذاهب عن حقيقة ما وقع ليوسف -عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء ذاهبون عن الحق، ولهذا يقال لمن قُبر ودُفن: إن دافنيه قد أضلوه.
فآبَ مُضلّوه بعينٍ جليةٍ | وغودر بالجولان حزمٌ ونائلُ |
يعني: دافنوه أضلوه، ومنه قولهم: ضل الماء في اللبن يعني اختلط وذهب، وتحلل فيه فلم يعد متميزاً عنه.
وقوله: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ كيف يلقى عليه الوحي والنبوة من بيننا؟ ما مزيته؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ الأشر هذه اللفظة تأتي بمعنى التكبر والبطر، وهكذا قول من فسرها بأن المراد بها الفرح.
والمقصود به ليس مطلق الفرح، وإنما الفرح الذي يورث الأشر والبطر؛ ولهذا قال الله في قصة قارون حينما قال أولائك الذين ذكّروا من أُعجب به وتمنى مكانه وذكّروه هو قالوا له: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سورة القصص:76].
فالفرح معلوم أنه ثلاثة أنواع:
- الفرح الذي يحبه الله ويؤجر الإنسان عليه، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [سورة يونس:58].
- والفرح المباح في الأمور المباحة.
- والفرح المحرم بهزيمة المسلمين واندحارهم وما أشبه ذلك.
فهذا قالوا: كَذَّابٌ أَشِرٌ فالفرح الذي يَحمِل على البطر محرم، وهكذا قول من قال: هو البَطِر المتكبركَذَّابٌ أَشِرٌ وفي الحديث في الدعاء: لم أخرج أشِراً ولا بطِراً[1].
قوله: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ العرب تطلق الغد بإطلاقين:
الإطلاق الأول: على اليوم الذي يأتي بعد ليلتك، اليوم القريب، غداً الأربعاء مثلا.
والإطلاق الثاني: بمعنى المستقبل سَيَعْلَمُونَ غَدًا وهذا هو المراد، مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ إذا جاء العذاب، أو في يوم القيامة فكل ما هو آتٍ قريب، فيعبرون بذلك إشعاراً بالقرب، بقرب الوقوع.
ثم قال تعالى: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ أي: اختبارا لهم؛ أخرج الله لهم ناقة عظيمة عُشراء من صخرة صمَّاء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح فيما جاءهم به.
ثم قال تعالى آمرا لعبده ورسوله صالح: فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ أي: انتظر ما يئول إليه أمرهم، واصبر عليهم، فإن العاقبة لك والنصر لك في الدنيا والآخرة، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي: يوم لهم ويوم للناقة؛ كقوله: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [سورة الشعراء:155].
وقوله: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ قال مجاهد: إذا غابت حضّروا الماء، وإذا جاءت حضّروا اللبن.
قوله: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ محتضر من الحضور، ويبقى المراد بالحضور، هنا نقل عن مجاهد قوله: "إذا غابت حضروا الماء" فهي نوبتهم، "وإذا جاءت حضروا اللبن" محتضر بمعنى أنهم يحضرون في كل يوم، هناك يوم للماء، ويوم للبن كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ، ويحتمل أن يكون المراد أن الناقة تحضر يوماً للماء، وهم يحضرون يوماً.
قال الله تعالى في موضع آخر: فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ [سورة الأعراف:77]، وقال: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [سورة الشمس:14] فأضاف العقر إليهم جميعاً، وهنا أضاف العقر لواحد فقال: فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فدل ذلك على أنهم تمالئوا على عقرها فأضيف ذلك إليهم، فهذا وجه الجمع بين هذه الآيات وفي هذه الآية ما يبينه.
