بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
يقول الله تعالى:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقـِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [سورة القصص:38-42].
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعوى الإلهية لنفسه القبيحة -لعنه الله- كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [سورة الزخرف:54]، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم؛ ولهذا قال: يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، وقال تعالى إخبارا عنه: فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [سورة النازعات:23-26] يعني: أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مُصَرِّحا لهم بذلك، فأجابوه سامعين مطيعين، ولهذا انتقم الله تعالى منه، فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة، وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك فقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [سورة الشعراء:29].
وقوله: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى أي: أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين، ليتخذ له آجُرًّا لبناء الصرح -وهو القصر المنيف الرفيع- كما قال في الآية الأخرى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ [سورة غافر:36، 37]، وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يُرَ في الدنيا بناء أعلى منه، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون؛ ولهذا قال: وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ أي: في قوله إن ثَمَّ ربًّا غيري، لا أنه كذبه في أن الله أرسله؛ لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع، فإنه قال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:23]، وقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، وقال: يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي وهذا قول ابن جرير.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: يعني أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد على الطين، يعني أن يتخذ له الآجُر وهو الطين المطبوخ بالنار، قال: لبناء الصرح وهو القصر المنيف الرفيع العالي هذا هو المشهور من أقوال المفسرين: أن الصرح هو القصر المرتفع، وابن جرير -رحمه الله- يفسر الصرح بكل بناء مسطح فهو صرح، والقصر من ذلك، فالقصر داخل في هذا المعنى، وتفسير ابن جرير -رحمه الله- أوسع مما ذكره كثير من أهل اللغة، والمفسرين، إلا أنه لا يخالف ما ذكر، الصرح القصر وكل بناء مسطح فهو قصر.
وقوله: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ، لَعَلِّي أَطَّلِعُ الاطلاع هنا يحتمل أن يكون بمعنى الطلوع يعني أصعد تقول: اطلَعَ بمعنى طلعَ وارتفع وصعد، تقول: اطلع إلى السطح، يعني صعد، ويأتي الإطلاع بمعنى النظر والمشاهدة، لَعَلِّي أَطَّلِعُ، تقول: طالع كذا، واطلع على كذا، اطلعت على الكتاب يعني طالعته ونظرت فيه، وتقول: اطلعت على دار فلان، يعني نظرت وما شابه فهي تأتي لهذا المعنى، ولهذا المعنى، ولذلك فإن بعض أهل العلم فسرها بالصعود لَعَلِّي أَطَّلِعُ يعني أصعد إلى إله موسى، وفسرها بعضهم كابن جرير بالنظر إلى معبود موسى-عليه الصلاة والسلام.
وبين القولين ملازمة -والله تعالى أعلم؛ وذلك أن اطلاعه إذا فسر بمعنى الصعود فهو يريد أن يرتفع من أجل أن يرى الله -تبارك وتعالى، فلو فسرت هذه بالمعنيين لم يكن ذلك بعيداً -والله تعالى أعلم، فإنها تأتي لهذا وهذا بمعناها، فهو وضع هذا البناء، أو أراد أن يقام هذا البناء الرفيع من أجل أن يصعد أن يرتفع عليه هذا هو المقصود وهذا الصعود وهذا الارتفاع من أجل النظر أن ينظر إلى رب موسى -عليه الصلاة والسلام، والعلم عند الله .
وقوله: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ أي: طغوا وتجبروا، وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا معاد ولا قيامة، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر:13، 14]، ولهذا قال هاهنا: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ أي: أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة، فلم يبق منهم أحد فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي: لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم، في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ أي: فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذُلِّ الآخرة، كما قال تعالى: أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [سورة محمد:13].
وقوله: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً أي: وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين رسله، وكما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، قال قتادة: وهذه الآية كقوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [سورة هود:99].
قوله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ قال: "أي: لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل"، ويمكن أن يكون المراد -والله تعالى أعلم: لمن اتبعهم من أهل زمانهم، فكانوا بهذه المثابة، فكما أن موسى -عليه الصلاة والسلام- كان يدعو إلى توحيد الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء يدعون إلى النار، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا قول يدل عليه ظاهر السياق -والله تعالى أعلم، وإن كان للمفسرين في هذا أقوال أخرى، لكن لعل هذا هو الأقرب إلى السياق، ويشبه ما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في معناها.
وقوله -تبارك وتعالى: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةًقال: "أي: وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسلهم كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء" كذلك يوم القيامة... إلى آخره، يعني هذا يحتمل، والمقصود بإتباعهم باللعنة في الدنيا أن الله شرع لأهل الإيمان أن يلعنوهم، أو أن الله لعنهم في الدنيا والآخرة، لعنوا في الدنيا والآخرة، مثل هذا الاستعمال وارد في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ، ويمكن أن يكون ذلك من لعن الله .
