السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} الآية 57 إلى قوله تعالى: {لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية 75
تاريخ النشر: ٢٥ / محرّم / ١٤٣٠
التحميل: 3843
مرات الإستماع: 4495

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِم ْيُؤْمِنُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۝ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [سورة المؤمنون:57-61].

يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [سورة المؤمنون:57] أي: هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون منه وجِلون من مكره بهم، كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن الكافر جمع إساءة وأمناً وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [سورة المؤمنون:58] أي: يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، كقوله تعالى إخباراً عن مريم -عليها السلام: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [سورة التحريم:12]، أي: أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه، وما شرعه الله فهو إن كان أمراً فمما يحبه ويرضاه، وإن كان نهياً فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيراً فهو حق، كما قال الله: وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ [سورة المؤمنون:59]، أي: لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله، أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنه لا نظير له ولا كفء له.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [سورة المؤمنون:57]، هل الخشية والإشفاق من قبيل المترادف، يعني الخشية هي الإشفاق كما يقوله بعض أهل العلم؟ أو أن الإشفاق يختلف عن الخشية في المعنى؟ أو أن إحدى اللفظتين استعملت في لازمها أو أثرها؟ ومعلوم أن التأسيس مقدم على التوكيد.

فالقول بأن الإشفاق هو الخشية لا يعطي معنىً جديداً، ولهذا فإن من أهل العلم من فسر الخشية بسببها، وسببُها هو العذاب، فقالوا: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ أي: من عذاب ربهم مشفقون، وبعضهم فسر الإشفاق بأثره، إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ أي: عاملون بطاعته مداومون على ذلك، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله.

ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- أن يقال بأن معنى الخشية والإشفاق وإن اتفقا في أصل المعنى الذي هو الخوف، إلا أن الخشية هي الخوف مع علم بالمخوف منه، ولكن قد يقول الإنسان أنا خائف، وإن سئل من ماذا تخاف؟ فقد يقول: لا أدري، وأشعر بشيء من الخوف، فمثل هذا لا يمكن أن يقول: أنا مشفق، أو أنا أشعر بشفقة، أو أشعر بخشية، إنما الخشية تكون مع علم، والإشفاق يتفق مع الخشية في أصل المعنى الذي هو الخوف، إلا أنه يفترق في المعنى التكميلي الزائد، وعليه يمكن أن يقال: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [سورة المؤمنون:57] من خشيته أي: من خوفه الخاص الذي علموا أسبابه، أو مع علم بالمخوف، وقد وقع لهم خوف وخشية رقيقة، والخوف مراتب، كما أن الإيمان مراتب، والعلم مراتب، والرضا مراتب، والمحبة مراتب.

وقوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [سورة المؤمنون:58]، انظر إلى عبارة ابن كثير –رحمه الله: "أي: يؤمنون بآياته الكونية والشرعية" من أهل العلم من يقول: إن المراد بالآيات هنا الآيات الكونية، ومنهم من قال: إن المراد الآيات الشرعية، والمقصود بالآيات الشرعية مثل هذا القرآن.

وقول الحافظ ابن كثير –رحمه الله– دقيق، جمع فيه بين القولين، وهذا جمع جيد وحسن؛ لأن الله ذكر الآيات مطلقة، فالآيات تشمل الآيات الكونية والشرعية، وكلها تحتاج إلى إيمان.

والله أخبر عن فرعون فقال: وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ [سورة الأنعام:4]، وقال عن فرعون أيضا: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى [سورة طـه:56].

وقد تتابعت الأمم على اتهام الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين جاءوهم بالآيات، قال تبارك وتعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ۝ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ [سورة الحجر:14، 15].

وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [سورة الإسراء:59] يعني آية مبصرة، فالآيات الكونية -آيات المشاهدة- لابد فيها من الإيمان، وهذا التفسير أيضاً يصدق على قوله -تبارك وتعالى- عن مريم بنت عمران وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا [سورة التحريم:12]، أي: الكلمات الكونية، والكلمات الشرعية.

وقوله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [سورة المؤمنون:60] أي: يعطون العطاء وهم خائفون وجِلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط، كما روى الإمام أحمد عن عائشة –ا- أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله ؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله [1] وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم من حديث مالك بن مغول بنحوه، وقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يتقبل منهم: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [سورة المؤمنون:61][2]، وهكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والحسن البصري في تفسير هذه الآية.

قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [سورة المؤمنون:60]، أي: خائفة من الله لأنهم يعلمون أنهم راجعون إلى الله -تبارك وتعالى- فمجازيهم على أعمالهم، ومحاسبهم على ما اقترفوا.

وهذا في العمل الصالح، فيخشى المؤمن أن لا يتقبل الله منه، وإذا كان كذلك فهو أبعد عن الأسباب التي تنقص العمل أو تحبطه مثل العُجب، ومن ثَمّ لأنه لا يستكثر العمل على الله ولا ينظر إلى جهده، وإنما ينظر إلى توفيق ربه فيزداد شكراً على هذا العمل والتوفيق إليه، وإذا كان هذا في الطاعات، فكيف تكون حالهم عند مواقعة المعصية؟! فهو مشفق عند عمل الطاعة، فهذا من باب أولى، ويقال: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [سورة المؤمنون:61]، وهذا التفسير من قبيل الخبر عنهم أنهم سابقون إلى طاعة الله، فوصفهم بهذا على سبيل الثناء عليهم، وبعضهم يقول: إن الحرف مضمن معنى حرف آخر، بمعنى وهم إليها.

وقال ابن جرير -رحمه الله- أي: سبقت لهم من الله السعادة؛ لأن الله قد كتبهم في السعداء، فأثّر ذلك ونتج عنه الجد والاجتهاد في طاعة الله .

وهذا ثناء من الله على هؤلاء وإخبار بأنهم بهذه المثابة يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [سورة المؤمنون:61]، يعني: إليها سابقون، يبادرون، ويسارعون، ويسبقون غيرهم ويتقدمون على غيرهم بالعمل الصالح، بمعنى: أن ذلك قد سبق لهم في علم الله -، وقدره فكتب الله لهم السعادة في الأزل، فأثر ذلك ونتج عنه هذه المسارعة في الخيرات، والله أعلم.

قوله: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ۝ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ۝ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ۝ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ۝ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ۝ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [سورة المؤمنون:62- 67] يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، أي إلا ما تطيق حمله والقيام به، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء، ولهذا قال: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ [سورة المؤمنون:62] يعني كتاب الأعمال.

وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ، أي: لا يُبخسون من الخير شيئاً، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين، ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ أي: في غفلة وضلالة منْ هَذَا، أي: القرآن الذي أنزله على رسوله ﷺ.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة المؤمنون:62] الوسع بمعنى الطاقة، ولا حاجة للتكلف بتفسيره بغير هذا، والله يقول في سورة البقرة: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286]، فالشريعة ما جاءت بتكليف مالا يطاق، فكل التكاليف داخلة تحت قدرة المكلفين، وقد وضع الله الآصار وهي التكاليف الثقال التي كانت على من قبلنا قد وضعها الله عنا وأخبر عن هذه الشريعة بأنه رفع فيها الحرج، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحـج:78] والأحاديث الواردة في هذا الباب أيضاً معروفة قال: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة المؤمنون:62] وهذا من حيث الإجمال بالنظر إلى أحكام الشريعة عموماً، فهي داخلة تحت قدرة المكلفين، وبالنظر إلى المعين فإنه إن عجز عن التكليف الذي يطيقه جنس المكلفين فإن ذلك إما أن يسقط عنه بالكلية، أو أن ذلك يصار معه إلى بدل، فالمريض إذا عجز عن الصيام فإنه يقضي، وإذا عجز عن الوضوء أو الاغتسال فإنه يتيمم، وهكذا.

وقوله -تبارك وتعالى: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [سورة المؤمنون:62]، فسر ابن كثير –رحمه الله– الكتاب بكتاب الأعمال، مسطور لا يضيع منه شيء، وهذا يدل عليه قوله –تبارك وتعالى:هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية:29]، والله يقول: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49].

فهذه الآيات بمعنى هذه الآية ومفسرة لها في الكتاب، وهو كتاب الأعمال، ومن أهل العلم من يقول: هَذَا كِتَابُنَا يعني: القرآن ينطق عليكم بالحق، وبعضهم يقول: هو اللوح المحفوظ، ولكن الأقرب -والله تعالى أعلم- هو الأول.

وقوله -تبارك وتعالى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ [سورة المؤمنون:63] أي: في غفلة وضلالة، فالغمرة: الشيء الذي يغمر الإنسان، كالماء، يقال: غمره الماء، فكل ما غطاك فقد غمرك.