وقوله: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ هذا أحيمر ثمود الذي عقرها، والمؤرخون يذكرون في هذا خبراً هو -والله أعلم- من الأخبار الإسرائيلية، يقولون: امرأة كان عندها بنات في غاية الجمال، وكان عندها نَعَم كثير فتضررت بسبب هذه الناقة؛ لا ترد هذه الأنعامُ إلا يوماً بعد يوم فضاق بها ذلك، وأغرت هذا أن تُزوّجه وأن تخيره من بناتها ما شاء إن هو عقر الناقة، هكذا قيل، وقد يكون هذا وقد لا يكون، فهؤلاء الله أضاف ذلك إليهم، فهم فعلوا ذلك تجبراً وتكبراً ومحادة لله -تبارك وتعالى- ولهذا قال الله في سورة الأعراف: فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأعراف:77] تحدوه بهذا: هات العذاب.
لفظة "تعاطي" في أصل معناها في كلام العرب تدل على تكلف في تناول الشيء وأخْذه، يعني: كأنه قام بتدابير وأعمال حتى عقرها، والمؤرخون يذكرون أشياء منها أنه كمن لها في أصل صخرة أو في أصل شجرة -كانت ناقة عظيمة- فضرب عضلة ساقها، رماها بسهم، ثم شد عليها بالسيف.
وَنُذُرِ يمكن أن تفسر بأنها مصدر، يعني وإنذاري، أو نُذُري، كيف كان عذابي وإنذاري لهم؟ يعني: يمكن أن تكون بمعنى الجمع، ويمكن أن تفسر بمعنى المصدر، يعني وإنذاري.
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي: فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية، وخَمَدوا وهَمَدوا كما يهمد وييْبس الزرع والنبات، قاله غير واحد من المفسرين، والمحتظر: قال السدي: هو المرعى بالصحراء حين ييْبس ويحترق وتسفيه الريح.
وقال ابن زيد: كانت العرب يجعلون حِظَارًا على الإبل والمواشي من يَبِيس الشوك، فهو المراد منقوله: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ.
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ يقول: قاله غير واحد من المفسرين، يعني: خمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات، قالوا المحتظر، قال السدي: هو المرعى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتسفيه الريح، وقال ابن زيد: كانت العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبيس الشوك.
فهو المراد هنا، وكثير من المفسرين يفسرون الْمُحْتَظِرِ بالنبات الذي قد يبس وتفتت، وإن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا المعنى، كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ فمن قائل بأن ذلك كالنبات والشوك الذي يوضع سياجاً على الدواب يمثل حظراً عليها، يعني حظيرة، بمعنى أنه بديل عن وضع الشبك مثلاً، قد لا يكون عنده هذا، أو لأنه في مكان يترحل فيضع من الشوك ما يمثل حاجزاً يحجز هذه الدواب، كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ فهذا ييبس على الشجر ويتفتت ويتهشم، فصاروا كهشيم المحتظر، وبعضهم يعبر عنه بأنه كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ مثل النبات الذي في الصحراء حينما ييبس ثم بعد ذلك تسفيه الريح، ويتفتت فصاروا بهذا المثابة.
وبعضهم يفسر الْمُحْتَظِرِ بصاحب الحظيرة، الذي يضع حظاراًً على غنمه فلا يتساقط منها، فهو هشيم، يعني: جعلوا المحتظر هو صاحب الحظيرة، فحينما يضع هذا السياج ويحصل له ما يحصل مع الوقت، وذلك كله يرجع إلى معنى متقارب وهو ما يتفتت من النبات ويتهشم سواء الذي يضعه صاحب الحظيرة حظاراً، أو ما يكون في أرض الحظيرة تطأه هذه الدواب، أو ما يكون في الصحراء من النبات الذي ييبس ثم بعد ذلك كما قال الله : مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [سورة الكهف:45] فهذا الهشيم، والله أعلم.
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:33-40].
يقول تعالى مخبرا عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه، وارتكبوا المكروه من إتيان الذكور، وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين؛ ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يُهلكه أمةً من الأمم، فإنه تعالى أمر جبريل ، فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عَنَان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها، وأتبعت بحجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال هاهنا: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا وهي: الحجارة.