وحينما يقال: إن الله شرع لأهل الإيمان لعْنهم فإن المشروعية قدر زائد على الإباحة، فالمشروع ما طلبه الشارع إما وجوباً أو ندباً، بخلاف المباح فإنه لا يقال له: مشروع ولكن يقال: إنه جائز مثلا أو نحو ذلك، وإن كان الجواز أوسع من الإباحة، فقد يدخل فيه استعماله الأوسع الواجب والمندوب، باعتبار أنه سائغ شرعاً، فهل الله شرع لعنة فرعون لأهل الإيمان؟ وهل اللعن مشروع لنا أصلاً؟ فالنبي ﷺ يقول: (المؤمن ليس باللعان، ولا الطعان، ولا الفاحش، ولا البذيء[1]، وأخبر أن اللعانين لا يكونون شفعاء يوم القيامة، ولا شهداء -يعني على الناس.
وغاية ما يقال في اللعن: إنه أمر جائز في من يستحق ذلك على خلاف في لعن المعين، والجمهور يرون أن ذلك لا يجوز في المعين، لكن في من يسوغ لعنه على وجه العموم: الجنس، والصنف، والنوع، وما أشبه ذلك، من فعل كذا لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:44]، فلو قيل: إن ذلك كان من الله، أي أن الله لعنهم في الدنيا وفي الآخرة، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [سورة هود:99].
ولا يلزم من قوله: وَأُتْبِعُواْ، وَأَتْبَعْنَاهُمْ أن تكون لعنة بعد لعنة، ما يلزم هذا -والله أعلم، إنما يكون ذلك بمعنى مطلق الإلحاق -والله تعالى أعلم، يعني أُلحقت بهم اللعنة، أتبعهم لعنة فلا يكون ذلك بالضرورة -والله تعالى أعلم- أنه حصل لهم لعن من الله -تبارك وتعالى- في الدنيا، وأُتبعوا بلعنة أخرى من قِبل أهل الإيمان -والله أعلم.
وقوله -تبارك وتعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ هنا من المقبوح يعني المطرود المبعد، هذا هو المقبوح، وهذا قريب من معنى اللعن، وقد فسره بعضهم بالمهلكين الممقوتين، وأصل القبح معروف مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ يعني من الموصوفين بذلك، موصوفين بالقبح، والقبح هو الكراهة إن كان في الأمور المنظورة المشهودة فهو كراهة في المنظر، وإن كان في المعاني فهو ما يسوء منها، وإن كان في الكلام فهو ما يكون فاحشاً أو نحو ذلك، ما يحمل المعاني السيئة، وعلى كل حال فهؤلاء يوم القيامة من المقبوحين يعني من المبعدين من المطرودين، ولا يبعد من هذا المعنى قول من قال: إنهم من المهلكين الممقوتين فإن ذلك إما أن يكون من أسباب القبح أو من توابعه ولوازمه، فقد يفسر الشيء ببعض لوازمه، والأمر في ذلك قريب، والله تعالى أعلم.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصـَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة القصص:43]، يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم -عليه من ربه الصلاة والتسليم- من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه.
وقوله: مِنْ بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى يعني: أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين، كما قال: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [سورة الحاقة:9، 10].
ولهذا فإن بعض المفسرين يفسر قوله -تبارك وتعالى- هنا: مِنْ بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بأن القرون الأولى هي الأمم التي أهلكها الله كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وبعضهم يلحق بهم فرعون، يقول: وفرعون ويقصد بذلك ما أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- واستشهد له بهذه الآية: وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهـِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً [سورة الحاقة:9، 10]، هذا مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى فكان آخر الإهلاك المستأصل هو إهلاك فرعون، ثم بعد ذلك شُرع لهم الجهاد، فكانوا يجاهدون أعداء الله ، وكانت العقوبات حينما تنزل تنزل بصورة جزئية في الغالب، بحيث لا يكون عذاباً مستأصلاً، هذا في الغالب.
وهذا لا ينافي أن يوجد في بعض الأمة مسخ، أو خسف، ولكن لا يأخذهم بعذاب مستأصل عام، كما كان يحصل للأمم السابقة، أغرق الله الأرض ومن عليها، وهؤلاء أخذتهم الصيحة بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [سورة الحاقة:6]، وما أشبه ذلك كالرجفة، هذا مقصود من قال بهذا من أهل العلم، وبعضهم لا يذكر فرعون معهم، وكأنه فهم من قوله: مِنْ بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى يعني القرون المتقدمة قبل قرن موسى ﷺ، وفرعون من قرن موسى -عليه الصلاة والسلام- بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى.
فمن نظر إلى أن المعنى هو الهلاك المستأصل أدخل بهم فرعون، ومن لاحظ القرون الأولى يعني المتقدمة السالفة، المتقدمة على موسى -عليه الصلاة والسلام- لم يُدخل فرعون معهم، وعلى كل حال فرعون وقومه كانوا ممن أهلكهم الله بالهلاك المستأصل، وهذا يدل عليه القرآن في مواضع أخرى، أنه ما نزلت عليه التوراة حينما خاطب فرعون ودعاه إلى الإيمان وهذا معروف، وموسى ﷺ حصل له ذلك بعدُ، حينما جاء إلى الميعاد وكلمه الله في القصة المعروفة، وأن قومه عبدوا العجل، وقد مضى ذلك في سورة الأعراف.
بعض أهل العلم يقول في قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْد ِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ آتيناه الكتاب لأجل أن يتبصر به الناس، فيكون قوله: بَصَائِرَ لِلنَّاسِ مفعولاً لأجله، آتيناه الكتاب ليتبصر به الناس، وبعضهم يفسره بأن الله آتاه الكتاب حال كون الكتاب بصائر للناس، حال كونه بصائر، فيكون بصائر حال يبصرون به الحق.