فقوله: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ يعني: أنها في غفلة وإعراض فلا يصل إليها الحق ولا تنفذ إليها الموعظة، وقوله -تبارك وتعالى: مِنْ هَذَا أي: القرآن، وهذا الذي رجحه ابن جرير -رحمه الله- مع أن بعض أهل العلم يقول غير ذلك.

وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى ما ذكر في هذه ال [سورة أو في هذه الآيات من الجزاء والحساب، وما عليه أهل الإيمان من المسارعة في الخيرات وما أشبه ذلك، والقول بأن اسم الإشارة هنا يرجع إلى الآيات، وما ذكره الله في هذا، فهذا القول يدخل ضمناً في قول ابن كثير وابن جرير أنه القرآن، ومنه هذه الآيات المذكورة، ومعلوم أن القولين إذا كان أحدهما يتضمن الآخر أو يستلزم القول الآخر أو يلزمه، فيمكن أن تحمل الآية عليهما.

فقلوبهم في غمرة من القرآن وما تضمنه من الإخبار عن أهل الإيمان ومسارعتهم بالخيرات، وكذلك ما ذكره الله من خبر ذلك الكتاب الذي دونت فيه أعمالهم، وبهذا يمكن أن نجمع بين هذه الأقوال بهذه الطريقة، وأن القرآن يتضمنها جميعا، والله أعلم.

وقوله: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [سورة المؤمنون:63] قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ، أي: سيئة من دون ذلك يعني الشرك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ قال: لابد أن يعملوها، كذا روي عن مجاهد والحسن وغير واحد.

وقال آخرون: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أي: قد كتبت عليهم، أعمال سيئة لابد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة، لتحق عليهم كلمة العذاب، وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي  وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ظاهرٌ قويٌ حسن، وقد قدمنا في حديث ابن مسعود: فوالذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[3].

قوله: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ القول الأول ظاهر: أن المقصود بقوله: مّن دُونِ ذَلِكَ يعني: دون الإشراك الذي هو وصفهم، أي: لهم أعمال دون الكفر كما قال الله : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [سورة المدثر:42-45ِ].

ومن أهل العلم من يقول: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَأي: من دون أعمال أهل الإيمان التي امتدحها الله  وأخبر أنهم يسارعون إليها، وهذا الذي اختاره ابن جرير –رحمه الله.

وقال آخرون: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ،أي: قد كتبت عليهم أعمال سيئة لابد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة.

يعني: أنهم زاولوا أعمالاً، قاموا بأعمال، قاموا بجرائم كالكفر، والمعاصي، والذنوب، وما إلى ذلك، ولهم أعمال أخرى من دون ذلك وليس المقصود أنها أقل منها وإنما قبل حلول الأجل لابد لهم من مواقعتها، وهذا الذي قال عنه ابن كثير -رحمه الله: قبل موتهم لا محالة لتحق كلمة العذاب، وروى هذا عن مقاتل بن حيان والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ظاهر قوي حسن، وهذا نقل عليه الواحدي إجماع المفسرين، وأهل المعاني مع أن هذا الإجماع لا يصح، لكن بعض علماء التفسير يتساهل في نقل الإجماع، ولعله يقصد به قول جمهور العلماء.

وقوله: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ [سورة المؤمنون:64] يعني: حتى إذا جاء مترفيهم -وهم المنعمون في الدنيا- عذابُ الله وبأسه ونقمته بهم إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ أي: يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ۝ إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا [سورة المزمل:11، 12] الآية، وقال تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [سورة ص:3].

قوله: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لا شك أن العذاب واقع بجميع الكفار، فلماذا خص المترفين منهم؟

قد يكون هذا التخصيص ليبين الحالة التي صاروا إليها بعد الترف والنعمة والتوسع في ملاذ الحياة الدنيا فإذا أخذهم بالعذاب صاروا على حالة تخالفها تماماً، فهذا أبلغ في الزجر والتخويف من عذاب الله -تبارك وتعالى- فالعذاب لا يختص بالمترفين، وإنما العذاب عام، فتخصيص المترفين إنما ذلك من باب الزجر، والتخويف من عذاب الله ، ومعنى: يَجْأَرُونَ، أي: يرفعون أصواتهم بالصياح إذا حل بهم العذاب.

