الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
[108] من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} الآية 243 إلى قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} الآية 248
تاريخ النشر: ٠٧ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 4320
مرات الإستماع: 2557

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ومصطفاه سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ۝ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:243-245]
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا أهل قرية يقال لها: داوردان، وقال علي بن عاصم: كانوا من أهل داوردان قرية على فرسخ من قبل واسط، وروى وكيع بن الجراح في تفسيره عن ابن عباس: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال الله لهم: موتوا، فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم فذلك قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ الآية.

 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالاستفهام في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ استفهام تقريري، والرؤية المذكورة رؤية قلبية، بمعنى العلم.

والباري سبحانه إنما أورد هذه القصة ليبين لهم قدرته على إحياء الموتى، وللتدليل على إمكانية البعث بعد النشور الذي أنكره المشركون من قريش وغيرهم، وقد ذكر الله قدرته على ذلك في خمسة مواضع من سورة البقرة:

الموضع الأول: قوله سبحانه: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56].

الموضع الثاني: قوله سبحانه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۝ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] والمعنى: أن الله سبحانه أمرهم بضرب القتيل الذي اختلفوا في قاتله ببعض البقرة التي أُمر بنو إسرائيل بذبحها، فضربوه بجزء منها، فرد الله عليه روحه فتكلم وأخبرهم بقاتله، وبين سبحانه أن في هذه القصة دليلاً على إحيائه الموتى لذوي العقول.

الموضع الثالث: قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [سورة البقرة:243].

الموضع الرابع: قوله سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [سورة البقرة:259].

الموضع الخامس: قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:260]، فهذه خمسة مواضع ذكرها الله في الإحياء بعد الإماتة، وهذا الاستدلال ما هو إلا نوع من الأدلة القرآنية التي يستدل بها على البعث والإحياء بعد الإماتة.

ومن أنواعه: الاستدلال على إحياء الأرض بعد موتها بالبعث بعد النشور كما قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة فصلت:39].

والآية إنما سيقت لبيان معنى وهو الحث على الجهاد، فلا يترك من أجل استبقاء النفوس والمهج، فإن الآجال لا بد أن تقع كما حددها الله دون أن تتقدم أو تتأخر، فهؤلاء لما فروا من الموت قَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ.

ولا بد من العلم أن هذه الروايات التي ذكرها ابن كثير والتفاصيل لا دليل عليها، ولا طائل من تحتها وهي مما أخذ من بني إسرائيل فلا سبيل للوصول إلى معرفة أسانيدها، ثم إن بينها من التناقض ما لا يخفى على مطّلع، مما يؤكد دخول التحريف والكذب في هذه الروايات، فيحسن عدم الاعتماد عليها في التفسير والنقل. والله أعلم.

وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد، فخرجوا فراراً من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا وادياً أفيح، فملئوا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين، أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه، فصاحا بهما صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، موتة رجل واحد، فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا، فلما كان بعد دهر مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فسأل الله أن يحييهم على يديه، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً، فكان ذلك وهو يشاهده، ثم أمره فنادى أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياء ينظرون، قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت.

وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع، على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، ولهذا قال: إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة، والدلالات الدامغة، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم. 

وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء، طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد. 

ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بصرح لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فذكر الحديث، فجاءه عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيباً لبعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه[1]، فحمد الله عمر ثم انصرف، وأخرجاه في الصحيحين.

الشاهد من الرواية قوله ﷺ: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، لأن هذا الخروج لن ينفعكم، وما بعده لا يعارضه فهذا من باب بذل السبب، مع أن المقدر لابد أن يقع، ولذا يحكى أن أعرابياً لما رأى الموتى في القرى خاف، فسأل: كيف السبيل إلى التوقي منه؟ فقيل له: إن القرى يكثر فيها الوباء وعليك بالبوادي، فخرج إلى البادية، يطلب العافية، فوجد قبرين عند كثيب، فقال:

ونبأتماني أنما الموت في القرى فكيف وهذي هضبة وكثيب
وصدق الله: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78].

