السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} الآية:41 إلى قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} الآية:55
تاريخ النشر: ٢٣ / شوّال / ١٤٢٧
التحميل: 3841
مرات الإستماع: 4975

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر  -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

 وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ۝ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ۝ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ۝ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ۝ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ۝ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [سورة القمر:41-46].

يقول تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه: إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون -عليهما السلام- بالبشارة إن آمنوا، والنذارة إن كفروا، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أي: فأبادهم الله ولم يُبق منهم مخبرًا ولا عينًا ولا أثرًا.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ قوله: النُّذُرُ بصيغة الجمع يمكن أن يحمل على مجيء موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- باعتبار أن أقل الجمع اثنان على قول بعض أهل العلم، فيمكن أن يعبر عن الاثنين بالجمع، يقال: (نُذر)، ويمكن أن يكون هذا باعتبار أن من كذب رسولاً أو رسولين فكأنما كذب جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ويمكن أن يكون النُّذر مصدراً بمعنى الإنذار.

وقوله: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا الله أخبر أن الآيات التي جاء بها موسى ﷺ تسع آيات من أظهرها وأبينها العصا، وكذلك ما ذكره الله له من إدخال يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء من غير مرض من غير برص، من غير علة، وكذلك أيضاً يضم إليه جناحه من الرهب فيحصل له طمأنينة وسكينة ويذهب عنه الخوف في أوقات المخاوف، وهكذا ما حصل على يده لفرعون وقومه مما قصه الله -تبارك وتعالى- فهي تسع آيات: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فقالوا له: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:132]، قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ [سورة الأعراف:133].

فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ كما قال الله : فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ [سورة الذاريات:40] أي: قد جاء بما يستحق عليه اللوم، وقوله: مُّقْتَدِرٍ أبلغ من قادر كما هو معلوم فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، قادر، مقتدر فهذا لشدة تمكنه في القدرة.

ثم قال: أَكُفَّارُكُمْ أي: أيها المشركون من كفار قريش خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ يعني: من الذين تقدم ذكرهم ممن أُهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب: أأنتم خير أم أولئك؟ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي: أم معكم من الله براءة ألّا ينالكم عذاب ولا نكال؟

ثم قال تعالى مخبرا عنهم: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي: يعتقدون أنهم مناصرون بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء، قال الله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي: سيتفرق شملهم ويغلبون.

هنا ذكر ثلاثة أشياء في الرد عليهم أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ يعني: إما أنكم أفضل من هؤلاء فتحصل لكم السلامة من العذاب أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ، والأمر الثاني: أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ والزبر هي الكتب، وإما أن الله أعطاكم ضماناً وعهداً ألا يعذبكم، فالأول منتفٍ، والثاني منتفٍ، بقي الثالث: أن تكون لكم قوة تخلصكم من عذاب الله إذا نزل بساحتكم.

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- "أي: يعتقدون أنهم مناصرون بعضهم بعضاً، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء"، يعني: كأنهم يقولون: نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ، نحن جماعة لا تطاق جمع كبير لا نطاق، لا نغلب لكثرتنا وقوتنا، أو أن أمرنا مجتمع فلا نغلب نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ومعنى منتصر أي منتصرون، وكذلك قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ هذه الآية مكية فسورة القمر من السور النازلة بمكة، وفي مكة لم يكن هناك جمع، ولربما لا يخطر في بال أحد في ذلك الوقت أنه سيلتقي الصفان وتحصل معركة، وإنما هم أفراد مضطهدون يعذبون في دينهم، والله يقول: سيهزم الجمع فمثل هذا كان يتساءل عنه مثل عمر -رضي الله تعالى عنه- أيّ جمع؟ فالآية تتحدث عن أمر مستقبل كما هو ظاهر من قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ فإن "السين" تدل على هذا المعنى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ

وهذا مما نزل قبل وقوعه لقوله تعالى: الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [سورة الروم:1-3]، ولما كان في يوم بدر نزلت: الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ "غُلبت" بالبناء لغير المعلوم، وكانت غلبة الروم بالفرس في يوم بدر.