وقوله: لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ [سورة المؤمنون:65 أي: لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم، لا محيد ولا مناص ولا وزر لزم الأمر ووجب العذاب، ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ [سورة المؤمنون:66] أي: إذا دُعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [سورة غافر:12].

قوله: فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [سورة المؤمنون:66]، العقِب: هو مؤخر القدم، وقوله: تَنكِصُونَ أي: ترجعون القهقرى على أعقابكم، وراءكم، فأصل النكوص هو الرجوع القهقرى، يعني: أنهم لا يُقبلون على الداعي ولا يستجيبون، ولا ينقادون، وإنما حالهم بعكس هذا.

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [سورة المؤمنون:67]، أي: بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به، كما قال النسائي من التفسير في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان، أخبرنا عبد الله عن إسرائيل عن عبد الأعلى أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: إنما كُره السمر حين نزلت هذه الآية: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَفقال: مستكبرين بالبيت، يقولون: نحن أهله، سامراً قال: كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه.

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ، أي: بالبيت، أو بالحرم، وهذا أوسع من تخصيصه بالبيت، فكانوا يجلسون حول البيت كما هو معلوم، ويسمرون، ومن أهل العلم من يقول: الحرم، كما يقول ابن جرير –رحمه الله.

ومن أهل العلم من يقول: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي: بالحرم أو بالبيت، والقول بأنه الحرم أوسع في المعنى.

وقوله: سَامِرًا تَهْجُرُونَ يعني: أنكم تسمرون والسمر هو الجلوس بعد العشاء، الهَجْر هو الهذيان وبضم الهاء، الهُجْر هو القول أو الكلام السيئ القبيح، الفحش، تقول هُجراً يعني فحشاً، قال كلاماً سيئاً، وكل هذا حاصل وهم يتكلمون بكلام في القرآن، وفي النبي ﷺ بل وفي الله ويقولون: سحر وكهانة، وقوله: سَامِرًا تَهْجُرُونَ مثل قول الله : وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [سورة الفرقان:30]، سواء كان قد ترك القراءة أو ترك التدبر أو ترك العمل به، فكانوا يجلسون في الحرم ويسمرون فلم يهجروه بأبدانهم، ولكنهم هجروه من العمل الصالح، بل ويشركون بالله –تبارك وتعالى– فيه.

هذا قول الجمهور، وبعضهم يقول: المقصود بذلك القرآن، فقالوا: إنه كهانة وسحر، وأساطير الأولين، وإنه مختلق، وما شابه ذلك مما أخبر الله به عنهم، ومن قال بهذا القول قال: إن سماع الكفار للقرآن يورثهم الكبر والتعاظم والترفع والأنفة، وهذا القول وإن استحسنه بعض المفسرين كابن عطية إلا أنه لا يخلو من ضعف، فإنّ حمله على القرآن، وأن التكبر به يكون من هذا الوجه المذكور فيه شيء من التكلف، والله أعلم.

والراجح أن المقصود به البيت الحرام.

قوله:أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ۝ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ۝ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۝ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ۝ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعمَهُونَ [سورة المؤمنون:70-75].

"أم" هذه المنقطعة والفرق بينها وبين المتصلة، أن المنقطعة هي التي لا يكون قبلها همزة التسوية، ومنه قوله –تبارك وتعالى: سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا [سورة إبراهيم:21] فإذا سبقت بهمزة التسوية فليست المنقطعة، والمنقطعة هي التي تفسر بـ"بل"، والهمزة، وكذلك لا تكون منقطعة إذا كانت تدل على قدر أغنت عنه، تقول: مَن أعلم زيد أم عمرو؟ أي: أم عمرو أعلم؟ فيه مقدر محذوف فهذه ليست بمعنى بل، فهنا يقول الله -تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:68]، يعني: بل أجاءهم، فتفسر ببل والهمزة، بل أجاءهم من الكتاب.

يقول تعالى منكراً على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد خُصوا بهذا الكتاب الذي لم يُنزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول ﷺ ورضي عنهم.