وقوله: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:244]، أي كما أن الحذر لا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد، وتجنبه لا يقرب أجلاً ولا يبعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه، كما قال تعالى: الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة آل عمران:168]، وقال تعالى: وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۝ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:77-78] 

وروينا عن أمير الجيوش، ومقدم العساكر، وحامي حوزة الإسلام، وسيف الله المسلول على أعدائه، أبي سليمان خالد بن الوليد ، أنه قال وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفاً، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء، يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب، ويتأسف على ذلك، ويتألم أن يموت على فراشه.

وقوله: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [سورة البقرة:245] يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل الله، ولقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع، وفي حديث النزول أنه يقول تعالى: من يقرض غير عديم ولا ظلوم.

أصل القرض في كلام العرب: هو كل ما يلتمس عليه الجزاء، ثم شاع استعماله في المعنى المعروف بالقرض، وهو غير خارج عن هذا؛ إلا أنه إذا كان القرض بمقابل من زيادة يحتسبها المقرض، فإن ذلك هو الربا، جاء في الحديث كل قرض جر نفعاً فهو ربا، وأما إذا كان يحتسب بذلك الجزاء عند الله في الآخرة فهو المقصود المراد في الآية، والله أعلم.

وقوله: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً كما قال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء [سورة البقرة:261] الآية، وسيأتي الكلام عليها.

وقوله: وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ أي أنفقوا ولا تبالوا، فالله هو الرزاق، يضيق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي يوم القيامة.

والمعنى أن هذه النفقة ليست هي التي يحصل بسببها الإقلال، وإنما ذلك يرجع إلى تقدير الله -، وحكمته الباهرة وبصريته النافذة في خلقه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة البقرة:246].

الاستفهام في أول الآية تقريري، والرؤية قلبية علمية كما تقدم.

وقوله سبحانه: إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ الملأ المراد بهم أشراف الناس، وعِلية القوم، قيل في سبب تسميتهم بذلك؛ لأنهم يملئون صدور المجالس.

وقيل: لأنهم مَلِئون بما يطلب منهم وينتظر من قضاء حاجات الناس عندهم، وقيل: سموا بالملأ لأنهم يتمالئون على الأمر، لكونهم أهل الحل والعقد، وقيل: لأنهم مُلئوا شرفاً أو غير ذلك.

وقوله سبحانه: هَلْ عَسَيْتُمْ عسى من أفعال المقاربة، ودخول أداة الاستفهام عليه إنما هو لتقرير ما هو متوقع عنده من عدم قتالهم، والإشعار بأنه كائن كما قال سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد:22].

وقوله سبحانه: إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ قد يستشكل المعنى عند إعمال التركيب باعتبار أن أصل اللفظة وما لنا أن لا نقاتل، ولذا فإن كثيراً من أهل العلم يلغي عمل أن، ويجعلها زائدة لا اعتبار لها، فيصبح المعنى وما منعنا أو يمنعنا أن نقاتل...، وقال بعضهم: بل يمكن استبقاء أن دون إشكال ويكون المعنى: وأي شيء لنا في أن لا نقاتل، والله أعلم بالصواب.

قال مجاهد: هو شمويل .

شمويل يعني شمعون.

وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام.

هذه الرواية من الإسرائيليات، وهي من النوع الذي ليس في شرعنا ولا في كتابنا ولا عن رسولنا ما يصدقه ولا يكذبه، ولذا فقد نص أهل العلم على أن هذه الروايات لا نؤمن بها ولا نكذبها، بل تمر كما جاءت دون التعرض لها تصديقاً وتكذيباً، والعلم عند الله.

ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقيمهم على منهج التوراة، إلى أن فعلوا ما فعلوا، فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقاً كثيراً وأخذوا منهم بلاداً كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه، وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان، وكان ذلك موروثاً لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم -عليه الصلاة والسلام، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب، وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل، وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل، فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاماً يكون نبياًَ لهم، ولم تزل المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً، فسمع الله لها ووهبها غلاماً، فسمته شمويل -أي سمع الله دعائي، ومنهم من يقول: شمعون وهو بمعناه.

فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم، أنبته الله نباتاً حسناً، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه، وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً يقاتلون معه أعداءهم، وكان الملك أيضاًَ قد باد فيهم، فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكاً أن لا تفوا بما التزمتم من القتال معه؟

قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا أي: وقد أخذت منا البلاد، وسبيت الأولاد. 

قال الله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي: ما وفوا بما وعدوا، بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم.

قوله سبحانه: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا عبروا بذلك عن جميعهم والمراد من سبي منهم، وأخرج من بلده وداره، وهذا من باب أن الواقع على بعضهم كالواقع على كلهم، فيكون الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم هم السبايا الذين سباهم عدوهم، بدليل أنهم خاطبوا نبيهم وهم في أرضهم وديارهم، وهذا المعنى هو الذي ذكره ابن كثير، لكن عبارة ابن جرير -رحمه الله- أصرح منها إذ يرى أن المقصود بذلك هو من سبي منهم.

وأما بالنسبة لكونه لم يؤخذ في السبايا إلا الأبناء دون البنات، فلعل ذلك باعتبار ما هو أشرف وأعز على نفوسهم، فإنّ أخذ الأولاد مؤذن بالضعف وتلاشي القوة وذهاب دولتهم، فلا يبقى عندهم رجال يحمون أرضهم ونساءهم، مع أن أخذ النساء من وجه آخر أعظم وأشد، لما فيه من ذهاب العرض، ولذلك قال الله عن فرعون، ممتناً على بني إسرائيل: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ [سورة البقرة:49] 

ثم فسر سوء العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ فعدّ استحياء النساء أي إبقاءهن حيات من جملة العذاب الذي يسومونهم به، لما فيه من استذلالها واسترقاقها، وتعرضها للمكروه، وتكليفها ما لا يطاق، فهذا الأمر لا يقل شناعة عن القتل والذبح، والله أعلم.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:247] أي: لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكاً منهم فعين لهم طالوت، وكان رجلاً من أجنادهم، ولم يكن من بيت الملك فيهم؛ لأن الملك فيهم كان في سبط يهوذا، ولم يكن هذا من ذلك السبط، فلهذا قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا أي كيف يكون ملكاً علينا. 

وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ أي: هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقّاءً، وقيل: دباغاً، وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت، وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف، ثم قد أجابهم النبي قائلا: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ أي اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم، يقول: لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي، بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك. 

وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ أي: وهو مع هذا أعلم منكم وأنبل، وأشكل منكم، وأشد قوة، وصبراً في الحرب ومعرفة بها، أي أتم علماً وقامة منكم، ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن، وقوة شديدة في بدنه ونفسه. 

ثم قال: وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء أي هو الحاكم الذي ما شاء فعل، ولا يسأل عما فعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه، ولهذا قال: وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ أي هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء، عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.

قد لا يكون في الآية ما يستدل به على اشتراط الشكل الحسن الذي أشار إليه ابن كثير، والمتفق عليه المستنبط من الآية في صفات الملك: البسطة في العلم بمعنى السعة فيه حتى يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق كما اشترطه بعضهم. 

والبسطة في الجسم بمعنى اكتمال القامة، وقوة البدن، وفَوْر القوة، فيكون ذا رأي وعلم وبصر في الأمور، وقوياً يتحمل الأعباء ويتجلد في الشدائد، ويصبر عند المقارعة والنزال، سليم الأعضاء، ليس فيه عاهة تعطله من القيام بما يناط به، والناس وإن تفاوتوا في هذه الصفات، إلا أن اكتمالها من الكمالات المطلوبة في المتصدر للملك والزعامة، والله أعلم بالصواب.

وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:248] يقول لهم نبيهم: إن علامة بركة ملكْ طالوت عليكم، أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم.

ويمكن أن يقال: إن علامة ملك طالوت عليكم أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ والتابوت: صندوق أصله من التوب؛ لأنهم يرجعون إليه، وكانوا ينقلونه معهم في مغازيهم وحروبهم.

فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ قيل: معناه وقار وجلالة، قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: فِيهِ سَكِينَةٌ أي: وقار، وقال الربيع: رحمة، وكذلك روي عن العوفي عن ابن عباس.

للمفسرين أقوال في المراد بالسكينة بعضها في غاية التناقض والبعد، فبعضهم صور السكينة كأنها قطة في التابوت لها عيون تشع، ولها ذيل وآذان، فإذا دقت طبول الحرب أطلت برأسها ويديها، فيُفزع العدوَّ منظرُها وينهزمون.

وبعضهم يقول: هي ريح مثل الإعصار له رأسان، كل رأس له وجه، وقيل: إنهم يسكنون إلي التابوت فيما يتصل باختلافهم على طالوت، بحيث يرتفع ذلك الخلاف وهذا الاعتراض، ولكن هذا لا يختص بهذا المعنى، والله أعلم.

ولعل من أحسن ما يفسر به قوله: فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ أن ذلك من السكون، ففي هذا التابوت من الآيات ما تسكن إليه نفوسهم، وتقوى قلوبهم على قتال عدوهم عند رؤيته، لذا كانوا يحملونه معهم في أسفارهم ومغازيهم، ويضعونه بين أيديهم، وهذا المعنى ذكره ابن جرير في تفسيره.

آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ آل فلان يراد بها تارة فلان نفسه، وتارة يراد بها قومه أو أهله، والمقصود بالآل في الآية موسى وهارون، وهذا له شواهد في القرآن كما قال الله عن آل فرعون: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] وأراد فرعون، ولكن لا يمنع أن يدخل في الآية قوم فرعون، وكذا قوله سبحانه: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:33] يعني الأنبياء آدم ونوحاً وإبراهيم، وقيل غير هذا.

وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ روى ابن جرير عن ابن عباس في هذا الآية: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، قال: عصاه ورضاض الألواح، وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس، وعكرمة وزاد: والتوراة، وقال عبد الرزاق: سألت الثوري عن قوله: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، فقال: منهم من يقول: قفيز من منِّ، ورضاض الألواح، ومنهم من يقول: العصا والنعلان.

استدل القائلون بأن البقية هي رضاض الألواح بحديث حسنه بعض أهل العلم؛ لأن الألواح -وكانت مكتوبة على زبرجد- لما ألقاها موسى تحطمت، فبقي منها سبعٌ ورُفع الباقي، فوضعوه في التابوت.

وقيل: إن ما بقي في التابوت ليس من موسى وهارون فقط، بل من الأنبياء الذين من نسل نبي الله يعقوب ؛ لأن من نسله جاء أنبياء بني إسرائيل، والآل هم أجدادك وهؤلاء منهم فيشملهم لفظ الآل، فكان في هذا التابوت آثار لهؤلاء الأنبياء من بني إسرائيل. والله أعلم.

وقوله: تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ قال ابن جريج: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون، قال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وأطاعوا طالوت.

وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت، إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ أي بالله واليوم الآخر.

وجاء في بعض الروايات أنهم جاءوا بالتابوت تسوقه الملائكة بعربات ودواب، وهذا احتمال واضح؛ لأن الآية جاءت بلفظ الحمل وهو منتفٍ في هذه الرواية، والحقيقة أن الإسرائيليات في صفة مجيء الملائكة بهذا التابوت كثيرة، وفيها من المبالغات ما يصعب على المرء تخيله وتصديقه، وبعضها مردود، ولذا يحسن عدم الخوض في تفاصيل الروايات الإسرائيلية؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى نتيجة، بسبب ضعف الروايات، ولا يمكنه الاستنباط والفهم من الرواية، ثم لا فائدة تذكر في معرفة هذه التفاصيل، والله أعلم بالصواب.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.

  1. رواه البخاري بلفظ آخر في كتاب الطب –باب ما يذكر في الطاعون برقم (5397) (5/2163)، ومسلم في كتاب السلام –باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها برقم (2218) (4/1737)، ورواه أحمد في مسنده برقم (1683) (1/194).

مواد ذات صلة