بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [سورة القصص:7-9].
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل خافت القبط أن يُفْني بني إسرائيل فَيَلُون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة، فقالوا لفرعون: إنه يوشك -إن استمر هذا الحال- أن يموت شيوخهم، وغلمانهم يقتلون، ونساؤهم لا يمكن أن يَقُمْن بما يقوم به رجالهم من الأعمال، فيخلص إلينا ذلك، فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا، فولد هارون في السنة التي يتركون فيها الولدان، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك، وقوابل يَدُرْنَ على النساء، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون، بأيديهم الشفار المرهفة، فقتلوه ومضوا، قَبَّحَهُم الله تعالى.
فلما حملت أم موسى به لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وخافت عليه خوفًا شديدًا، وأحبته حبًّا زائدًا، وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعًا وشرعًا، قال الله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [سورة طه:39].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن المعلوم أن الله -تبارك وتعالى- إذا أراد أمرًا هيأ أسبابه، ومهما بذل الخلق وعملوا وأفنوا الأموال والأوقات في الحيلولة دون وقوعه فإن تدبيرهم وسعيهم وبذلهم وإنفاقهم يكون على خلاف مطلوبهم، وهذا فيه عبرة عظيمة، والكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كلام نفيس، جاء في تضامينه هذا المعنى الذي أشرت إليه آنفًا.
فمثل هذا ينبغي أن يعتبرَه أهل الإيمان، ويعلموا أن الله عليم حكيم، وأن الله ناصر دينه، وكتابه، ورسوله ﷺ، وعباده المؤمنين، ويعتبرَ به أهل النفاق والكفر، فيعلموا أن تدبيرهم كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُون ُعَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأنفال:36، 37]، والواقع يشهد بهذا في مشارق الأرض ومغاربها.
وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: فلما حملت أم موسى به لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها ولم تفطن لها الدايات، الدايات جمع داية وهي الحاضنة أو المرضعة الأجنبية غير الأم، ويقال للقابلة التي تلي توليد المرأة، يقال لها: داية.
وقوله: وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعًا وشرعًا قال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، قد مضى الكلام على هذا المعنى، وأن هذا أحد القولين في الآية: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، المعنى الأول أن الله أحبه، والمعنى الثاني: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي يعني أن لا يراه أحد إلا أحبه، وهذا كما في الحديث: (فيقول الله لجبريل إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)[1].
فهذا هو المعنى الذي يشير إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله: لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعًا وشرعًا، "طبعًا" باعتبار أنه لا يراه أحد إلا أحبه، يعني من الناس من يكون له القبول، والمحبة، فالقلوب تحبه وتنجذب إليه، ومن الناس من تنفر منه القلوب بمجرد رؤيته، وتنقبض منه ولا تطيقه، وإن كانوا لا يعرفون عمله، وهذا شيء مشاهد، فالقبول والمحبة من الله -تبارك وتعالى، فهذا من أحبه "طبعًا"، قال: و"شرعًا" المحبة الشرعية هي المحبة التي تكون لله وفي الله، فيحبه؛ لأنه من أعظم أولياء الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام، فقد تحب أحدًا من الناس محبة طبع كما يحب الرجل ولده أو والده أو من يجانسه في طبع وخلق، أو يحب امرأته أو نحو ذلك هذه محبة طبع، ومحبة الشرع هي المحبة التي تكون لله، وفي الله.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسر الوحي إلى أم موسى -عليه الصلاة والسلام- بالإلقاء في الروع، ألقى الله في روعها أو نفث في روعها أو ألهمها، ومن أهل العلم من يفرق بين النفث في الروع والإلهام -والروع هو القلب، والروع الخوف- نفث في روعها من أهل العلم من يفسر النفث في الروع بأنه يكون بإلقاء الملَك، بواسطة الملك يلقي المعنى في القلب، وأن الإلهام يكون بإلقاء المعنى بالقلب من غير واسطة الملك، هكذا فرق بعض أهل العلم بين الإلهام والنفث في الروع.
ومن أهل العلم من قال: هما بمعنى واحد، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- ظاهرُ صنيعه أنه لم يفرق بينهما؛ لأنه قال: "ألهمت في سرها وألقي في خلدها ونفث في روعها"، أتى بهذه الجمل الثلاث مما يدل على أنها عنده بمعنى واحد، وهذا قال به بعض أهل العلم: أعني أن ما حصل لأم موسى إنما هو من قبيل الإلهام، هذا احتمال، وهناك احتمال آخر وهو أن الله بعث اليها ملكًا.
وبعْثُ الملك ما يعني بالضرورة أن يكون الإنسان نبيًا؛ فمريم -رحمها الله- جاءها الملك، وتمثل لها بشرًا سويًا وكلمها، وكذلك أيضًا في قصة الثلاثة الأقرع والأبرص والأعمى جاءهم ملك على صورة رجل، فالملك قد يأتي إلى أحد من الناس ولا يكون نبيًا، فقد يكون بعث الله لها ملكًا، وقد يكون نفث في روعها، وقد يكون ألهمها، المهم أن الله أوحى إليها، وهذا غير الوحي التسخيري للجمادات، أو لبعض الجمادات كالوحي لما قال الله للسموات: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمـَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا [سورة فصلت:11، 12]، وغير الوحي الغريزي في بعض الكائنات مثل وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل:68] فهذا غيرهما، -والله أعلم، وهذا يحتمل بالنسبة لأم موسى.