إذا تدبروا القول فإنهم بذلك يعرفون الله وأسماءه، وصفاته، ويعرفون أن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر من بشر، ولا يمكن أن يكون سحراً، ولا شعراً، وإنما هو كلام الله وأن البشر لا يمكن أن يأتوا بمثله، وإذا تدبروا هذا القرآن أيضاً عرفوا دلائل الوحدانية، والحجج، والبراهين التي تتلاشى معها أوهامهم، وشبهاتهم، وما هم عليه من الباطل والكفر إلى غير ذلك مما يتبين لهم بتدبر القول، فيعرفون مصدر هذا القرآن من جهة -إذا تدبروه- وهذا مقصد من مقاصد التدبر للذين لم يؤمنوا بأن هذا القرآن من عند الله  ، فإذا تدبروا عرفوا مصدره، وعرفوا أنه لا يمكن أن يقوله البشر، وكذلك يعرفون ما تضمنه هذا الكتاب وما حواه من دلائل الإيمان، والتوحيد وهذا أيضاً من مقاصد التدبر، وكذلك يعرفون ما تضمنه هذا الكتاب من ألوان الهدايات.

وقال قتادة: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [سورة المؤمنون:68] إذاً والله يجدون في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك، ثم قال منكراً على الكافرين من قريش: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [سورة المؤمنون:69].

قول قتادة -رحمه الله- أحد المقاصد التي تستخرج بالتدبر، والإنسان يحصل له خوف من الله لمّا يرى فيه الوعيد، وجزاء الأعمال، وما أشبه ذلك، لكن ليس هذا فقط زاجراً عن المعصية، أو زاجراً عن الكفر.

وقوله: أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ، "أم" هي المنقطعة، يعني: بل أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين، وهذا يحتمل أنه تقرير لكونه لم يأت آباءهم كتابٌ ولا رسول فهم من أهل الفترة، وهذا فسرت به بعض الآيات لقوله -تبارك وتعالى: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [سورة يــس:6] ففسرت "ما" بأنها نافية فنفي أن يكون جاءهم نذيرهم -أهل فترة، وفسرت بأنها موصولة، فالمعنى يتغير تماماً، فمن أهل العلم من يقول: أَمْ جَاءهُم، أي: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلم يكن لهم عهد بالرسالة، والنبوة، والوحي، فأنكروا، واضح؟ هو تقرير بهذا المعنى.

والمعنى الآخر غير هذا فهو إنكار عليهم، والله يقول: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر:24]، وهو من ولد إسماعيل، ولا زالت بقايا دين إبراهيم، ويعرفون هذا، فهو ينكر عليهم، فهو لم يأتهم بشيء مستنكر والله يقول: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:9]، فالرسالة معهودة ومعروفة، والنبوة وهم يفتخرون أنهم على دين إبراهيم ﷺ ويُمتدحون بهذا، والقول الأول يحتج له ببعض الآيات التي ذكرها الله عن المشركين حينما ينكرون أنهم سمعوا هذا في آبائهم أو عرفوه.

ثم قال منكراً على الكافرين من قريش: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [سورة المؤمنون:69].

أي: أفهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم؟ أي: أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه؟

قوله:أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:68] "أم" هي المنقطعة بمعنى بل، وهذا إنكار عليهم، والنبي ﷺ ليس ببدع من الرسل، هذا أقرب وأولى.

وقوله: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [سورة المؤمنون:69]، فـ "أم" هي المنقطعة وتتضمن الإنكار على هؤلاء، فلم يأتهم بأمر لا عهد لهم به، ولم يأتهم نكرة من الناس لا يعرفونه.

وقد عاش الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام– بين أظهر قومهم قبل أن ينزل إليهم الوحي، وقد قال تعالى: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ [سورة يونس:16]، فلم يأتوا من مكان آخر لا يعرفه قومهم، وإنما نشئوا بينهم، وعرفوا أخلاقهم وصدقهم، وقد كان أهل قريش يلقبون النبي ﷺ بالصادق الأمين.

ولهذا قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابَه عن صفات النبي ﷺ ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعدُ كفاراً لم يسلموا، ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك، وقوله: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [سورة المؤمنون:70]، يحكي قول المشركين عن النبي ﷺ أنه تقوّل القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول، وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به، وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن، فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ولهذا قال: بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [سورة المؤمنون:70]، يحتمل أن تكون هذه جملة حالية، أي: في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة، والله أعلم.