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمـَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبـَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة القصص:44-47]، يقول تعالى منبهًا على برهان نبوة محمد ﷺ، حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرًا كأن سامعه شاهدٌ ورَاءٍ لما تقدم، وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك، كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [سورة آل عمران:44]، أي: ما كنت حاضرًا لذلك، ولكن الله أوحاه إليك، وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه، وما كان من إنجاء الله له، وإغراق قومه.
ثم قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [سورة هود:49]، وقال في آخر السورة: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ [سورة هود:100]، وقال هاهنا -بعدما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها، وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ يعني: ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ الوادي.
قوله -تبارك وتعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ إلى آخره يعني كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن الله قص على نبيه ﷺ خبرهم كأنك تشاهده، وهذا أمر مشاهد أنك حينما تمر على قصص الأنبياء، والأمم في القرآن كأنك تشاهدها، يأتي المشهد: نبي وما جرى له مع قومه، ثم بعد ذلك ينتقل بك إلى نبي آخر، وما جرى له مع قومه، ثم مع نبي آخر بأخبار فصْلٍ، وحقائق لا يعتريها تشكيك، وإذا قرأت في الكتب المتقدمة وجدت أقوالاً وأموراً متناقضة، وأشياء لا يمكن أن تصل معها إلى ما تطمئن إليه النفس من خبرهم؛ لكثرة المنقولات المتناقضة والمتخالفة في الشيء الواحد التي لا يمكن أن تجتمع بحال من الأحوال، فالله -تبارك وتعالى- أنعم وتفضل فجاء بهذا القرآن وتكلم به وأوحاه إلى نبيه -عليه الصلاة والسلام، فجاء بهذه الحقائق الناصعة التي لا ترى فيها اختلافاً ولا تناقضاً، وإنما هي في غاية الاتساق.
هنا قال: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ قال: يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ الوادي، وبعضهم يقول: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يعني الوادي الغربي، وبعضهم يقول: المقصود ما كنت بجانب الجبل الغربي كما يقول ابن جرير -رحمه الله: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يعني بجانب الجبل الغربي بناحيته الغربية، بهذا المكان الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- يعني عند الشجرة بشاطئ الوادي الأيمن.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- لم يتعرض لتفسير قوله: إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ومعناه أي عهدنا إليه، وحكمنا بالرسالة، وما أمره الله -تبارك وتعالى- به أمر قومه وأرشدهم إليه، والقضاء يأتي لمعان متعددة منها: الحكم والإلزام وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة الإسراء:23]، حكم وأمر ووصى، ويأتي بمعنى الفراغ من الشيء، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ [سورة البقرة:200] يعني: فرغتم من أدائها إلى غير ذلك من المعاني، فالمقصود إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ فمن نظر إلى معنى الحكم قال: أي حكمنا، إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى حكمنا وألزمنا بما شرعنا وأرسلنا، وما أمرنا به موسى ﷺ وقومه يعني حكمنا له بالرسالة، أمرناه، كلفناه، أرسلناه هذه عبارة المفسرين، فرضنا إلى موسى -عليه الصلاة والسلام- الأمر فيما ألزمناه وقومه، وعباراتهم متقاربة تدور حول هذا المعنى، وتحوم حوله، وذلك يرجع إلى شيء واحد، والله تعالى أعلم.
قوله -تبارك وتعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ يعني كأن الله أطلعك على ذلك وأعلمك به، فهذا نفي لكونه كان حاضراً، ثم قوله: وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ هذا قدر زائد على مجرد الحضور والاطِّلاع؛ لأن الإنسان قد يحضر قد يكون موجوداً، ولكنه قد لا يكون شاهداً، فنفى عنه هنا هذا وهذا، وَمَا كُنْتَ هناك، وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الذين يشهدون على هذا، فنفى حضوره ونفى الشهادة، يعني يقول: أنت لم تكن هناك، ولم تكن من الشاهدين على هذا الأمر، وهذا أبلغ في النفي، فالذي أطلع النبي ﷺ على هذه الأمور التي لم يدركها ولم يعاصرها، ولم يكن موجوداً هناك، ولم يكن ممن شهدوا -أو شاهدوا- على هذه الأمور الواقعة هو الله -تبارك وتعالى- فقال: وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا أي: وما كنت مقيماً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا حين أُخبرت عن نبيها شعيب وما قال لقومه، وما ردوا عليه.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- لا يقصد -والله أعلم- من قوله: وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ مدين التي جاء إليها موسى -عليه الصلاة والسلام، وإنما يقصد قوم شعيب وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [سورة الأعراف:85]، مع أنه قد يقول قائل: إن الأقرب إلى ظاهر السياق في قصة موسى ﷺ: وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا يعني: مدين التي ذهب إليها موسى وليس قوم شعيب -عليه الصلاة والسلام، فقص الله خبره في مدين، ثم قص خبره حينما كان في طريقه إلى مصر، وما حصل له من الوحي فبعدما ذكر ذلك قال: من أطلعك على هذه الغيوب؟ ولم تكن في مدين حينما جرى ما جرى لموسى -عليه الصلاة والسلام- من الخبر الذي قصه الله ، وما كنت أيضاً شاهداً حينما كلمه الله وأوحى إليه، هذا لعله أقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله -تبارك وتعالى: تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا يحتمل أن يكون حالاً، أو خبراً بعد خبر، تَتْلُو عَلَيْهِمْ يعني حال كونك تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، ويمكن أن يكون من قبيل الاستئناف، وإن كان الأول أقرب -والله تعالى أعلم، يعني وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ حينما جرى لموسى -عليه الصلاة والسلام- ما جرى، وحينما جاء ووجد أُمة من الناس يسقون، ثم جاءته إحداهما، وما حصل له من التزويج، تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا حال كونك تتلو عليهم آياتنا.