يعني: مثل هذه الأشياء لم يرد فيها حديث ثابت عن النبي ﷺ، وإنما مثل هذا غالبًا يكون مما تُلقي عن بني إسرائيل، وأخبار بني إسرائيل كما تعلمون.
قوله -تبارك وتعالى: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ يدل على أنها تلقيه فيجري به الماء بهذا التابوت لا أنه مربوط فهي تتناوله متى شاءت، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وهذا ظاهره، فالكلام على أنه مربوط ونحو ذلك لا دليل عليه، ثم إن ظاهر القرآن يخالف ذلك، لو كانت المسأله أنه مربوط هي ستطمئن إلى حد ما ولا تحتاج إلى هذا الوعد إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وهذه الوعود من الله -تبارك وتعالى- لتطمينها، فهو شيء يخرج من يدها، فجاءها هذا التطمين من الله ؛ ولهذا يقولون: إن هذه الآية تضمنت أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ، أمر فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ هذا أمر–أيضًا- وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي، هذان نهيان، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فهذا خبران تضمنا بشارتين، فهذه ثمانية أشياء في هذه الآية، وهذا من بلاغة القرآن يجمع المعاني الكثيرة في العبارات القصيرة.
فذهب مع الماء واحتمله، حتى مر به على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه، فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتئتنَ عليها في فتحه دونها.
قوله: "يفتئتن عليها" يعني: من الافتئات، فلم يكشفن الصندوق من أجل ألا يكون هناك افتئات عليها، فجعلوها هي التي تفتح الصندوق مع أن هذا فيه غرابة وبُعد، صندوق مغلق تأخذه الجواري ويذهبن به إلى زوجة الملك من أجل أن تفتحه قد يكون هذا الصندوق فيه شيء مما ينفر منه الإنسان، ويتأذى به إلى غير ذلك، يعني الأصل أنهم ينظرون ما في هذا الصندوق فإن كان شيئًا له أهمية وقيمة وشأن ذهبوا به إليها، أما ما وجدوا في هذا النيل، والنيل كما هو معلوم يحمل كل شيء، فكلما وجدوا في هذا النيل شيئًا ذهبوا به إلى زوجة الملك من أجل أن تفتحه هي!! مثل هذا لا يعقل في مجاري العادات، إنما يلي ذلك أدنى الناس.
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا في قراءة حمزة والكسائي {ليكون لهم عدوًا وحُزْنا} وهما لغتان بمعنى واحد: حَزَنٌ وحُزْنٌ.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أشار إلى القول المشهور، وكثيرًا ما يمثل به أهل اللغة على لام العاقبة فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، يقولون: اللام للعاقبة، بمعنى أنها ليست للتعليل، فهم التقطوه من أجل أن ينتفعوا به، رجاء الانتفاع به عَسَى أَن يَنفَعَنَا، ولم يلتقطوه من أجل أن يكون لهم عدوًا وحزنا، ولو علموا بهذا لقتلوه إن صح أنهم كانوا يقتلون الصبيان خوف ظهور الغلام الذي قيل لهم: إن مُلكهم سيذهب على يده، فهو الآن عندهم بين أيديهم، فالتقطوه رجاء الانتفاع به ولم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنا عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا؛ ولهذا كثيرًا ما يعبرون عن هذه اللام بأنها لام العاقبة، تقول: فلان اشترى السيارة الفلانية ليكون بها حتفه، فهو اشتراها لينتفع بها.
لكن القول بأنها للعاقبة الحافظ ابن كثير لما أشار إلى هذا القول رده وهذا من دقته -رحمه الله- فهو يقول: "إن اللام هذه لام التعليل وليست لام العاقبة"، كيف تكون لام التعليل وهم ما فعلوا ذلك من أجل أن يكون لهم عدوًا؟ هي لام التعليل باعتبار فعل الله بهم وتدبيره فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ، الله يقول: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا ليجعله الله لهم عَدُوًّا، يعني من أجل أن يصير في النهاية هكذا، من أجل أن يجعله الله لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا يعني سببًا لكثير من الحزن الذي يصل إليهم بل يكون سببًا للهلاك الذي وقع لفرعون ولملئه وجنوده حتى لم يبقَ في البلد إلا النساء والأطفال، وأما الخدم فهم بنو إسرائيل.
فالشاهد أن هذه اللام بهذا الاعتبار هي لام التعليل عند الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنها تبقى اللام للتعليل؛ لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه؛ ليجعله لهم عدوًا وحزنًا" فهي لام التعليل باعتبار النظر إلى فعل الله بهم، وهذا الذي اختاره –أيضًا- الحافظ ابن القيم -رحمه الله، وقال به من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع: أن اللام ليست للعاقبة وإنما هي للتعليل، وهذا ملحظ جيد فهم التقطوا: بالنسبة إليهم اللام لام العاقبة، وإذا نظرنا إلى فعل الله فاللام لام التعليل، وكثير من المفسرين نظروا إلى فعلهم فقالوا: هي لام العاقبة.
مثل هذا لم يرد فيه دليل ثابت يوقف عنده.
فكان كذلك، وهداها الله به، وأهلكه الله على يديه، وقوله: عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا، وقد حصل لها ذلك، وهداها الله به، وأسكنها الجنة بسببه، وقوله: أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، أي: أرادت أن تتخذه ولدًا وتتبناه، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه.
وقوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة، والحجة القاطعة.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول: "ما يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة"، وهكذا قول من قال: لا يَشْعُرُونَ بما هو كائن من أمره وأمرهم، أو قول من قال أيضًا: لا يَشْعُرُونَ بأن هلاكهم على يده، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن جرير -رحمه الله، وهذا كله يرجع إلى شيء واحد، لا يَشْعُرُونَ بما يكون من أمر هذا الغلام، ومن أمرهم معه إذ كان هلاكهم على يده، وما وقع لهم قبل ذلك من السنين القحط والجراد والقمل والطوفان والدم إلى غير ذلك مما نزل بهم، كل ذلك كان بسبب معصيتهم لموسى -عليه الصلاة والسلام- وتكذيبهم له.
وقوله: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ظاهره أن ذلك من كلام الله ، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ لا يشعرون ما سيكون من حالهم وحاله، لا يشعرون ما يصيرون إليه في نهاية المطاف، من الهلاك، والشقاء هذا ظاهره أنه من كلام الله .
ويحتمل أن يكون ذلك من تمام كلامها، أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ باعتبار أنها تقصد بني إسرائيل، وهذا يتوقف على مقدمة، وهي أنهم عرفوا أنه لبني إسرائيل، فهي تقول: هم لا يدرون أنه صار إلينا فينشأ في قصر فرعون، ولا يعرفون خبره ومآله فلا يتوقعون أن هذا الناشئ في القصر أنه ذلك الإسرائيلي الذي ألقي بهذه الطريقة، لكن هذا بعيد، وهم لا يعرفون أن هذا من بني إسرائيل في الغالب، ومن أراد أن يجادل فإنه لا يعجز أن يقول: إن قولها: لَا تَقْتُلُوهُ دل على أنهم أرادوا قتله لكونهم عرفوا أنه من بني إسرائيل، يعني لو أنه من القبط عندهم فلماذا يقتلون هذا الرضيع الصغير حديث الولادة؟ على خلاف بين المفسرين في وقت إلقائه، والظاهر أنه حديث الولادة ولا داعي للتكلف في هذا.
وقوله: لَا تَقْتُلُوهُ دل على أنهم أرادوا قتله، فكأنها تقول لهم: عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يعني: وأن قومه وأهله من الإسرائيليين لا يشعرون، فالذين قالوا بهذا القول ما رأيت أحدًا منهم علل بهذا التعليل وهو قولها: لَا تَقْتُلُوهُ وأنه يشعر بأنهم عرفوا أنه من بني إسرائيل، والعلم عند الله ، ولكن عامة المفسرين أن ذلك من كلام الله فيكون من قبيل الموصول لفظًا المفصول معنى، فالكلام متصل في ظاهره ولكنه لمتكلميْن، لقائليْن فالأول من كلامها، والثاني من كلام الله ، أكثر أهل العلم يقولون بهذا، والله أعلم.
قال الله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُم ْوَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة القصص:10-13].
يقول تعالى مخبرًا عن فؤاد أم موسى، حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغًا، أي: من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، وأبو عبيدة، والضحاك، والحسن البصري، وقتادة، وغيرهم.
الذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم وهو الظاهر -والله أعلم- أن فَارِغًا أي: من كل شيء إلا ذكر موسى -عليه الصلاة والسلام، يعني سيطر على اهتمامها، وشغل قلبها عن كل شيء، أذهلها، وبعض أهل العلم يقول: فَارِغًا يعني: فارغا من الهم والحزن؛ لأن الله وعدها أنه سيرجع، فهي مطمئنة عكس المعنى السابق، المعنى الأول أنها لم تتمالك كادت أن تُعلم وتبدي وتخبر أن هذا الذي ألقي في اليم هو ولدها، المعنى الآخر عكس هذا.
وبعضهم يقول: فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أصبح فارغا بمعنى أنها كادت أن تخبر بالبشارة، والإيحاء الذي حصل أو الوحي الذي وقع لها، كادت أن تتحدث أنه أُوحي إليها أن تفعل كذا وكذا.
والأقرب -والله تعالى أعلم- هو الأول الذي عليه عامة المفسرين، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وطبيعة الأم تقتضي هذا فمع الإيحاء إليها والتطمين ومع ذلك صار قلبها بهذه المثابة، وهذا يدلنا على خطأ ما يذكره بعض من يكتب في علوم القرآن إذ يمثل على الوحي فيجعل هذا مثالا على الوحي الفطري، والوحي الفطري هو الوحي الغريزي، يعني: مثل الوحي إلى النحل، وليس مقتضى الفطرة أن المرأة تلقي ولدها في اليم، فهو عكس الفطرة في مجاري العادات، ولكن لما كان بوحي من الله أُمرت بهذا ففعلت، حيث قصدت الخوف ليحصل له الأمن.
وبعضهم يقول: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي: بالوحي الذي أوحي إليها، تقول أوحي إلى كذا وكذا، والأول أقرب لَتُبْدِي بِهِ أي: بموسى -عليه الصلاة والسلام.
قد يحتمل من هذا -والله أعلم- أنها بمجرد الإلقاء قالت لأختها: قُصِّيهِ يعني: تتبع هذا التابوت من بُعد وتنظر إلى أين يصير، من سيلتقف هذا التابوت؛ لتعرف موقعه مع أن الله وعدها بأنه يرجع إليها، وقد يكون ذلك بعد الإلقاء، يعني بعد الإلقاء ذهب به الماء فقالت: لأخْتِهِ قُصِّيهِ تتبعي أثره وابحثي عنه، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ يعني بعد ذلك أبصرت موسى -عليه الصلاة والسلام- مع القوابل.