قوله: بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَفلم يكونوا كلهم كارهين للحق، ولكنه قد يكون في حال من الإعراض والاشتغال، وقد يكون يخشى المذمة إن التحق بدين الإسلام، وقد كان أبو طالب يقول:

ولقد علمتُ بأنّ دين محمدٍ من خيرِ أديانِ البريةِ ديناً

قال ابن القيم –رحمه الله: وقال الله سبحانه في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمل دعوته، وما جاء به أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ۝ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [سورة المؤمنون:69، 70] فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل حال القائل فإن كون القول للشيء كذباً وزوراً يعلم من نفس القول تارة وتناقضه واضطرابه، وظهور شواهد الكذب عليه، فالكذب بادٍ على صفحاته وبادٍ على ظاهر وباطنه.

ويعرف من حال القائل تارة، فإن المعروف بالكذب، والفجور، والخداع لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله، ولا يتأتى منه من القول، والفعل ما يتأتي من البار الصادق المبرأ من كل فاحشة، وغدر، وكذب، وفجور، بل قلب هذا، وقصده، وقوله، وعمله يشبه بعضه بعضاً، فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول، وتأمل سيرة القائل وأحواله وحينئذ تتبين لهم حقيقة الأمر وأن ما جاء به في أعلى مراتب الصدق[4].

ومما يوضح كراهيتهم للحق أنهم يمتنعون من سماع القرآن، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه، كما قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده، والنهي عن الإشراك به وهو نوح وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [سورة نوح:7].

وقال تبارك وتعالى في أمر آخر الأنبياء: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُم ْتَغْلِبُونَ [سورة فصلت:26]، فترى بعضهم ينهي بعضاً عن سماع القرآن، ويأمرهم باللغو فيه كالصياح، والتصفيق المانع من السماع، لكراهتهم للحق، ومحاولتهم أن يغلّبوا الحق على الباطل.

وقوله: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [سورة المؤمنون:71] قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله ، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، أي لفساد أهوائهم واختلافها، كما أخبر عنهم في قولهم: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31].

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ، نقل ابن كثير –رحمه الله– عن مجاهد وأبي صالح، والسدي أن الحق هو الله، وهذا قول أكثر المفسرين، والله -تبارك وتعالى- من أسمائه الحق، قال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [سورة الحـج:6].

ويحتمل أن يكون المراد بالحق هو الصدق، وما يقابل الباطل، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [سورة المؤمنون:71]، باختلاف أهواء الناس، يعني سواءً كان ذلك في قضايا التشريع، فهذا يريد أن يمنع هذا، وهذا يريد أن يمنع هذا، أو حتى في تدبير أمور العالم أو الحياة لو تركت هذه الأشياء للناس، لحصل الفساد، فهذا يريد أن تكون الحياة ليلا، وهذا يريد أن تكون نهارا، وهذا يقول: يجب أن يكون الليل طويلا، وهذا يقول: يجب أن يكون النهار طويلا، وهذا يحب البرد، وهذا يحب الحر، فلو بقيت هذه لأهواء الناس فلن يتفقوا على شيء.

قال العلامة الشنقيطي –رحمه الله: "اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية فقال بعضهم الحق هو الله تعالى، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى، كما في قوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [سورة النــور:25]، وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وكون المراد بالحق في الآية هو الله عزاه القرطبي للأكثرين، وممن قال به مجاهد وابن جريح، وأبو صالح السدي، وروي عن قتادة وغيرهم.

وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه وإرسال من اقترحوا إرساله بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعاً لأهوائهم الفاسدة لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ لأن أهواءهم الفاسدة، وشهواتهم الباطلة لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض، وذلك لفساد أهوائهم واختلافها فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء والأرض ومن فيهن، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع.

ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح لئن تكون متبعة قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31]، لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك، وقد رد الله عليهم بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32]، وقال تعالى: قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا [سورة الإسراء:100]، وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [سورة النساء:53][5].

ثم قال: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32]، وقال تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ [سورة الإسراء:100] الآية، وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [سورة النساء:53]، ففي هذا كله تبيّن عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه، تعالى وتقدس، فلا إله غيره ولا رب سواه، ولهذا قال: بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ [سورة المؤمنون:71]، أي: القرآن فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ [سورة المؤمنون:71].