وهنا يقال كما في الموضع السابق كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، وكذلك ما سيأتي من قوله: وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ [سورة القمر:41] بالآيات المنذرة التي تنذرهم من عذاب الله ونقمته، وكل موضع يفسر بحسبه، يعني هنا في قوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ كما سبق في ثمود كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، وفي فرعون وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يمكن أن يفسر بالآيات التي جاءهم بها موسى ﷺ وهي تسع آيات بينات، فكانت النتيجة أن قال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا [سورة الإسراء:101].
ويمكن أن يكون هناك باعتبار أن أقل الجمع -عند بعض أهل العلم وهو قول الإمام مالك -رحمه الله- اثنان، كما قال الله -تبارك وتعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197] وهي شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة على قول طائفة كبيرة من أهل العلم، وكذلك فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11]، والأم تحجب حجب نقصان من الثلث إلى السدس باثنين وهكذا، قال في المراقي:
أقل معنى الجمع في المشتهر | اثنان عند الإمام الحميري |
الحميري هو الإمام مالك -رحمه الله، فيمكن أن يكون باعتبار أنه جاءه موسى وهارون، فقال الله : وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ فجمع باعتبار أن أقل الجمع اثنان، والله أعلم.
هنا قال: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ هذا التكذيب أطلقه الله -تبارك وتعالى، فهم كذبوا نبيهم -عليه الصلاة والسلام- وتمالئوا عليه، وأرادوا إخراجه أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة النمل:56].
وبعض أهل العلم يقول: بالتتبع لجميع المواضع التي ذكر فيها قوم لوط، يقول: ما خاطبهم لوط ﷺ بالتوحيد، فقال بعضهم: إن هؤلاء لم يكن عندهم شرك لكن كانت عندهم هذه الفاحشة، وهذا ليس بلازم، فالله يذكر من خبر هؤلاء الأمم والأقوام المهلَكة ما يذكر لحكمة يقتضيها المقام، فهؤلاء جاءوا بأول ذنب كبير اخترعوه وابتدعوه لم يسبقوا إليه فذُكروا به، لكن هذا لا يعني أنه ما عندهم شرك! ناس يفعلون هذا ويتخذونه بدلاً لما أحله الله لهم، ويكابرون غاية المكابرة، ويصرون عليه، ويكذبون نبياً من أنبياء الله -تبارك وتعالى، فهؤلاء لا يسلمون من الشرك، ولولا فساد عقائدهم ما حصل منهم هذا الاستكبار والعتو على الله إلى هذا الحد أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فكونه لم يذكر الخطاب بالتوحيد لا يعني أنه ما كان عندهم شرك، والله أعلم.
النبي بالنسبة لقومه بمنزلة الوالد والأب، والأبوة معروفة أنها نوعان: أبوة تربية، وأبوة ولادة، والنبي بمنزلة الوالد لقومه، ولهذا جاء في القراءة غير المتواترة قراءة أبيّ وقراءة ابن عباس: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبٌ لهم وأزواجه أمهاتهم}، وفي القراءة الثانية: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أبٌ لهم}.
ويقول: هؤلاء بناتي يعني بنات القبيلة، والمعنى الثاني: أنه قال: هؤلاء بناتي فتزوجوهن، استغنوا بذلك عما حرم الله، لكن لا يمكن لأحد أن يفهم أنه يعرض بناته ليفجروا بهن، هذا لا يمكن ولا يقع من آحاد الناس فضلاً عن أن يقع من نبي كريم، فأعظم الناس غيرة الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام.
يعني في قوله: فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ يحتمل أن يكون بمعنى العمى، أُخذت الأبصار، وظاهره يدل على ما هو أبلغ من هذا، يعني أنها صارت الوجوه صفحة واحدة ليس فيها شق للعيون أصلاً! ذهبت، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
وقيل: إنه لم تبق لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطا إلى الصباح.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ أي: لا محيد لهم عنه، ولا انفكاك لهم منه، فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
- رواه ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب المشي إلى الصلاة، رقم (778)، عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت- أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك، وأحمد في المسند، برقم (11157)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وقال الألباني: ضعيف جداً. السلسلة الضعيفة برقم (6252).