قوله:سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ يعني يولون الأدبار وهذا تكني به العرب عن الهزيمة، فالمنهزم يعطي ظهره لعدوه ولهذا يفتخر من يفتخر بأن جراحهم تقع في صدورهم لا تقع في ظهورهم وأن دماءهم تنزل على أقدامهم لا على أعقابهم كما قال الشاعر: وهو ما تمثل به ابن الزبير -رضي الله تعالى عنه- حينما أصيب في وقعة الحجاج لحصاره لابن الزبير :

ولسنا على الأعقاب تَدْمَى كُلومُنا[1] ولكنْ على أقدامنا تَقْطُر الدِّما

لما وجد حرارة الدم حينما ضُرب أصيب في رأسه ونزل الدم قال:

ولسنا على الأعقاب تَدْمَى كلومُنا ولكن على أقدامنا تَقطُر الدِّما

فالدبر هنا مفرد وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ والمراد به الجمع، أي يولون الأدبار، وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ [سورة الفتح:22] وذكرنا من قبل أن المفرد قد يأتي معبراً به عن الجمع كقوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:31] يعني: أو الأطفال.

روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال -وهو في قبة له يوم بدر: أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم أبدا، فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ۝ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[2].

وروى البخاري عن يوسف بن ماهَكَ قال: إني عند عائشة أم المؤمنين، قالت: نزل على محمد ﷺ بمكة -وإني لجارية ألعب- بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ هكذا رواه هاهنا مختصراً[3]، ورواه في فضائل القرآن مطولا، ولم يخرجه مسلم.

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ۝ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ۝ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ۝ وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ۝ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ۝ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ۝ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ۝ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ۝ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [سورة القمر:47-55].

يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق.

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ عرفنا أن الضلال هو الذهاب عن الحق، فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ هل المقصود هنا بـ "السعر" يعني: السعير الذي هو النار، الإحراق هو النار وذلك يوم القيامة ثم قال بعده: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ فـ "سعر" هل هو في الدنيا أو في الآخرة؟

كلام الحافظ ابن كثير هنا -رحمه الله- يقتضي أنه في الدنيا وذلك بسبب الشكوك والاضطرابات وآثار هذه العقائد الفاسدة في قلوبهم، وهذا الذي ذهب إليه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، أو فسر "السعر" بالاحتراق لكن ليس الاحتراق المقصود به الاحتراق بالنار وإنما في الدنيا، احتراق وشدة وعناء بسبب فساد قلوبهم وعقائدهم وأعمالهم، فالعقائد تؤثر تأثيراً بليغاً في نفوس أصحابها.

فالعقائد الصحيحة ينتج عنها انشراح الصدر، والأعمال الصحيحة ينفسح معها الصدر وتشرق النفس، ويستنير القلب، ويجد الإنسان برد اليقين.

والعقائد الفاسدة والأعمال الفاسدة تؤثر في نفوس أصحابها، ضيقاً، وحرجاً، وألماً وحسرة، وعناءً، وشقاءً فيظلم القلب وينعصر، ولا يجد صاحبه لذة وراحة وانشراحاً، وسروراً ونعيماً، فكلما كان الإنسان أتبع للحق وأكثر عملاً به فإنه يحصل له من اللذة والسرور والانشراح بإقباله على الله وتوحيده وعبادته مالا يقادر قدرة، وينقص بحسب ذلك، ولهذا تجد صاحب المعصية عنده من الحرج والضيق، والظلمة بحسب ما عنده من الضلال والانحراف، ولهذا قال الله : أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ [سورة الزمر:22].

وقال: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125]؛ لشدة ضيقه.

فهذا "السعر" في الدنيا فهو يقول: "وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق" يعني: يكون له من الألم والضيق بحسب الانحراف الذي عنده، ولذلك لا تجد الكافرين وأهل الفساد والمحادة لله لا تجد عندهم اللذة التي يجدها المؤمن، والسعادة والأنس بالله والسرور بمعرفته، وانشراح الصدر بعبادته، والتقرب إليه، ولا يجدون شيئاً من برد اليقين، وإنما تجد نفوسهم ضيقة.