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ، قال ابن عباس: عن جانب.
وقال مجاهد: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ عن بُعد.
وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده.
هذه المعاني متقاربة فقوله هنا: "عن جانب" بمعنى أنها لم تأتِ إليه مباشرة وتقف عليه، وكأنها تقصده، وإنما عن جانب وكأنها تريد أمرًا آخر، وكأن ذلك وقع لها عرضًا من غير أن تلقي له اهتمامًا؛ لئلا تلفت أنظارهم، وهكذا قول من قال: "عن بعد"، يعني هذا مثل قول من قال: عن جانب وإن كان المعنى يختلف قليلًا لكنه يرجع إليه، وهكذا قول من قال: "جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده"، والمقصود أنهم لا يشعرون بها، وباهتمامها، وابن جرير -رحمه الله- عبر بالثاني قال: عن بعد.
وذلك أنه لما استقر موسى -عليه السلام، بدار فرعون، وأحبته امرأة الملك، واستطلقته منه، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم، فلم يقبل منها ثديًا، وأبى أن يقبل شيئًا من ذلك، فخرجوا به إلى سوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته بأيديهم عرفته، ولم تُظهر ذلك ولم يشعروا بها.
قال الله تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ أي: تحريمًا قَدَريا، وذلك لكرامة الله له صيانة عن أن يرتضع غير ثدي أمه؛ ولأن الله سبحانه جعل ذلك سببًا إلى رجوعه إلى أمه، لترضعه وهي آمنة، بعدما كانت خائفة.
التحريم القدري هنا معروف يعني غير التحريم الشرعي، يعني أن الله صرفه عن ذلك فلم يقبل أن يرتضع من غير أمه وهذا تدبير الله يعني الإنسان يطمئن إلى هذا التدبير، ويعلم أن الله عليم حكيم وأنه على كل شيء قدير، لربما يتبادر إلى الذهن أن الله -تبارك وتعالى- سيخلصه منهم فيأتي من ينتشله ثم يعيده إلى أمه، أو أن الغلام سيشب ثم بعد ذلك يفر منهم إلى أهله، أو أنه سيأتيه -إذا صار يعقل- من يقول له: إن أهلك هم بنو إسرائيل مثلا قد يتبادر إلى الذهن هذا رَادُّوهُ إِلَيْكِ بطريقة من هذه الطرق، لكن أن يمنع من الرضاعة وهو صغير لا يعقل، ثم بعد ذلك يضطرون للبحث عن مرضع ولا يقبل إلا ثدي أمه، فهذا قد لا يخطر على بال أحد.
المقصود أن يثق الإنسان بتدبير الله ، والله ناصر دينه وكتابه، فالمؤمن لا يبتئس ولا ييأس حينما يرى المنافقين ينقضون عرى الإسلام عروة عروة، ويتطاولون على ثوابته وشعائره، وأعلام المسلمين الأحياء والأموات، فالله مظهر دينه وناصره، نعلم هذا يقينًا لكن هذا يتطلب المدافعة والصبر على الحق من غير تقديم تنازلات، والداعية الذي ينساق وراء أهل الباطل، ويقدم لهم التنازلات تلو التنازلات هذا يسير في ركابهم، وقد يحشره الله معهم، فالمؤمن يثبت والعاقبة للتقوى.
المرأة من الفئة المستضعفة يعني في المجتمع هناك فئة عليا، وهم القبط، وفيه فئة دونية منسفلة يستعملون في الخدمة، يقتل أولادهم يذبح الأولاد، ويستحيي النساء للخدمة والأعمال المهينة -خدم للفراعنة، فيؤتى بهذه المرأة من هذه الفئة الفقيرة المستضعفة، وتُعطَى الأموال والهدايا، والعطايا الجزيلة من أجل أن ترضع ولدها الذي كانت تتخوف عليه القتل، وألقته في اليم ثم بعد ذلك يرجع إليها في وضح النهار أمام مرأى من الجميع، ويحصل لها بسبب ذلك من ثبات القلب والمكانة الاجتماعية بين قومها وعشيرتها، وأهلها وتُدفع إليها الأموال هي لا تحتاج إلى إخفائه بل تبدي هذا وتفتخر، هذا أمر في غاية العجب، والله المستعان.
قوله: فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا، فهي تربي الآن رسولًا لم يعط الرسالة بعد، شرعًا بحمله على ما يجمل، على ما يحبه الله ويرضاه، وبكفه عما يسخطه، "وطبعًا" يعني بحمله على ما يحسن من المروءة، ومكارم الأخلاق ولا يصلح لمثل هذا ما قد يسوغ من غيره من سائر الناس، هذا سيكون رسولًا، وهذا معنى في غاية الأهمية في التربية، من أراد أن يربي أولاده ليكون هؤلاء الأولاد أئمة هدى أئمة في الخير، يربيهم وهمته تكون عالية، فإنه حتى في غير الحلال والحرام وقضايا الشرع -في أمور العادات- يحملهم على ما يجمل وما يكون من قبيل الكمالات، ويحفظ المروءة منذ نشأتهم، ونعومة أظفارهم، تربية الكبار، تربية الأشراف فإنه لا يصلح لهم ما يصلح، أو ما قد يسوء لغيرهم.
وقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: حُكْمَ الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس، وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكـُمْ [سورة البقرة:216]، وقال تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [سورة النساء:19].