قوله: بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْأي: القرآن، وهذا هو المتبادر، ويحتمل أن يكون المراد التذكير أو ما يحصل به التذكير، وهذا لا يختص بالقرآن، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر الشرف، ومنه قوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ [سورة الزخرف:44]، ففسر بالتذكير وفسر بالشرف، وكذلك في قوله –تبارك وتعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ  فبعضهم يقول: بشرفهم، وفخرهم، وهذا القرآن فهو شرف لهم، شرّفهم الله به، وقيل هو القرآن، أو أن الذكر مصدر المقصود به ما يحصل به التذكير، وابن جرير -رحمه الله- حمل الآية على المعنيين أنه القرآن، وهو أيضاً شرف لهم، نزول هذا القرآن على العرب تشريف لهم، قال تعالى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة الجمعة:2] فشرّف هؤلاء الأميين بهذا.

وللشيخ الشنقيطي –رحمه الله– كلام مفيد في هذا المعنى في قوله –تبارك وتعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ [سورة المؤمنون:71]، فقال: اختلف العلماء في الذكر في الآية، فمنهم من قال: ذكرهم فخرهم، وشرفهم، لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف، وقال بعضهم: الذكر في الآية الوعظ، والتوصية وعليه فالآية كقوله: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران 58]. 

وقال بعضهم: الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قوله: لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الْأَوَّلِينَ ۝ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [سورة الصافات:168، 169]، وعليه فالآية كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [سورة فاطر:42]، وعلى هذا القول فقوله: فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا [سورة فاطر:42] كقوله هنا فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ [سورة المؤمنون:71]، وكقوله: أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [سورة الأنعام:157] والآيات بمثل هذا على القول الأخيرة كثيرة، والعلم عند الله تعالى[6].

وعلى كل حال تفسير الذكر هنا بأنه القرآن يتضمن القول بأن المقصود بذلك ما يحصل به التذكير، والقرآن فيه تذكير ووعظ، كذلك في قوله: لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الْأَوَّلِينَ [سورة الصافات:168]، الأشياء التي فرعها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- هي راجعة لهذا في الواقع، لكن يبقى القول الآخر أنه شرف، فابن جرير -رحمه الله- جمع بين المعنيين، فقال: إن نزول القرآن عليهم فيه تشريف لهم، وهو هذا الكتاب الذي فيه شرفهم، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والآية إذا احتملت معنيين فأكثر ولم يوجد مانع حملت عليهما من هذا الباب، والله أعلم.

وقوله: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا [سورة المؤمنون:72]، قال الحسن: أجراً، وقال قتادة: جُعلاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ [سورة المؤمنون:72]، أي: أنت لا تسألهم أجرة ولا جُعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سورة سبأ:47]، وقال: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [سورة ص:86]، وقال: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [سورة الشورى:23]، وقال: وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۝ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة يــس:20، 21].

قوله: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا [سورة المؤمنون:72] "أم" هي متضمنة لمعنى الإنكار، والخَرج يقابل الدخل، ما يدخل على الإنسان، والخَرج ما يخرج منه فيقال ذلك للضريبة، ويقال: ما يُضرب على الأرض فيخرجه الإنسان كل عام، كل ذلك يقال له خَرج وخراج، وإن كان بعضهم فرق وجعل الخراج ما يفرض على الإنسان ويلزمه، والخرج ما يخرجه طواعية، ولكن هذا لا يخلو من إشكال.

وهنا: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا والمقصود هنا الأجرة، قال: فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، أي: فرزق ربك خير، وذلك ما يعطيه الله لعبده من الثواب والأجر، فما عند الله خير من هذا العرض الزائل الدنيء الذي يؤخذ مقابل الدعوة إلى الله والإيمان به.

وقد كان الرسل –عليهم الصلاة والسلام– يقولون: يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا وهكذا ينبغي أن تكون الدعوة إلى الله فتكون الدعوة من غير مقابل، وقد سبق الكلام على هذا المعنى، وأن الذي يدعو إلى الله ينبغي أن لا يأخذ على هذا أجراً من الناس وإلا فإن الكلمة تولد ميتة، ولا تصل موعظته إلى قلوب الناس ولا يحصل الانتفاع بها، وتنطفئ نور هذه الكلمة، وهذا شيء مشاهد، فينبغي سد هذا الباب وقطع دابر هذه الحيل الشيطانية التي يزينها الشيطان لبعض الناس مهما كان المبرر.