ولهذا يتهافتون في أودية الردى فالأمراض النفسية تكثر وتعج في نفوسهم، التوتر والقلق والاكتئاب؛ لذلك تجد الانتحار عندهم مع أنهم لا يرجون ما عند الله ، هذا كله بسبب فساد عقائدهم، وفساد أعمالهم، فعلى قدر فساد الاعتقاد أو العمل على قدر ما يحصل من ضيق الصدر، فالسعر هذا في الدنيا قبل الآخرة، كما أن اللذة التي تحصل للمؤمن في الدنيا تحصل قبل الآخرة.

ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، وإذا أراد الإنسان أن يعرف هذا ينظر إلى حاله وما في قلبه من اللذة والسرور والانشراح بذكر الله ومعرفته وعبادته، فينظر في حاله، فالناس يتفاوتون في هذا غاية التفاوت.

ثم قال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أي: كما كانوا في سُعُر وشك وتردد أورثهم ذلك النار، وكما كانوا ضلالا يسُحبون فيها على وجوههم، لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.

وقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، كقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [سورة الفرقان:2]، وكقوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:1-3] أي: قدر قَدَرا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه، وهو عِلمْه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردّوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة، وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري -رحمه الله، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة.

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير والذي عليه عامة أهل العلم: أي خلقناه بتقدير، كل شيء قدره الله ، وخلق كل شيء فقدره تقديراً هذا تفسير هذه الآية.

ومن أهل العلم من ذكر قولاً يقرب من هذا، وقد يرجع إليه، كقول ابن جرير: خلقنا كل شيء بمقدار إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ بمقدار، وأقول: قد يرجع إلى هذا؛ لأن عبارته أشمل قليلاً أو حينما قال: خلقناه بمقدار، قال قدرناه وقضيناه أي كل شيء خلقناه بمقدار قدرناه وقضيناه، فقوله قدرناه وقضيناه إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ؛ لأن قوله بقدر، يحتمل معنيين: يحتمل خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ يعني: بمقدار لا يزيد عنه ولا ينقص، وهذا القول يتضمن القول الآخر خلقه ليس فقط بتقدير قدره، لا، وإنما بمقدار أيضاً لا يزيد عنه ولا ينقص، فيجد تقدير الخلق، ويجد أيضاً حده حيث لا يتجاوز ذلك الحد الذي حُد له بمقدار، وهذا المعنى يمكن أن يفهم من ظاهر الآية.

والآية إذا احتملت معنيين صحيحين، ولا يوجد ما يدل على أحدهما دون الآخر، ولا يوجد مانع يمنع من حملها عليهما فإنها تحمل على المعنيين، وهذا الذي فعله ابن جرير ذكر المعنيين –الاحتمالين- وفسر بهذه العبارة الوجيزة التي ذكر فيها هذا وهذا، وكل ذلك من صميم القدر، يعني كل ما يقع في الكون من تحريكة وتسكينة فإنما هي بتقدير الله -تبارك وتعالى، وهذا الشيء الذي يقع يعني حتى القطر من السماء الله-تبارك وتعالى- قدره أن تنزل هذه الكمية لا تزيد قطرة واحدة ولا تنقص.

وهكذا ما يحصل من مياه الأنهار وجريها، وما يستخرج منها وما ينزل في البحار، كل هذا بمقدار لا يزيد عنه ولا ينقص، من يموت في اليوم من يموت في السنة من الناس كل هذا بمقدار محدد، وهكذا ما يحصل للناس من الأرزاق كل هذا ذلك بمقدار ينزله الله وفق حكمته فلا يحصل فيه شيء يخالف ما قدره الله .

وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا مرتبتين من مراتب القدر الأربع عند أهل السنة والجماعة وهي:

الأولى: العلم السابق المحيط.

والثانية: يعني أن الله علم ذلك وأيضاً كتبه، أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال ما أكتب؟ قال: اكتب أمره أن يكتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة. 

والثالثة: المشيئة العامة أن الله شاء وقوعه.