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِر ْلِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [سورة القصص:14-17].
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى آتاه الله حكمًا وعلمًا، قال مجاهد: يعني النبوة وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
قوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قال: "ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى آتاه الله حكمًا وعلمًا"، لم يتفق أهل العلم على قول في معنى بلوغ الأشد، فالإمام مالك -رحمه الله- يرى أن بلوغ الأشد هو بلوغ الحلم، إذا وصل يعني إلى سن البلوغ ويستدل لذلك بقوله -تبارك وتعالى: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ [سورة النساء:6] البلوغ يعني، فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فهناك بالنسبة لليتيم يطلب فيه البلوغ بجانب حسن التصرف في المال، فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا.
ولهذا قال بعض أهل العلم: إن بلوغ الأشد ليس مجرد البلوغ المعروف، وإنما يطلب معه ما هو فوق ذلك مما يحصل به النضج، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن بلوغ الأشد أن يبلغ الرابعة والثلاثين كما يقول مجاهد وسفيان الثوري يبلغ الرابعة والثلاثين، قالوا هذا يكون حالًا من الاستواء والاكتمال.
وبعضهم يقول: يكون من الثامنة عشرة إلى الثلاثين، هذا بلوغ الأشد عندهم، والاستواء فوقه، يعني باعتبار أنه بلغ أشده واستوى؛ لأن الواو تقتضي المغايرة، فالاستواء غير بلوغ الأشد فقد يبلغ الأشد لكنه ما استوى بعد، فبلوغ الأشد عندهم من الثامنة عشرة إلى الثلاثين، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين هكذا يقول بعض أهل العلم، وبعضهم يحدد الاستواء بالأربعين، والله يقول: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة الأحقاف:15]، فيحتمل أن يكون بلوغ الأشد يحصل قبل ذلك لكنه إذا بلغ الأربعين كانت النهاية.
ولا شك أن من بلغ الأربعين يكون قد بلغ الأشد من جهة اكتمال العقل، فالكمال على مراتب، النضج العقلي ليس على مرتبة، ولهذا يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن بلوغ الأشد يكون بمعنى اكتمال العقل، والنضج العقلي يكون على قوته وشدته، وهذا يتفاوت الناس فيه بحسب نمو مداركهم العقلية، وما يحصل لهم من التجارب في الحياة، فإن العقل منه ما هو فطري، ومنه ما هو مكتسب، والناس يتفاوتون في هذا تفاوتًا كبيرًا، كما يتفاوتون في عافية أبدانهم، وفي صور أجسامهم، كذلك يتفاوتون في عقولهم.
والعقل غير الذكاء، وقد يكون الإنسان في غاية الذكاء ولكنه لا عقل له، كما أن العقل ليس هو العلم، فقد يكون الإنسان من أوعية العلم، ولكنه لا عقل له، ولا يُحسن التدبير، وليس عنده حكمة، ولا حسن نظر في الأمور، وإنما فيه شيء من الطيش والعجلة، لا يقدر الأمور بصورة صحيحة لربما يفسد أكثر مما يصلح إذا كان ليس له حكمة ولا رزانة ولا عقل، ولهذا يقول ابن جرير -رحمه الله: إن بلوغ الأشد يعني حينما يكون في حال من الاشتداد، واكتمال الخلق، والنمو يعني شدة البدن واكتمال النمو عند هذا الإنسان، شدة البدن، وانتهاء القوى وإن الاستواء يكون بلوغ النهاية في ذلك.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ولا يبعد -والله تعالى أعلم- أن بلوغ الأشد يشمل هذا وهذا، فإن الاكتمال الذي يحصل للإنسان يعني النمو البدني، فالحد الذي يقرره الأطباء مثلا بالنسبة للعظام، البنت يقولون: إنها إذا وصلت للسابعة عشرة العظام لا تنمو، وهذا يحتاج إليه فيما يتطلبه تنمية العظام من أغذية ونحو ذلك، وكذلك في العلاجات التي لربما تحتاج إلى معالجة وتتطور مع الوقت فإذا وصلت إلى هذا يعلم أنه لا يحصل نمو أكثر، والحال ستبقى على هذا، وبالنسبة للذكر يقولون: إلى الحادية والعشرين يتوقف نمو العظام هذا بالنسبة لنمو العظام، لكن بقية نمو الجسم لا شك أنه يحصل للإنسان نمو، فالذي يبلغ الحادية والعشرين لا يكون كذلك إذا بلغ الأربعين من ناحية النمو، فاكتماله يكون ببلوغ النهاية في النمو البدني إلى الأربعين.
وكذلك بالنسبة للنمو العقلي الناس يتفاوتون في سرعة هذا النمو فقد تجلس مع ابن في الثامنة عشرة وهو في عقله مثل ابن الأربعين، قد يوجد لكنها حالات نادرة أو قليلة، وقد ترى ابن العشرين أو الثلاثين كذلك لكن غاية النمو العقلي إلى الأربعين يعني لا يرجى له بعد الأربعين عقل زائد إلا ما كان من قبيل التجربة، والخبرة العقل المكتسب لكن من كان به سفه ونقص في العقل وضعف في التفكير وما إلى ذلك لا يرجى له بعد الأربعين أن يحصل له نمو عقلي، إنما تكون التجارب التي هي جزء العقل الآخر، يعني تحنكه التجارب وينتفع بذلك.