ولا يليق بالداعية أن يأخذ في مقابل تعليمه للناس بالحج مثلاً أموالاً قد تصل إلى مائة ألف وأكثر، ولا يليق بالداعية أن يذهب هنا وهناك أو يسافر إلى بلد من أجل أن يحصل على شيء من عرض الدنيا، ولا يليق له أن يبيع هذه الصوتيات التي فيها موعظة أو درس أو نحو هذا لا بمئات الألوف، ولا بأقل من هذا مهما كانت المبررات، ومهما كانت الأعذار التي يعتذر الإنسان بها، خذها وأعطها تحفيظ القرآن أو تأخذها ولا تعطيها تحفيظ القرآن، اقطع دابر هذا تماماً، الآن بتعطيها تحفيظ القرآن، وغداً من بتعطيهم؟ والنفوس لها تعلقاتها، وأطماعها.

وثقوا تماماً أن من سلك هذا الطريق فإن ذلك يعني أنه قد حكم على نفسه ألا ينتفع الناس بموعظته، وكلامه فتنطفئ نور هذه الكلمات، ولا تبقى إلا كلمات جوفاء تلامس الأسماع، ولكنها لا تصل إلى القلوب بل إن القلوب -إذا استمر الإنسان هذا- تمجّه وتستثقله ثم يكون له من الذكر السيئ والنفرة في قلوب الخلق، بل لربما اتخذوه للتندر، فالإنسان يقطع هذا الطريق، قد يُقضي على الداعية بأمور متنوعة من أعظمها وأشدها ما يجنيه على نفسه بهذا الفعل، والله المستعان.

وقوله: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [سورة المؤمنون:73، 74]، روى الإمام أحمد عن ابن عباس –ا- أن رسول الله ﷺ أتاه فيما يرى النائم ملكان، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثَل هذا ومثَل أمته، فقال: إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سَفْر انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حُلة حِبَرة، فقال: أرأيتم إن أوردتكم رياضا مُعشبة وحياضاً رُواء تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم وأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رُواء أن تتبعوني؟ قالوا: بلى، قال: فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني، قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه[7].

هذا الحديث وإن كان يحمل هذا المعنى الجميل: فنقلَهم من حال إلى حال فحصلت لهم سعة في الدنيا، ونصر وتمكين، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى النعيم المقيم في الآخرة، ولكن الحديث لا يخلو من ضعف، فيه على بن زيد بن جدعان ضعيف، وفيه يوسف بن مهران فيه ضعف.

وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [سورة المؤمنون:74]، أي: لعادلون جائرون منحرفون، تقول العرب: نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها، وقوله: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة المؤمنون:75]، يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم

يقول: لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ، بمعنى: تمادوا، فإن هذه اللفظة تدل على معنى التمادي، يعني: يتمادون في العناد ويترددون فيه، وأصل العمه عمى القلب، يعني: يتخبطون، ويترددون، ويتذبذبون يعني: لو حصل لهم إقالة من عذاب الله ثم رجعوا سواء كُشف عنهم عذاب قد عاينوا أوائله في الدنيا أو كان ذلك من عذاب الآخرة كما قال الله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [سورة الأنعام:28]، ولهذا خلدهم الله في النار؛ لأنهم مهما بقوا فهم باقون على الكفر مصرون عليه، وإن عاش الواحد منهم في الدنيا ستين سنة أو نحو هذا، فيخلد أبد الآباد في نار جهنم، فهو لو بقي أبد الآباد في الدنيا فهو على الكفر، عزم وإصرار، والعزم المصمم ينزل منزلة الفعل.

كما قال تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهم مُّعْرِضُونَ [سورة الأنفال:23]، وقال: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [سورة الأنعام:27- 29] فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون، قال الضحاك عن ابن عباس: كل ما فيه لوفهو مما لا يكون أبداً.

هذا مما يسمى بالكليات، وهذا مبنى على الاستقراء، فمعرفة صحة هذا أن يُتتبع، وكثير مما يذكر فيه ذلك فيه استثناءات، وحقه أن يقال فيه: كل ما كان كذا فهو كذا إلا كذا، فيذكر الاستثناء.

  1. رواه أحمد (42/ 156)، برقم: (25263).
  2. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب سورة المؤمنون (5/ 327)، برقم: (3175).
  3. رواه البخاري، كتاب القدر، باب في القدر (8/ 122)، برقم: (6594)، ومسلم،  كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2036)، برقم: (2643).
  4. الصواعق المرسلة (2/ 469-470).
  5. أضواء البيان (5/ 342).
  6. أضواء البيان (5/ 343).
  7. رواه أحمد (4/ 227)، برقم: (2402).

مواد ذات صلة