وإذا كانت مستأنفة يكون وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ حينما وقع ما وقع، انتهى الكلام، ثم قال: تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا يعني تتلو على قومك الآيات التي تخبر عن هذه التفاصيل والوقائع كأنهم يشاهدونها، هذا قال به الفراء، ولكن عامة أهل العلم على الأول، وكأنه هو الأقرب إلى السياق -والله تعالى أعلم، وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ أي:حال كونك تتلو عليهم آياتنا.
أو يكون خبراً وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وتكون التاء هذه هي اسم كان، وثَاوِياً هو الخبر الأول، وتَتْلُو هو الخبر الثاني، فتكون التلاوة على أهل مدين، تتلو على أهل مدين، ما كنت هناك وتتلو عليهم آياتنا، وعلى قول الفراء: إنها مستأنفة تكون التلاوة على قومه: ها أنت تتلو عليهم آياتنا، مع أنك لم تحضر ولم تشهد ذلك كله، والأول -والله تعالى أعلم- أقرب إلى السياق.
قوله -تبارك وتعالى: وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يعني: بعد هذه الأمم التي أرسل الله إليها الرسل -عليهم الصلاة والسلام، فتطاول الزمان على أمم لم يكن لهم عهد بالرسالة، فتنوسي ذلك العهد، فبعث الله محمداً ﷺ؛ ليجدد عهد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وعهد الرسالات، والوحي، فجاء بهذه الحقائق الناصعة التي يقص الله بها خبر الأولين، وما جرى للمكذبين وغيرهم فكان ذلك رحمة من الله -تبارك وتعالى- بهم.
يقول الحافظ ابن كثير: ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين، يعني تطاول عليهم العمر، وبعضهم يقول: إن ذلك يدل على أن الله -تبارك وتعالى- قد عهد إلى موسى في محمد -عليهما الصلاة والسلام- يعني عهوداً في الإيمان به، ومع طول العهد تنوسي ذلك، ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- هو الأول وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ بمعنى تنُوسيت الرسالات واندرست، لاسيما العرب الذين بعُد عهدهم بالرسالة، فكانت الفترة التي بعث الله بها رسوله ﷺ على فترة من الرسل.
هناك وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ يعني بالرسالة، هذا حينما جاء من مدين، وهنا قال: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا والنداء معروف، بعضهم فسره بأن ذلك كان في المقام الآخر لما واعده ربه -تبارك وتعالى- وناداه وكلمه مع السبعين وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [سورة الأعراف:155]، فقالوا: المقصود بالنداء هنا عند الطور مع السبعين الذين اختارهم موسى -عليه الصلاة والسلام- من خيار قومه، وهذا يمكن أن يُتعرف على المراد به من خلال النظر في الآيات التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله، يعني مما يتصل بهذا -والله تعالى أعلم.
يقول هنا: كما قال تعالى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [سورة الشعراء:10]، يعني أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فهذا نداء، وعبر بالنداء، وهذا حينما أرسله إلى فرعون حينما كان في طريقه من مدين، فإن التوراة إنما نزلت بعد إهلاك فرعون، وبعدما جاوزوا البحر وغرق فرعون وحصل ما حصل، وحين فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف:138] إلى آخره، ثم بعد ذلك تركهم، فعبدوا العجل، فهنا إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ، وقال تعالى: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [سورة النازعات:16]، قال له: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [سورة النازعات:17]، فكان هذا في المرة الأولى حينما جاء من مدين، فكل ذلك عبر عنه بالنداء، وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [سورة مريم:52] فهذا يحتمل.
فلو نظر في الأغلب في القرآن، والاستعمال مما صرح به من نداء، فيمكن أن يفسر به قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا، يعني: حينما قال الله له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسـْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [سورة طه:12-14] إلى آخر ما ذكر الله فهذا هو النداء المقصود -والله أعلم- بهذه الآية، فهناك ذكر الرسالة، إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ أي: حكمنا له بالإرسال، وكلفناه وألزمناه، وهنا ذكر النداء، ولا إشكال في هذا فهناك بالإرسال، وهنا في ذكر النداء.
قوله: وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني: أرسلك وأوحاه إليك وأعلمك به رحمة من ربك، هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو الذي عليه المحققون كابن جرير -رحمه الله- ونحوه.