والرابعة: أن الله خلقه.

هذه المراتب الأربع لابد منها، ولهذا ما قدره الله وقضاه لابد أن يقع، لابد أن يقع الذي في العلم السابق، ولذلك فإن قوله تعالى: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [سورة الرعد:39] المحو يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة، بهذا الاعتبار لا يتنافى مع ما ورد من أن صلة الرحم تزيد في العمر من سره أن يُنسأ له في أثره[4]، ما نقص مال من صدقة[5]، وإن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه[6] فهذا لا يتنافى مع ما سبق، فالذي في علم الله وما كتب في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير والله بكل شيء عليم، وفيه المراتب الأربع لكن الصحف التي بأيدي الملائكة يكون مكتوباً فيها إن رزق هذا الإنسان كذا، ويكون في علم الله السابق أن هذا الإنسان سيتصدق فيزاد في رزقه، ويكون عمر هذا الإنسان خمسين سنة في الصحف التي بأيدي الملائكة، وفي علم الله الشامل المحيط السابق بقدره أن هذا الإنسان يصل الرحم فيزاد "15" سنة، فيكون عمره "65".

وما ورد: (لا يردّ القضاءَ إلا الدعاءُ[7]، كذلك قدر عليه في الصحف التي بأيدي الملائكة أن تصيبه مصيبة، يحصل له حادث ويموت ثلاثة من أولاده فيقدر الله له قبل ذلك أن يرفع يديه ويدعو فيصرف عنه ذلك، فهذه أربع مراتب، وبهذا يعرف خطأ من يخطئ وهذا يقع كثيراً يقولون لبيان عدل الله : هذا مثل المدرس حينما يدخل على الطلاب في الأسبوع الأول ويقول لهم: أنت في نهاية الفصل سترسب، وأنت ستنجح بامتياز، وأنت جيد جداً، وأنت جيد وأنت كذا ثم في النهاية في النتيجة يقع كما قال، لا أنه قصد هذا لكن بحسب علمه ومعرفته بهؤلاء ومستواهم حكم بمثل هذا، هل هو الذي رسبهم أو نجحهم؟

هذا غلط فقدر الله يختلف عن هذا، قدر الله فيه العلم، يعني هذه القضية فيها علم غير واثق قد يتغير ويتبدل ويخطئ، بخلاف علم الله الذي لا يتطرق إليه هذا، وفيها الكتابة وفيها أن الله أراده وشاءه، وفيها أن الله خلقه لابد أن يوجد وفرق بين هذه وهذه، وذكرت هذا لكثرة ما يقع فيه كثير من الناس، يشرح قضية ويبين عدل الله ويمثلهم بهذا المثال، وهو ليس بصحيح.

روى أحمد عن أبي هُرَيرَة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي ﷺ يخاصمونه في القدَر، فنزلت: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ۝ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه[8].

وروى البزار عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: ما نزلت هذه الآيات: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ۝ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ۝ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، إلا في أهل القدَر[9].

حديث أبي هريرة صريح في سبب النزول، سبب النزول: مخاصمة المشركين في القدر كان المشركون يقولون: لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا [سورة الأنعام:148]، فالحاصل أن هذا هو سبب النزول، والرواية الثانية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ليست سبباً للنزول، وإنما قصد من ذلك أن هذا مما يدخل في معناها، يقول: نزلت هذه الآية في أهل القدر، وأسباب النزول منها ما هو صريح، ومنها ما هو غير صريح، فالصريح أن يذكر سبباً ثم يقول: فنزلت الآية، أو يقول: سبب نزول الآية كذا، وغير الصريح أن يقول: نزلت هذه الآية في كذا، هذه الآية نزلت في أهل القدر، لا إشكال، بمعنى أنه مما يدخل في معناها، وليس المقصود سبب النزول.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن زُرَارة، عن أبيه عن النبي ﷺ أنه تلا هذه الآية: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ۝ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، قال: نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله[10].