فبلوغ الأشد من أهل العلم من يقول: هو المقصود بقوله: وَاسْتَوَى بلغ الأشد، الاكتمال العقلي وهو الاستواء، وأكثر أهل العلم يفرقون بين بلوغ الأشد والاستواء يقولون: الاستواء أمر زائد على ذلك، ونحن نعلم أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إنما يبعثون إذا بلغوا الأربعين، فهذا حد الكمال -والله تعالى أعلم- ولهذا ذكره الله في قوله: إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، يعني ذهب عنه الطيش، والله أعلم.
آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فالحكم فسر بالنبوة، وفسر بالحكمة، وفسر بالفقه في الدين، وابن جرير -رحمه الله- يفسر هذا بالفقه بالدين، وهذه المعاني إذا نظرت إلى أصل المادة الحاء والكاف والميم تجد أنها ترجع إلى ذلك جميعًا، فكمال العلم والحكمة إنما هو في النبوة التي يعطيها الله من شاء من عباده، فهذا منتهى الفهم والعلم والعقل والكمال، والحكمة هي موهبة ربانية من الله لمن شاء من عباده لا يصل إليها الإنسان بتهذيب ومجاهدات وتزكيات وما إلى ذلك كما يقول الفلاسفة، إنما هي موهبة ربانية، وهي النبوة فمن قال: إنها النبوة فذلك منتهى الحكم.
وأما العلم المشار إليه -والله تعالى أعلم- فبعضهم يقول: هو الفهم، وبعضهم يقول: هو الفقه، فمن يقول: إن ذلك كان قبل النبوة فيقول: أعطاه الله حكما، يعني حكمة وفهمًا وفقهًا في الدين، وعلمًا يقول: أعطاه الله العلم بدينه ودين آبائه، فعلّمه الله ذلك أعطاه الله حكمًا وعلما.
فإن قيل: هذا قبل النبوة فهذا كما سبق، وإن قيل: بعد النبوة فيمكن أن يحمل ذلك على منتهاه، وهو النبوة، على أكمل صوره وحالاته، علمه الله بوحيه فالآيات هنا تحتمل أن يكون ذلك على ما قصه الله بهذا السياق والترتيب حتى حصل ما حصل من قتل القبطي باعتبار أن ذلك كان قبل النبوة، وأن النبوة لم تحصل له إلا بعدما رجع من مدين ففي الطريق أوحى الله إليه في الوادي المقدس طوى عند جبل الطور فحصلت له النبوة حينما أوحى الله إليه هناك، وما قبل ذلك كان قبل النبوة، فبهذا الاعتبار يحمل العلم والحكم هنا على الفقه في الدين والفهم والحكمة وما شابه ذلك.
وإذا قيل: إن النبوة حصلت له قبل أن يذهب إلى مدين، فيمكن أن يحمل هنا الحكم على النبوة -والله تعالى أعلم، والعلماء -رحمهم الله- منهم من يقول: إن النبوة حصلت له بعدما رجع في الطريق حين ناداه الله : إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [سورة طه:12، 13]، ومنهم من يقول: كانت له النبوة قبل ذلك، -والله تعالى أعلم- ولا يبعد -والعلم عند الله أنه قبل أن يذهب إلى مدين كان في شبابه قبل أن يبلغ الأربعين، وكان لا يزال في حال من التمكن لكونه تربى في قصر فرعون، يحتمل هذا -والله تعالى أعلم- ثم بعد ذلك ذهب وتزوج في مدين.
ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قَدَّر له من النبوة والتكليم: قضية قتله ذلك القبطي، الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين، فقال تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا قال ابن جُرَيج، عن عطاء الخرساني، عن ابن عباس: وذلك بين المغرب والعشاء.
وقال ابن المنْكَدر، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: كان ذلك نصف النهار، وكذلك قال سعيد بن جبير، وعِكْرمة، والسدِّي، وقتادة.
بعض العلماء يقول في قوله: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا إن موسى -عليه الصلاة والسلام- كان يعيب دين الفراعنة وآلهتهم، وإن ذلك تنامي إلى فرعون فخوفوه وخافهم فكان لا يدخل إلا في حال من التخفي والترقب والتوجس، فيدخل كما يقال في الأوقات الميتة: عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، إذا خَفّت الرِّجلُ يعني: لا يكون في الطرقات أناس في وقت راحة الناس إما في ليل وإما في وسط النهار في وقت القيلولة مثلًا وليس هناك دليل على تحديد هذا الوقت، لكن عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ، ومنهم من قال: إن ذلك وقع اتفاقًا ليس لأنه يقصد الدخول في هذا الوقت؛ فدخل في وقت كان الناس فيه قد لجئوا في بيوتهم وأخلدوا إلى راحتهم فوجد مثل هذا المشهد رجل من الإسرائيليين يتقاتل مع رجل من الفراعنة، وهؤلاء الفراعنة كانوا يستضعفون الإسرائيليين، ويحملونهم على الأعمال الشاقة المهينة التي يترفع عنها الفراعنة فكانوا يتعاملون معهم تعاملًا فيه استضعاف وابتذال وامتهان، فيحصل منهم عدوان على هؤلاء الإسرائيليين، فمنهم من يطأطئ رأسه، ويقْبل ما يحصل له من الذل والمهانة، ومنهم من ينتصر لنفسه إن استطاع، أو يحاول ذلك، فحصل هذا الشجار بين الفرعوني والإسرائيلي.
فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي: يتضاربان ويتنازعان، هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ أي: إسرائيلي، وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ أي: قبطي، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، فاستغاث الإسرائيلي بموسى ووجد موسى فرصة، وهي غفلة الناس، فعمد إلى القبطي فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ.
قال مجاهد: وكزه، أي: طعنه بجُمْع كفه.
فَوَكَزَهُيعني: طعنه بجمع كفه، فمن أهل العلم من يقول: الوكز والهز والنكز وما شابه كل ذلك يرجع إلى معنى واحد الضرب باليد مجتمعة، ومن أهل العلم ممن يُعنون بذكر الفروق، من يفرقون بين هذه الألفاظ يقولون: اللكز هو الضرب على اللَّحْي، وفيه قراءة لابن مسعود لكنها ليست متواترة بطبيعة الحال وهي {فلكزه} لكزه فعلى هذا: التفريق، وبعضهم كالأصمعي يقول: اللكز هو الضرب على الصدر ضربه على صدره، وبعضهم يقول: هو الضرب على أي موضع من الجسم كل ذلك يقال له: لكز، وأما الوكز فهو الضرب على القلب، وكزه ضربه على قلبه كما تقول: رأيته أي: ضربته على رئته، وذكروا أنه في بعض المصاحف وليس في المصحف الذي أمر عثمان بجمعه وأمر بالتزامه وقراءته: فنكزه، يعني فسر بالضرب والدفع، وبعضهم قال: اللهز هو الضرب باليدين معًا على الصدر، لهزه، وبهذا يقول أبو عبيدة ومن وافقه.
وقال قتادة: وكزه بعصا كانت معه.
فَقَضَى عَلَيْهِ أي: كان فيها حتفه فمات، قال موسى: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أي: بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة.
بعض أهل العلم يقول في قوله: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ يعني: كفر هذا الفرعوني هذا القبطي، وبعضهم يقول: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ يعني: نفس القبطي أنه من جنود الشيطان، وهذا كله بعيد، والأقرب أن المقصود أن هذا الذي وقع مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ حيث استفزه، استفز موسى -عليه الصلاة والسلام- فضرب هذا القبطي هذه الضربة التي أتت على نفسه، مما يدل على أنه ندم على هذا، وطلب المغفرة من الله ، وفي حديث الشفاعة الطويل أنهم لما يأتون إلى موسى ﷺ يعتذر بأنه قتل نفسًا لم يؤمر بقتلها، ولهذا قال بعض أهل العلم: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أي: باعتبار أنه لم يؤمر بقتله، ومن أهل العلم من يقول: إن موسى ﷺ لم يقصد قتله، وإن هذه الضربة عادة لا تقتل وإنما ضربه فكان في ذلك حتفه من غير قصد للقتل، وإنه قصد بهذا: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ كما يقول ابن جرير: إن الشيطان هو الذي استفزه لهذا وأثار مكامن الغضب في نفسه فضرب هذا الفرعوني أو القبطي.
سواء كانت المنعة أو النعمة كل ذلك حصل له إلا على قول من يقول: إنهم -كما سبق- تنامى إليهم أنه يعيب آلهتهم ودينهم فخوفوه، فخافهم فكان لا يدخل إلا على حين غفلة من أهل المدينة، بحيث إنه لم يكن له منعة بعد ذلك، لكن هذا يحتاج إلى دليل، والعلم عند الله ، وقوله هنا: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، بعضهم يقول: الباء هذه باء القسم أنه حلف بهذا، وهذا فيه نظر، بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ يعني: يحتمل أن تكون "ما" بمعنى الذي إن كانت موصولة، أي بالذي أنعمت عليّ، فيكون من قبيل الحلف بغير الله، وهذا لا يكون من موسى -عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن تكون "ما" هذه مصدرية، يعني بإنعامك عليّ.
وكثير من أهل العلم يقولون: إن هذه الباء هي باء السببية، وهذا أقرب -والله أعلم- بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أي: بسبب إنعامك عليّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين، فلا يستعمل النعمة في مساخط الله -تبارك وتعالى، مع أن بعض أهل العلم يقول: إن الكلام هنا هو من قبيل الدعاء، وليس من قبيل الخبر المجرد، يعني فلا تجعلني ظهيرًا للمجرمين، وجاء في قراءة لابن مسعود : فلا تجعلني يا رب ظهيرًا للمجرمين احتجوا بهذه القراءة؛ ولهذا بعضهم كالفراء يقول: "اللهم فلا تجعلني"، يقول: فيه مقدر محذوف بما أنعمت عليّ يا رب فلا تجعلني، أو اللهم لا تجعلني ظهيرًا للمجرمين، وأكثر أهل العلم على أن ذلك من قبيل الخبر وأنه ليس بدعاء، والله أعلم.
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [سورة القصص:18، 19].
يقول تعالى مخبرًا عن موسى ، لما قتل ذلك القبطي: إنه أصبح فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا أي: من مَعَرّة ما فعل، يَتَرَقَّبُ أي: يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر، فمر في بعض الطرق، فإذا ذاك الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر، فلما مر موسى استصرخه على الآخر.
قوله -تبارك وتعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ يحتمل أن يكون المقصود: دخل في الصباح، ويحتمل أن يكون فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ يعني صار بهذه الحال، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ومعنى يترقب: قيل: يترقب الأخبار، ويتتبع ما يقال عنه، وما يراد به، وهذا داخل في الترقب، وهو يترقب ما يأتي من أخبار، وما يقوله القبط أو الفراعنة عنه، وما يراد به، ويترقب المخاوف، يترقب في حال من الحذر أن يصل إليه شيء من المكروه، فهو متوجس خائف، يقول: فلما مر عليه موسى استصرخه الإسرائيلي مرة أخرى هو الإسرائيلي نفسه السابق.