قوله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا قال: أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة ولينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم فيحتجوا بأنهم لم يأتيهم رسول ولا نذير، وبعضهم يقول: إن جواب لولا: لعاجلناهم بالعقوبة، يعني وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ لعاجلناهم بالعقوبة لولا أنهم سيحتجون ويعتذرون بهذه المعاذير: هلا أرسلت؛ لأن لولا الأولى تدل على الامتناع، والثانية تدل على التحضيض، لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا يعني هلا أرسلت إلينا رسولا، والله تعالى أعلم.
فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلآ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىَ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنّا بِكُلّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللّهِ هُوَ أَهْدَىَ مِنْهُمَا أَتّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ [سورة القصص:48-51].
يقول تعالى مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول: إنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد ﷺ، قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى الآية، يعنون -والله أعلم- من الآيات الكثيرة مثل العصا واليد والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم وتنقيص الزروع والثمار، مما يضيق على أعداء الله، وكفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة، التي أجراها الله تعالى على يدي موسى حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه وبني إسرائيل، ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه، بل كفروا بموسى وأخيه هارون، كما قالوا لهما: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ وقال تعالى: فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ.
كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ يقول مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم، حملها على هذا المعنى العام، وأهل العلم في ذلك منهم من يقول: إن المقصود فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا يعني كفار قريش لما جاءهم محمد ﷺ قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى -عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
وبعضهم يقول: إن ذلك من قول اليهود، وكما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا فمن نظر إلى أن اليهود لم يكفروا بما أوتي موسى مثلا، أو من اعتقد ذلك قال: إن اليهود ما قالوا عن موسى -عليه الصلاة والسلام: إنه ساحر أو إن التوراة سحر، وقال: هذا في كفار قريش، في كفار العرب من المشركين هم الذين كفروا بما جاء به موسى -عليه الصلاة والسلام، ومن نظر إلى أن ذلك وقع من اليهود، وأنهم حصل منهم من الكفر والعنت مع موسى -عليه الصلاة والسلام- قال: إن هذا من قول اليهود.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: "يقول الله تعالى مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول: إنهم لما جاءهم الحق"، لكن مثل هذا الكلام الذي يقوله ابن كثير -رحمه الله- يصدق على أهل الفترة، يصدق على المشركين، لكن لا يقطع لهم بذلك؛ لأنه لو عُذب قوم من الأقوام قبل أن يأتيهم إنذار فيما عذبوا به لقالوا: رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ فقطع معاذيرهم، ولكن هذا يتوجه إلى أهل الفترة بصورة أخص، فهو بهم أعلق ويدل على أن ذلك -والله تعالى أعلم- في المشركين، فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى هذا يحتمل -والله تعالى أعلم- أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت.
وبعضهم يقول: إن اليهود هم الذين قالوا لهم هذا الكلام، قالوا لهم: طالبوه أن يأتي بمثل ما جاء به موسى -عليه الصلاة والسلام- من الآيات والخوارق كالعصا ونحوها، ولَوْلَا بمعنى هلا أوتي مثل ما أوتي موسى.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هناك قال: مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة، فجاءت العبارة عامة، ثم هنا قال: "ولهذا قال: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا أي: أوَ لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة"؟! وهو لا يقصد كل البشر؛ لأنه ما كل البشر كفروا بما جاء به، لكن وجد من البشر من كفر مع مشاهدة تلك الآيات كالعصا ونحوها أَوَلَمْ يَكْفُرُوا ما حصل الكفر من البشر مع مشاهدتهم لهذه الأشياء فهم شاهدوا الآيات من قبل سواءً ما أعطي موسى -عليه الصلاة والسلام، أو الأقوام الذين كانوا في زمن الرسل الذين جاءوا بالآيات كقوم صالح -عليه الصلاة والسلام- مثلاً، ومع ذلك حصل منهم الكفران، فهذا كلام ابن كثير -رحمه الله- عممه في الناس، في البشر، في المكذبين أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ.
فهنا الذين كفروا على كلام ابن كثير ليس هم الذين طالبوا، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ يعني هل كان الكفار من المشركين مثلا في مكة قد كفروا بما جاء به موسى؟ أو أن تلك الرسالة أصلاً لم توجه إليهم؟ فإن موسى -عليه الصلاة والسلام- ما أرسل إلى العرب، وإنما أرسل إلى بني إسرائيل، ولذلك اليهود هم من أقل أهل الديانات اليوم في الأرض؛ لأنهم لا يدْعون غيرهم، لا يتوجهون بدعوتهم إلى الناس بخلاف النصارى الذين ملئوا الأرض جنداً من جند إبليس يدعونهم إلى هذا الباطل والضلال والدين المحرف.
فاليهود لا يدْعون بل هم في خصومة وجدال اليوم في هذه العصابات التي جاءت من كل مكان: من هو اليهودي؟ جدل عندهم فيعتبرون اليهودي من كانت أمه يهودية بغض النظر عن أبيه، فيوجد أناس آباؤهم من اليهود ولكن الأمهات لسن من اليهود، فهم يجادلون هل هؤلاء يستحقون أن يوصفوا بأنهم يهود أو لا؟؛ لأنه تجمّع لهم من الأحابيش وأهل البلاد الشرقية والبلاد العربية والبلاد الغربية شراذم، فهم في جدل ولغط مَن الذي يستحق أن يكون يهودياً؟ فهم يرون أن هذا لا يستحقه العرب مثلا أو الأمم الأخرى؛ لأنهم يقولون عنهم: "جُنيم" يعني حمير اليهود، وأن الله خلقهم من أجل أن يركبهم اليهود فقط، فهم حمير في مِسلاخ إنسان؛ ليركبهم اليهود هذه عقيدة اليهود.