حقيقة سبب النزول: هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه، أيام وقوعه من حادثة أو سؤال، فالأشياء الماضية والمنصرمة القديمة ليست سبباً للنزول، مثلاً: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [سورة الفيل:1] لا يقال: سبب نزولها قصة أبرهة، وكذلك ما تخبر عنه الآيات من الغيوب المستقبلية مثلاً لا يقال: إنه سبب النزول، إنما سبب النزول ما حصل مثل: "جاء رجل فظاهر من امرأته -أوس بن الصامت- فجاءت إلى النبي ﷺ فنزلت: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [سورة المجادلة:1][11] وهكذا، هذا سبب النزول وماعداه يمكن أن يقال: الآيات تحدثت عن الموضوع الفلاني، أو أخبرت عن أمر سيقع، فهذا من الغيوب المستقبلية لكن لا يسمى سبب نزول.

وعن عطاء بن أبي رَبَاح، قال: أتيت ابن عباس وهو يَنزع من زمزم، وقد ابتلّت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تُكُلّم في القدر، فقال: أوَ قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ۝ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم ولا تُصَلّوا على موتاهم، إن رأيتُ أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين[12].

وروى الإمام أحمد عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليّ، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر[13] رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل.

وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: كل شيء بقدر حتى العجْز والكيْس[14].

ورواه مسلم منفردا به، من حديث مالك.

وفي الحديث الصحيح: استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل: قَدَّر الله وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان[15].

وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال له: واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك، لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يضروك، جفّت الأقلام وطويت الصحف[16].

وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الوليد بن عبادة، حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه، أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني، إنك لمّا تطعم طعم الإيمان، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، يا بني: إن متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار[17]، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة زاد ابن وهب: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [سورة هود:7][18]، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.

  1. يعني جراحنا.
  2. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي ﷺ والقميص في الحرب، برقم (2758)، وبرقم (4594)، في كتاب التفسير، باب تفسير [سورة القمر.
  3. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة القمر، برقم (4595)، و(4707)، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن.
  4. رواه البخاري، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق، برقم (1961)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم (2557).
  5. رواه أحمد في المسند، برقم (1674)، وقال محققوه: حسن لغيره، والطبراني في المعجم الصغير، برقم (142)، وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2462) وقال: صحيح لغيره.
  6. رواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، برقم (4022)، وأحمد في المسند، برقم (22386)، وقال محققوه: حسن لغيره دون قوله: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"، وهذا إسناد ضعيف، وحسن الألباني هذه الجملة من الحديث وبقيته ضعيف، فقال في تحقيق الطحاوية:  "حسن دون جملة: " وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"، العقيدة الطحاوية: (150).
  7. رواه الترمذي، كتاب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء، برقم (2139)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (6005)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (7687).
  8. رواه أحمد في المسند، برقم (9736)، وقال محققوه: إسناده حسن، ومسلم، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر، برقم (2656)، والترمذي، في كتاب القدر عن رسول الله ﷺ، برقم (2157)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب في القدر، برقم (83).
  9. رواه البزار في مسنده، برقم (2467)، وقال الألباني: "سنده جيد" كما في السلسلة الصحيحة (4/52)، في كلامه على حديث رقم (1539).
  10. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (5316)، وصححه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة، برقم (1539).
  11. رواه أبو داود، كتاب الطلاق، باب في الظهار، برقم (2214)، والنسائي، كتاب الطلاق، باب الظهار، برقم (3460)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الظهار، برقم (2063)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1981).
  12. رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (20669)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1539).
  13. رواه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، برقم (4613)، وأحمد في المسند، برقم (5639)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3669).
  14. رواه مسلم، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر، برقم (2655)، وأحمد في المسند، برقم (5893)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  15. رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، برقم (2664).
  16. رواه الترمذي ولفظه: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2516)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7957).
  17. رواه أحمد في المسند، برقم (22705)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3781)، وفي السلسلة الصحيحة برقم (2439).
  18. رواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام، برقم (2653)، والترمذي، كتاب القدر عن رسول الله ﷺ، باب الرضا بالقضاء، برقم (2156).

مواد ذات صلة