والاستصراخ من الصراخ وهو طلب الغوث، فلان يستصرخ يعني يطلب الغوث والنجدة والإغاثة فهذا يستصرخه يطلب منه أن يغيثه وأن ينصره، وهذا يشعر أنه كان في حال من القهر والضعف، والذي يستصرخ عادة هو المجهود والمنهك، والضعيف الذي يقع عليه البطش، فهو يريد الخلاص، فجاء موسى -عليه الصلاة والسلام- ورأى هذا القبطي يبطش بهذا الإسرائيلي، والإسرائيلي يحاول أن يدفع عن نفسه، فجاء إليه موسى -عليه الصلاة والسلام؛ ليبطش به، فهذه مشاهد لا تُحتمل، يعني أمة مستضعفة بغاية الابتذال يعاملون مثل هذه المعاملة، وموسى -عليه الصلاة والسلام- أراد أن ينتصر لهذا الإسرائيلي.
هذا هو قول الجمهور: إن الذي قال: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ هو الإسرائيلي، وحجتهم في ذلك أنه لم يعلم بذلك أحد سوى هذا الإسرائيلي، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وعامة أهل العلم أن القائل هو الإسرائيلي.
ومن أهل العلم من قال: إن القائل هو القبطي، واحتجوا على ذلك بأنه ظاهر القرآن وأن السياق يدل عليه، وقالوا: هنا الآيات: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا فالقائل هو المخبَر عنه المحدَّث عنه الذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا لكن قالوا: الإسرائيلي محتمل، لكن ظاهر القرآن أن القبطي هو القائل وهذا وجيه من جهة السياق، والآية تحتمل هذا وهذا، فذاك مبناه على النظر، وهذا مبناه على السياق وظاهر القرآن، فهذه طرق في الترجيح.
ومن أهل العلم من اعتمد ظاهر القرآن، والسياق وقال: إن القائل هو القبطي علم بطريقة ما، وقد يكون هذا الإسرائيلي هو الذي قال له، وقد يكون القائل هو الإسرائيلي غلب عليه الخوف فظن أن موسى -عليه الصلاة والسلام- لما قال: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ أنه يريد أن يبطش به، وأن يؤدبه فقال: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ.
والجبار هو الذي يفتك ولا ينظر في العواقب، ولا يكترث ولا يهتم، صاحب فتك يقتل، وبعض السلف كالشعبي أخذ من هذا أن من قتل نفسين فهو جبار أي: نفسان قتلهما بغير حق، قالوا: لأنه قال: كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ قالوا: إذا أضاف إلى واحد آخر في القتل فهو جبار، وهذا ليس بلازم أنه لا يقال للإنسان جبار إلا إذا قتل نفسين فأكثر، فقد يكون جبارًا من غير قتل، قد يحصل هذا؛ ولهذا قال الزجاج: إن الجبار هو الذي لا يتواضع لأمر الله ، وكذلك أيضًا القاتل بغير حق إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.
والذين قالوا: إن القائل هو الفرعوني قالوا: هل يعقل أن الإسرائيلي باعتبار أن موسى -عليه الصلاة والسلام- نبي إذا قيل: إن هذا وقع في نبوته هل يعقل أن الإسرائيلي يقول لموسى: إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فـ"إنْ" هنا نافية يعني ما تريد إلا أن تكون جبارًا، ولا يعقل أن يخاطبه رجل من بني إسرائيل مؤمن بنبوته -عليه الصلاة والسلام- ويقول له: إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، وإن القتل هنا الذي حصل لم يكن مقصودًا أصلًا وإن موسى -عليه الصلاة والسلام- تاب، والذين يقولون: إن القائل هو الإسرائيلي، يمكن أن يقولوا: هذا كان أصلًا قبل النبوة ثم هذا الإسرائيلي الذي حصل منه هذا، كل يوم هو في مشكلة مع آخر كما قال له موسى -عليه الصلاة والسلام: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، أي: بيّن ظاهر الغواية، فمثل هذا ما يبعد أن يصدر منه مثل هذا الكلام في حال الخوف، والآية تحتمل هذا وهذا، والله تعالى أعلم.
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمـِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [سورة القصص:20].
قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ وصفه بالرُّجُولية لأنه خالف الطريق، فسلك طريقًا أقرب من طريق الذين بُعثوا وراءه، فسبق إلى موسى، فقال له: يا موسى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي: يتشاورون فيك لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ أي: من البلد إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.
يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون بأمرك هكذا فسره بعضهم كأبي عبيد القاسم بن سلام، وبعضهم يقول: يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي: يأمر بعضهم بعضًا فإن الائتمار يكون بهذا الاعتبار، يعني يأمر بعضهم بعضًا بقتلك كما يقول الأزهري والزجاج، يَأْتَمِرُونَ بِكَ والواقع أنه يرجع إلى المشاورة كما قال الله : وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [سورة الطلاق:6]، فيما يتعلق بالولد، وما يكون من مصلحته من الرضاع ونحوه وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ، تشاوروا كل واحد يأمر الآخر بمعروف بما فيه مصلحة هذا الولد، فلا إشكال، والله أعلم.
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده، برقم (2637).