والنصارى جاء في كتابهم المحرف أن عيسى ﷺ قال: إنما بعثت لهداية خراف بني إسرائيل الضالة، فلو صح هذا أو على الأقل يحتج عليهم بهذا أنه مادام جاء لهداية هذه الخراف الضالة فلماذا تصدرون دعوتكم إلى الأفارقة وغيرهم من الأمم في شرق الأرض وغربها؟ وإنما جاء عيسى -عليه الصلاة والسلام- إلى بني إسرائيل كما قال الله : وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة آل عمران:49] فهو أُرسل إليهم إذاً، ومع ذلك هناك جمعيات تنصيرية ميزانيتها بالمليارات، وهناك جيوش من المنصرين من المتفرغين، وغيرهم من الأطباء وغيرهم وطائرات وأشياء هائلة تغزو العالم.
فكلام ابن كثير -رحمه الله- عام، وابن جرير -رحمه الله- يرى أن ذلك في اليهود أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى، وقد فهم بعض المعلقين على تفسير ابن جرير أو بعض مختصراته أن هذا فيه اضطراباً يعني كلام ابن جرير -رحمه الله، فهم نظروا إلى أنه قال في الأولى: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ يعني كفار قريش، وهنا قال: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قال: يعني: اليهود كيف هنا قال: قريش وهنا قال: اليهود؟
نعم هو يقول هناك فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا يعني جاء المشركين، قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا يعني الذين بعث فيهم موسى ﷺ يعني اليهود، فكلام ابن جرير -رحمه الله- غير متناقض، ولا إشكال فيه، لكن يبقى: هل هذا هو المعنى الراجح، أو أن ما ذكره بعض أهل العلم من أن المراد المشركون.
الآن من الذي كفر بما جاء به موسى وقال: سِحْرَانِ تَظَاهَرَا هل هم اليهود، هل اليهود كفروا بما جاء به موسى ﷺ؟ وإذا قلت: إنهم الذين بعث فيهم النبي ﷺ هل كانوا يكفرون بما جاء به موسى؟ كانوا يذهبون إلى اليهود ويسألونهم ويقولون: أنتم أهل كتاب، نحن أهدى أم محمد ﷺ؟ فعلى كلام ابن جرير -رحمه الله- تكون الضمائر هنا متفرقة، بعض الضمائر يرجع إلى المشركين، وبعض الضمائر يرجع إلى اليهود، وكلام ابن كثير -رحمه الله- الضمائر تكون فيه متسقة، والأصل توحيد مرجع الضمائر إذا أمكن.
فقوله: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ إذا قيل: إنهم المشركون، فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا أي: المشركون، لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا أي: المشركون، بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا أي: المشركون، سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَقَالُوا أي: المشركون، قُلْ فَأْتُوا يخاطبهم بهذا، وهكذا إذا قلت: إن الجميع في اليهود فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسـَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا يعني اليهود، بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا يعني اليهود، سِحْرَانِ تَظَاهَرَا فعلى هذين القولين تكون الضمائر متسقة متحدة في مرجعها، وكذلك ما ذكره ابن كثير أن ذلك في مَن قاله من الناس، مَن كذّب، وعلى كلام ابن جرير -رحمه الله- تكون الضمائر متفرقة، فهذه طريقة في الترجيح أنه يمكن أن يُرجَّح قول على قول بأن ذلك يجري على قاعدة اتحاد مرجع الضمائر.
لكن يبقى هل هي في اليهود أو في المشركين؟
هذا يحتمل فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ولكن انظر إلى الآيات التي قبلها ما الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- فيها؟
الله يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ... إلى أن قال: وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فـِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنت َبِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْما ًمَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ فهؤلاء لجهالتهم وبعدهم وانقطاع زمانهم عن بعث الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أرسل إليهم الله هذا الرسول رحمة منه؛ لئلا يحتجوا بأنه ما أرسل إليهم رسولا إذا وقع بهم العذاب، ثم قال هنا: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ فهو يتحدث عن هؤلاء الذين كانوا بهذه الأوصاف، لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ الذين كانوا في فترة، فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَراَ، وهذا يمكن أن يصدر من المشركين، وإن لم تكن دعوة موسى -عليه الصلاة والسلام- متوجهة إليهم، يمكن أن يقولوا عن موسى ﷺ مثل هذا، والله تعالى أعلم.
فالسياق والسباق كله يدل على أن ذلك في من بُعث فيهم النبي ﷺ لِتُنذِرَ قَوْمًا،فَلَمَّا جَاءهُمُ يعني هذه الغيوب التي أخبرناك عنها وكأنك تشاهد -ومع ذلك لم تكن حاضراً- وأتيت بها لتنذر هؤلاء القوم الذين كانوا في هذه الفترة، انقطاع عن زمن الرسالات، أو انقطاع من الرسالات فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا هذه كانت النتيجة قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى، والله أعلم.
هذا يسمونه بالاكتفاء يعني أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ ذكر موسى -عليه الصلاة والسلام- ولم يذكر هارون ؛ لأن موسى كبير أنبياء بني إسرائيل، وهارون -عليه الصلاة والسلام- كان بمثابة الوزير له مع كونه نبيا -عليه الصلاة والسلام.
قرأ الجمهور بـ (قالوا ساحران تظاهرا).
على كلام ابن جرير ما سيرة اليهود، ما علاقة اليهود والله يقول: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا يقول: في قريش، في المشركين، قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى قال: اليهود، ابن جرير يمشي على هذا أن اليهود قالوا للمشركين: قولوا له هذا، فقال الله: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُيعني اليهود، (قالوا ساحران تظاهرا) يعني موسى وهارون.
وبعضهم يقول: موسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم، وبعضهم يقول: إن اليهود قالوا ذلك في عيسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم، وإنهم لم يكفروا بموسى، وإنما قالوا: (سحران تظاهرا)، وهذا فيه بعد؛ لأن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لم يرد له ذكر هنا قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا (ساحران تظاهرا) فهذا إذا قلنا: إنه يرجع إلى اليهود قَالُوا سِحْرَانِ.
هذه قراءة متواترة وهي التي نقرأ بها، وهي قراءة الكوفيين قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا.
قوله:هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ يعني: التوراة والقرآن، وبعضهم يقول: الإنجيل والقرآن باعتبار أن اليهود قالوا ذلك، وإذا قلنا بأن السياق كله في المشركين قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا (قالوا ساحران تظاهرا) يحتمل أن يكون موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام، ويحتمل أن يكون موسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام، والأول أقرب، وأقرب ممن قال: موسى وعيسى -عليهما الصلاة والسلام، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا يعني موسى وهارون؛ لأنه كان وزيراً لموسى ﷺ، وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [سورة طه:29-32]، وتَظَاهَرَا يعني تعاونا، وهنا قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ يمكن أن يكون القرآن والإنجيل، أو التوراة والقرآن كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وابن جرير -رحمه الله- يرى أنهما التوراة والإنجيل.
هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرجح أن المراد بـقَالُوا سِحْرَانِ يعني القرآن والتوراة، وهو في الوقت نفسه يصلح أن يكون جواباً لسؤال يرِد وهو لماذا يُذكر موسى ﷺ من بين الأنبياء كثيراً في القرآن وتذكر التوراة كذلك؟ يقال: إن رسالته -عليه الصلاة والسلام- كانت من أعظم الرسالات، وكان له من الأتباع كثير، ولما رأى النبي ﷺ سواداً سأل عنهم ظن أنهم هذه الأمة فأخبر أن هؤلاء قوم موسى[2]، وموسى -عليه الصلاة والسلام- في قصة المعراج بكى وعلل هذا بأن النبي ﷺ من بعده يأتي ويكون له من الأتباع أكثر منه[3].
فالحاصل أنهما أمتان عظيمتان، بنو إسرائيل اصطفاهم الله على العالمين، وآتاهم من الآيات والبينات وأنواع الإفضال والإنعام ما قصه الله علينا في القرآن، فلما حصل منهم الكفر والتعنت ومحادة الله لعنهم، ومزقهم، إذا ذكر الخبث والخبائث توجه ذلك إلى اليهود توجهاً أولياً -نسأل الله العافية، الخبث والخبائث في البشر، والكتاب الذي أعطاه الله لموسى -عليه الصلاة والسلام- وهو التوراة شريعة موسى -عليه الصلاة والسلام- كانت من أوسع الشرائع، وكتابه كان من أشرف الكتب، فيُذكر كثيراً بالإضافة إلى أن الله -تبارك وتعالى- جعل النبي ﷺ هو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي من بعده، وقد جرى لموسى ﷺ مع قومه أشياء كثيرة جداً، فالله -تبارك وتعالى- قص هذه الأخبار على هذه الأمة؛ لتتعظ وتعتبر في أحوالها المختلفة، في حال الطمع، وفي حال الشدة، وفي حال الركون والدعة، وفي حال التكاليف الشاقة، وما أشبه ذلك، ذكر الله كل هذه التفاصيل من أجل أن يكون ذلك عبرة لهذه الأمة.
عبارة ابن كثير -رحمه الله- في قوله: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ "أي: فإن لم يجيبوك عما قلت لهم، ولم يتبعوا الحق"، دقيقة جداً، جمع فيها بين قولين مشهورين للمفسرين، وهذا من محاسن هذا التفسير، لكن الذي يقرأ هكذا من غير أن يكون عنده خلفية بما قاله المفسرون لا يتفطن لمثل هذه المواضع، والقول الأول فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي: يأتوا بكتاب أهدى منهما، إذا ما فعلوا فاعلم أنهم لا يستطيعون هذا، فهم متبعون لأهوائهم.
والمعنى الثاني فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي: يؤمنوا بك ويتبعوك بعد هذه الحجج، والبينات والدلائل الواضحات فاعلم أنما يتبعون أهواءهم يَسْتَجِيبُوا يعني الاتباع والإيمان، والأول بالإتيان بكتاب أهدى كما طولبوا بذلك قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي: فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق، فذكر القولين، وابن جرير -رحمه الله- اقتصر على أحدهما فقال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي: لم يأتوا بكتاب أهدى فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وما ذكره ابن كثير -رحمه الله- أحسن وأشمل في المعنى، والله أعلم.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [سورة القصص:50] أي: بغير حجة مأخوذة من كتاب الله، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ قال مجاهد: فصلنا لهم القول. وقال السدي: بيّنا لهم القول. وقال قتادة: يقول تعالى: أخبَرَهم كيف صنع بمن مضى، وكيف هو صانع لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قال مجاهد وغيره: وَصَّلْنَا لَهُمُ يعني: قريشاً.
قوله: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ هنا كما قال مجاهد: وَصَّلْنَا لَهُمُ يعني لقريش، وبعضهم يقول: اليهود، وبعضهم يقول: للجميع، جميع البشر من اليهود والمشركين، وسائر الطوائف، فإن بعثة النبي ﷺ كانت عامة للأحمر والأسود، وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ "يقول مجاهد: فصلنا، وقال السدي بيّنا وقال قتادة أخبَرَهم كيف صنع بمن مضى" هذا كله بمعنى واحد وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ بيناه، فصلناه، وضحناه، إلى آخره، وهذا كله يرجع إلى شيء واحد، لكن الذي قد يكون أوضح من هذا -وهو لا يخالفه لكنه أدق في التعبير- ما ذكره بعض المفسرين: وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ أي: أتبعنا بعضه بعضًا، وبعثنا رسولا بعد رسول، فيكون هذا لكل البشر، أتبعنا بعضه بعضًا بعثنا رسولا بعد رسول، تقول: وصلتُ الحبل فربطت بعضه ببعض وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ، وهناك تتابع في الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والوحي الذي ينزل عليهم لهداية الناس.
وبعضهم يقول: وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ أي: أتممنا لهم القول، وبعضهم كابن زيد يقول: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة، كأنهم يشاهدونها وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ والقول الذي تقدم أولاً، وقلت بأن هذا تفسير أدق ولا يخالف ما سبق، وكلها أقوال للسلف وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ أي: أتبعنا بعضه بعضاً، وهذا راجع للبيان، لكن ما وجد تعبير بوصلنا، هناك ارتباط وَصَّلْنَا يعني: أتبعنا بعضه بعضاً، وعلى القول الأخير هو من هذا القبيل (أتبعنا) لكن هناك قال: "بالرسالات والوحي بعث الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، تتابعوا"، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [سورة المؤمنون:44]، وهنا وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ "أي: خبر الدنيا والآخرة كأنك تشاهد الآخرة" وأنت في الدنيا، ذكر لهم في الدنيا خبر الآخرة كأنهم يشاهدونها وهم في الدنيا وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ.
ويحتمل أن يكون ذلك -والله تعالى أعلم: أن الله أبلغَ في البيان والإيضاح كل ما يحتاجون إليه، فذكر لهم أخبار الأولين وما جرى لهم في الدنيا، كما ذكر لهم خبر الآخرة وما فيها من النعيم، والعذاب، ومشاهد القيامة، وما إلى ذلك، كل هذا بينه في القرآن بمعنى أنه لم يترك شيئاً مما يحتاج إليه الناس إلا بينه، والله -تبارك وتعالى- أعلم، وابن جرير -رحمه الله- يقول: وصلنا لقومك ولليهود القول بأخبار الماضين، وما أحللنا بهم لمّا كذبوا، وما سنفعل بمن كان على شاكلتهم، وصلناهم بأخبار الأولين، وما سنفعل باللاحقين ممن كان على هذه الشاكلة، وهذه الأقوال لا تتنافى فكلها تدور حول معنى البيان والإيضاح والتفصيل، فوصلنا، فصلنا، بينا، بين لهم ما يحتاجون إليه فقص خبر الأولين، وما حل بهم، وقص فيه الغيوب المستقبلة مما يجري من أهوال القيامة والبعث والنشور، والجنة والنار، وأخبرهم كيف صنع بمن مضى، وكيف هو صانع لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يعني من أجل أن يتذكروا.
وفي قوله: "خبر الدنيا بخبر الآخرة"، يوجد في بعض كتب التفسير خير الدنيا بخير الآخرة، وهو تصحيف متكرر في بعض الكتب، وفي قوله تعالى: إِذْ نَادَيْنَا بعض المفسرين يرجح أن النداء المقصود به إِذْ نَادَيْنَا يعني نادينا هذه الأمة هناك، وأخبرهم بما لهم من رحمة وما أشبه ذلك، ويحتج ببعض الأحاديث والآثار المنقولة، ولكنه لا يصح شيء منها، وبعض المفسرين رجح هذا: أن النداء حصل هناك إِذْ نَادَيْنَا يعني نادينا هذه الأمة، ويذكر أشياء في هذا النداء جاءت في بعض تلك الآثار ولكنها لا تصح، فمبنى هذا الترجيح لدى بعض المفسرين هو تلك الآثار، فإذا كانت لا تصح فيبقى الكلام كله في ما حصل لموسى ﷺ.
- رواه أحمد في المسند برقم (3948)، وقال محققوه: إسناده صحيح.
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب وفاة موسى وذكره بعد، برقم (3229)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، برقم (220).
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3035)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات، برقم (164).